مقتل أبو إبراهيم القرشي: داعش خلافة بلا خليفة
في خضم الخلاف المنهجي الأكبر الذي شق تنظيم داعش في الفترة الممتدة من 2017 إلى 2018، وبعد سلسلة من الانقلابات الداخلية العنيفة التي شهدها التنظيم، أعلن حجي عبد الله قرداش، المعروف أيضًا بـ«أبو إبراهيم القرشي/الهاشمي»، رئيس «اللجنة المفوضة» لداعش (أعلى هيئة قيادية تنفيذية)، أن كل المسائل الأيديولوجية لا تعنيه إنما يهمه فقط الحفاظ على التنظيم، قائلًا بلهجته العراقية وطريقته المعتادة: «آني ما يهمني كل هذه المسائل أني يهمني الدولة».
عبر سلسلة من العمليات التنظيمية الداخلية، أقصى أبو إبراهيم القرشي، الذي عُرف وقتها بأبي عمر قرداش التركماني، وكذلك بلقب «المدمر»، مجموعة من قادة التنظيم الأجانب/ المهاجرين، المحسوبين على ما يُعرف بتيار المناهجة/تركي البنعلي، داخل داعش وأصدر قرارًا بإلغاء الهيئات الشرعية ونقل الشرعيين إلى جبهات القتال بحجة عدم الحاجة إلى جهودهم في الوقت الذي تنحسر فيه «الدولة» وتُحاصر في جيب صغير يمتد ما بين هجين والباغوز في محافظة دير الزور السورية.
وتمكن القرشي الذي جمع بين يديه كل السلطات التنفيذية داخل تنظيم داعش- بعد اختفاء خليفته، آنذاك، أبو بكر البغدادي نتيجة الظروف الأمنية والهرب من ملاحقة التحالف الدولي له- من فرض رؤيته الصارمة على التنظيم وتصعيد القيادات المقربة منه الذين ينحدر غالبهم من أصول تركمانية داخل الهيكل القيادي التنظيمي الذي صار خاضعًا بشكل شبه كامل لسيطرة مجموعة «القراديش» (كلمة تركمانية تعني الإخوة)، بيد أن تلك السيطرة الحديدة لم تحسم الخلافات الداخلية بل فاقمت سخط تيارات داخلية مختلفة مع رؤية القيادة العليا (لا سيما من المنتمين لتيار البنعلي)، كما يقول «رفيق الزرقاوي»، المنشق عن التنظيم، في مقال سابق له بعنوان: «ذبًا ودفاعًا عن الشيخ الزرقاوي».
رجل الدولة الداعشية سقط قتيلًا في غارة لقوات التحالف الدولي على إدلب شمال سوريا في 4 فبراير/شباط الجاري، هذا ما أعلنه الرئيس الأمريكي جو بايدن.
الفجوة الجيلية داخل داعش
ورغم أن تلك السيطرة استهدفت الحفاظ على التماسك الداخلي لداعش، فإنها أدت إلى مزيد من التشظي والتفكك الداخلي، إذ انشق المئات من مقاتليه وهربوا خارج «ما تبقى من معاقل الخلافة المكانية»، وظهرت حالة انعدام الثقة بالقيادة العليا للتنظيم، كما أن تلك القيادة بدأت تستشعر أنها تعرضت للخيانة من قبل مجموعة الأمراء البارزين الذين وثقت بهم وسلمتهم تلابيب التنظيم، بحسب ما يقول محمد علي ساجت العراقي، عديل أبو بكر البغدادي، في لقاء سجله من داخل السجن.
بيد أن الخلاف الأكبر الذي تشكل داخل داعش لم يكن مجرد خلاف تقليدي وروتيني بين القيادة العليا وقواعدها التنظيمية التي دفعت الثمن الأفدح لأخطاء تلك القيادة، وإنما ظهر هذا الخلاف بين جزء من مجموعة القيادات العملياتية والوسيطة مدعومين بتيارات داعشية داخلية من الأفراد والنشطاء والقيادة العليا، واصطبغ هذا الخلاف بصبغة «الفجوة الجيلية» الناشئة عن اختلاف السياقات التي ينحدر منها مقاتلو وأمراء داعش الأقدم والأكبر سنًا، ونظرائهم الأحدث والأصغر سنًا، وكذلك اختلاف رؤاهم وتصوراتهم الذاتية.
