أبو جهاد وحديث «البدايات»: في التأسيس للشخصية الفلسطينية
كانت مجلة الدراسات الفلسطينية في عددها 104 خريف العام 2015 قد أعادت نشر كراس كتبه أبو جهاد (خليل الوزير)، أحد أهم مؤسسي حركة فتح، ونُشر في العام 1986 ثم سحب من التداول سريعًا، أما الكراس فقد حمل العنوان الطويل التالي: «حركة فتح: النشوء، الارتقاء، التطور، الممثل الشرعي. البدايات (1)».
ويبدو أن «البدايات (1)» هو عنوان الكراس الذي كان يفترض أن يكون حلقة أولى من سلسلة العنوان الطويل الأول، وبالفعل فقد نشرته مجلة الدراسات تحت عنوان «حركة فتح: البدايات».
بالنسبة لأبي جهاد فقد سبق ونُشرت سيرته، بما في ذلك روايته حول تأسيس حركة فتح في كتاب «أبو جهاد: أسرار بداياته وأسباب اغتياله» الذي كتبه محمد حمزة، وصدرت طبعته الأولى في العام 1989؛ أي بعد اغتيال أبي جهاد بعام واحد.
وسواه، فقد سجل عدد من قيادات فتح المؤسسين رواياتهم، في عدد من الكتب والمذكرات، منها كتاب الشهيد كمال عدوان «فتح: الميلاد والمسيرة» الذي حوى عددًا من مقالاته واللقاءات التي أجريت معه، ثم جمعت وأصدرت في كتاب في الذكرى الأولى لاستشهاده، والعنوان نفسه، هو عنوان مقابلة أجريت معه في مجلة «شؤون فلسطينية» عدد 17 عام 1973.
ومن أقدم تلك الروايات، رواية الشهيد صلاح خلف «أبو إياد»، في كتابه الشهير «فلسطيني بلا هوية»، ومن الإصدارات الحديثة، مذكرات سليم الزعنون «السيرة والمسيرة»، وكتاب فاروق القدومي «دفاتر الثورة الفلسطينية: دفاتر الفتح»، والحق أن تلك المصادر وغيرها مجتمعة، تعطي فكرة جيدة عن ظروف التأسيس، التي كانت جملة من الأحداث والشخصيات والتجمعات في عدد من الجغرافيات والبلدان، انتهت إلى «فتح»، في دلالة على ما يشبه الحتمية التاريخية، إذ عرف هؤلاء الرجال موضعهم من حركة التاريخ، وفي حالة تشبه نسبيًّا ظروف تأسيس حماس التي كانت بدورها خلاصة جهود في جغرافيات وبلدان متعددة.
صحيح أن كراس أبي جهاد العائد إلى الحياة بعد واحد وثلاثين عامًا، لا يخلو من المعلومات التفصيلية أحيانًا حول تأسيس فتح، إلا أن أهم ما فيه الشخصية التي أسفر عنها كاتبه، والتي تشبه إلى حد التطابق أدبيات فتح الأولى، والتي يبدو أنه كان صاحب الدور الأهم في صياغتها.
انحدر خليل الوزير من جماعة الإخوان المسلمين، وهو الأمر الذي لم يشر إليه في هذا الكراس، وإن كان قد أشار إليه في الرواية التي أملاها على محمد حمزة، إذ أصبح مسئول نشاطهم العسكري السري على الأساس الذي يوضحه بقوله «نحن نتدرب عندهم على السلاح، وهم يقولون إن فلسطين هي قضيتهم الأولى».
خلاف أبي جهاد مع الإخوان المسلمين في قطاع غزة، وحكاية المشروع الذي قدمه لهم لتأسيس حركة فتح، يرويها عبد الله أبو عزة، في كتابه «مع الحركة الإسلامية في الدول العربية»، وكان قد اطلع على المذكرة التي قدمها خليل الوزير للإخوان الفلسطينيين في غزة صيف العام 1957، ويدعوهم فيها لإقامة تنظيم إلى جانب تنظيمهم يعمل على تحرير فلسطين بالكفاح المسلح، على أن يتخلى كل من ينتمي إليه من الإخوان أو من غيرهم عن انتماءاتهم الحزبية وتبعياتهم للدول والأحزاب الأخرى، جاعلين ولاءهم لفلسطين وحدها.
هذا النفس الذي ينقله أبو عزة، يتطابق تمامًا مع نفس فتح في أدبياتها وبياناتها ووثائقها الأولى التي عرضها أبو جهاد في كراسه، ولكن الأبلغ أنها تشبه النفس الذي كتب فيه أبو جهاد تلك الكراسة في العام 1986؛ أي بعد ثلاثين عامًا على المذكرة التي قدمها للإخوان، وبعد ثلاثين عامًا على بعض أدبيات فتح الأولى، وبعد أن جرت مياه كثيرة أسفل الجسر الفتحاوي، وقد حصلت تطورات هائلة على الحركة وعلاقاتها العربية، وكانت قد خرجت أخيرًا من محيط فلسطين إلى المنفى البعيد في تونس.
وعلى أي حال، ومع النقد الذي قدمه أبو جهاد للقوى والأحزاب والأيديولوجيات التي كانت قائمة من بعد النكبة، وفي الظروف التي تأسست فيها فتح، فإنه لم يذكر الإخوان على وجه التحديد، وإن كان قد ذكر حركة القوميين العرب وموقفها العدواني في بادئ الأمر من فتح بعد انطلاقتها المعلنة، وكذلك الفرع الفلسطيني لحزب البعث.
هذا الرجل الذي انحدر من جماعة الإخوان المسلمين، يبدو، وبهذا التطابق نفسه ما بين العام 1957 والعام 1986، أنه من أهم الذين كرّسوا النزعة الفلسطينية واستصحبوها في مشوارهم الطويل، على النحو الذي جعل فتح بالإضافة إلى عامل النكبة وعوامل أخرى، من أهم العوامل التي استكملت صياغة الهوية الفلسطينية، ودون أن يظهر في صياغات أبي جهاد أثر لتلك البداية الإخوانية المهمة.
بل كان ثمة تطرف ملفت، وبالرغم من الزمن المتقدم حين كتابة الكراس، في تحليل أبي جهاد لأسباب المؤامرة على فلسطين، إذ جعل الهدف الأساس من تلك المؤامرة هو «تغييب الشخصية الفلسطينية وإلغاء العامل الفلسطيني من معادلة الصراع»، جاعلاً نقطة التقاطع بين كافة القوى المعادية للشعب الفلسطيني «هي منع قيام حكومة وكيان فلسطيني بأي ثمن»، وأن الخطأ المميت الذي ارتكبته القيادات الفلسطينية أثناء النكبة وبعدها كان الرضوخ للدول العربية وتأخير إعلان الكيان الفلسطيني، حيث كانت حكومة عموم فلسطين متأخرة جدًّا.
وبالإضافة إلى ذلك شنّ أبو جهاد هجومًا عنيفًا على جيش الإنقاذ، وعلى الجيوش العربية التي اتهم بعضها بالاسم بتسليم مساحات محددة من فلسطين، بالإضافة إلى حديثه عن الظروف القاسية التي فرضتها الأنظمة العربية على الفلسطينيين في مخيمات اللجوء، والاتهامات التي اختلقتها عن بيع الفلسطينيين لأرضهم ولاحقتم بها ظلمًا، مع أنها؛ أي تلك الدول والأنظمة، هي التي قامت بدور مركزي إلى جانب الاستعمار في المؤامرة على فلسطين.
وسوف نجد عبارات «مصادرة القرار الفلسطيني، الوصاية، الاستقلال، تجريد الفلسطينيين من سلاحهم، خلق الشخصية العربية الفلسطينية…» تتكرر كثيرًا في كلام أبي جهاد وفي وثائق فتح الأولى التي عرضها، والتي احتلت مساحة كبيرة من كراسه.