ومع أن المنظومة الأيديولوجية التقليدية للسلفية الجهادية- مع بعض التحورات الناشئة عن تفاعلات التنظيم وخلافاته المنهجية- هي الحاكمة للإطار الفكري والعقدي العام داخل داعش، إلا أن رؤية الأجيال الأصغر والتي تُعد المكون الرئيس داخل داعش حاليًا- نتيجة عوامل عدة- تختلف عن رؤية الأجيال الأكبر من الجهاديين المخضرمين الذين انخرطوا في المسيرة الجهادية منذ تجربة الحرب الأفغانية السوفيتية أو في وقت لاحق مع الحرب الأمريكية على العراق، كما أن الاختلاف لا يقتصر على الجانب المنهجي فقط بل يتعداها إلى الممارسات والتكتيكات الحركية نفسها.
وتفاقمت هذه الفجوة، التي لم تحظ بدراسة سوسيولوجية حقيقية نتيجة التعقيدات المتعلقة بمتابعة ملف التنظيم وطبيعته السرية المغلقة، خلال الفترة التي أعقبت هزائم داعش الكبرى وسقوط معاقله الرئيسية في العراق وسوريا وليبيا، إذ تكونت حركة نقدية في إطار الأجيال الشبابية داخل داعش، وركزت تلك الحركة على نقد الممارسات والإستراتيجيات العسكرية للتنظيم، وكذلك شملت انتقاد خياراته المنهجية المثيرة للجدل في ما يتعلق بقضايا التكفير وأحكام الديار.. إلخ، كما يظهر من متابعة المقالات والتدوينات والكتيبات التي نشرها مقاتلون ومنشقون عن داعش في الفترة الممتدة من 2018، وحتى الآن.
وأسهم في تعزيز هذه الفجوة، فقدان التنظيم لجيل القيادة التاريخية (جيل الجهاد العراقي تحديدًا) بفعل الضربات المكثفة والنوعية التي نفذتها قوات المهام المشتركة (التحالف الدولي- عملية العزم الصلب) وحلفاؤه العراقيون والسوريون، والتي خلخلت بنية القيادة العليا لداعش بشكل دراماتيكي، وساعدت، عن غير قصد، في صعود جيل جديد بشكل كامل لقيادة التنظيم، أو بتعبير أبو محمد العدناني في كلمته الصوتية المعنونة بـ«قل للذين كفروا ستغلبون» والصادرة في يونيو/حزيران 2015: «راية الدولة الإسلامية اليوم بات يحملها جيل جديد بأكمله، وسوف يعقبه- بإذن الله- عليها أجيال».
وحاولت قيادة داعش التعامل مع تلك الأزمة بالطريقة المعتادة، فحافظت على آلية ثابتة في اختيار وتصعيد الأمراء على المستويات المتوسطة والعليا معتمدةً مبدأ الثقة المطلقة للتنظيم وقيادته، فضلًا عن إصدارها قرارات بعد الخوض في النقاشات المنهجية بين الأفراد المختلفين داخل التنظيم، مكتفية بتحديد إطار غائم للأيديولوجيا الجهادية المميزة لها يقوم على فكرة الجهاد الدفاعي (دفع الصائل) مع تأكيد على فكرة التكفير التي تُشكل مرتكزًا محوريًا في الإطار المنهجي للتنظيم.