وعلى أي حال فإن النزعة المتطرفة التي تقرأ المؤامرة على فلسطين، فقط من بوابة الكيانية الفلسطينية، لم تكن القراءة الوحيدة السائدة في فتح، صاحبة شعار «تحرير فلسطين طريق الوحدة العربية»، ولاسيما بعدما انفتحت على حركات التحرر والثورات العالمية، وصارت تقرأ الهجمة الاستعمارية على فلسطين في سياق أوسع، ففي الكراس نفسه نص خطاب ألقاه ياسر عرفات في الصين عام 1964 يرى فيه «إسرائيل» «وتدًا استعماريًّا في قلب الأمة العربية».
ومع ذلك كله ثمة تمركز دائم حول الذات الفلسطينية، لدى مؤسسي فتح الأوائل تحديدًا، إذ كانت تتراجع هذه النزعة لدى يساريي الحركة الذين أخذوا بالتزايد بعد أحداث أيلول والخروج من الأردن، ولدى المقاتلين في صفوفها من العرب، الذين ظلوا يشكون من إقليمية الحركة، وهي الصفة التي لم تكن تراها فتح متحققة في خطابها، كما في الوثائق التي عرضها أبو جهاد، وقالت فيها فتح إن الدعوة للكيانية الفلسطينية ليست دعوة للإقليمية.
أيًّا ما كان الأمر، فإن فتح وفي بيان صدر في 28 يناير/كانون ثاني 1965، قالت إن الرصاصة الأولى «ليست مجرد رصاصة أطلقت، بل إن انعطافًا رئيسيًّا قد حدث الآن في تاريخ الشعب الفلسطيني، وفي تاريخ المنطقة العربية». وأيًّا ما كانت مآلات فتح الآن، فإن تلك الرصاصة كانت التعبير عن الخروج الفلسطيني من الاتكالية من بعد النكبة وحالة الإلحاق والوصاية التي فرضتها الدول العربية، وعن الوعي بخطأ التعويل القاتل على تلك الدول.
ذلك الأمر حتّم على الفلسطيني أن يأخذ زمام المبادرة، ويمسك سلاحه، وهو ما لم يكن ممكنًا دون تكريس الشخصية الفلسطينية، لا لمواجهة السردية الصهيونية الاستعمارية فحسب، ولكن أيضًا لتمكين الفلسطيني من تجاوز المعيقات العربية الهائلة وتفجير ثورته وقيادتها، في استجابة للحظة تاريخية أحسن أبو جهاد ورفاقه قراءتها والتقاطها وتحديد الدور على أساس اتجاهها.
والآن، وبعد هذا الزمن الطويل، ومرة أخرى ومهما كانت مآلات فتح المأساوية وانقلابها على منطلقاتها، والخطأ الكارثي الذي تمثل بتحويل الهوية الفلسطينية من ضرورة للمواجهة وتأسيس الثورة إلى البحث عن كيانية وإن على حساب التحرير، يمكن القول، وبالنظر إلى سياسات الدول العربية اليوم، التآمرية والتطبيعية والتصفوية، والتي تأتي بعد ملاحم هائلة خاضها الفلسطينيون، إن تلك اللحظة الفلسطينية كانت انعطافًا رئيسًا في تاريخ الشعب الفلسطيني والمنطقة العربية بالفعل.
فلولا تلك الانعطافة لتمكنت دول الوصاية والمؤامرة من تصفية القضية الفلسطينية نهائيًّا، ولولاها لما تمكن الفلسطينيون من إحلال مقاومة إثر أخرى، وحالة كفاحية مكان أخرى، وتصحيح المسار دائمًا، وبهذا فإن مقاومة حماس والجهاد الإسلامي اليوم تنتسب بالضرورة لتلك اللحظة التأسيسية.