وأثبتت التطورات اللاحقة أن مساعي قيادة داعش لاحتواء الفجوة الجيلية والخلافات المنهجية داخل التنظيم، لا تؤتي أكلها فخلال الأشهر القليلة التي سبقت وأعقبت سقوط الخلافة المكانية في مارس/ آذار 2019، تزايدت وتيرة الانشقاقات داخل التنظيم، وقامت 2 من المؤسسات الدعائية التي كانت محسوبة على التنظيم (مؤسسة التراث العلمي، ومؤسسة الوفاء) بنشر عشرات المقالات للمنشقين تنتقد أمراءه البارزين وتحاجج بأن داعش انحرف عن النهج الجهادي الأصيل وصار غريبًا ومختلفًا عن الإطار التنظيمي القديم بنسختيه (قاعدة بلاد الرافدين، ودولة العراق الإسلامية)، كما برزت دعوات أخرى لتشكيل جماعات جهادية جديدة ينضوي تحت لوائها المنشقون وغيرهم من الجهاديين الذين لا يرون صحة منهجي تنظيم القاعدة وداعش بنسختيهما الحاليتين، تحت شعار «جماعة على خطى الإمام المجاهد أسامة بن لادن»، كما ينص مقال سابق نشرته مؤسسة الوفاء لأحد المنشقين عن داعش الذي أطلق تحت الدعوة من خلال اسم مستعار هو «أمجاد الأمة».
تحولات الحالة الجهادية
وبمراجعة سياق وتطورات الخلافات التنظيمية داخل داعش، يتبين أن فكرة إنشاء جماعة جهادية جديدة، تعد تجسيدًا ونتيجةً طبيعيةً للخلافات والتحولات في إطار الحالة الجهادية الداعشية، التي صارت قائمة على أيديولوجيا سفك الدماء والاحتطاب، لا أيديولوجيا القتال والتكفير المقيد بمناطات شرعية محددة، وذلك نتيجة جملة من الأسباب منها ضعف التكوين الشرعي لـ«الجهاديين الجدد» وغياب الشرعيين المخضرمين داخل داعش بعد مقتل مجموعة القيادات الشرعية البارزة كأبو علي الأنباري، وأبو بكر القحطاني وتركي البنعلي وغيرهم، بجانب الضغط الذي يتعرض له مقاتلو داعش في المناطق التي ينشطون فيها وداخل السجون أيضًا وهو ما أدى إلى استجابة هؤلاء الأفراد بصورة أكثر تشددًا وتطرفًا وانعكست تلك الاستجابة على الجهود العملياتية وغيرها.
ولم يتمكن الجيل الجهادي الجديد من تعويض الخسائر القيادية والتنظيمية التي يتلقاها داعش، لا سيما وأن القيادات المنحدرة من هذا الجيل ليست بنفس الخبرة التي كانت لدى القيادات المخضرمة التي قتلت في عمليات التحالف الدولي وغيرها، كما أنها ليست كاريزمية بالقدر الكافي ولا تملك خبرة أو مسيرة جهادية طويلة تدعم موقفها أو تُؤمن لها حضورًا وصيتًا في داخل قواعد التنظيم وحواضنه الشعبية.
وظهر في السنوات التي تلت سُقوط الخلاف المكانية (2019-2022)، عدم وجود قيادات جهادية رفيعة الطراز أو تحظى بزخم في أوساط مناصري التنظيم وأتباعه، فلم يظهر أي قيادي داعشي كبير خلال تلك السنوات الثلاث في أي إصدار دعائي باستثناء أبو حمزة المهاجر القرشي، المتحدث باسم التنظيم الذي ظهر في 3 كلمات صوتية متفرقة خلال أكتوبر/تشرين الأول 2019، وأكتوبر 2020، ويونيو/حزيران 2021، وقيادي آخر في ما يُسمى ولاية العراق الداعشية، ظهر خلال إصدار مرئي للتنظيم بعنوان «فتربصوا إنا معكم متربصون»، في أكتوبر 2021.
كما تسببت حالة التآكل القيادي الحاصلة داخل التنظيم، في اتجاه المجموعة العراقية المسيطرة على قيادة داعش العليا إلى مزيد من التشدد التنظيمي في ما يتعلق باختيار الأمراء ومسؤولي الأفرع/الولايات الخارجية، فعملوا على ترسيخ سيطرة «الحجاجي العراقيين» على الفرع المركزي للتنظيم، وكذلك اختاروا عراقيين آخرين للإشراف على الأفرع الخارجية له كما حدث في حالة أسد الله المهاجر أو شهاب المهاجر، أمير فرع داعش في أفغانستان، الذي يُعتقد أنه عراقي الجنسية كما تقول تقارير لجنة الجزاءات المعنية بداعش والقاعدة والتابعة لمجلس الأمن الدولي.
معضلة الخليفة المرتقب
وعلى صعيد متصل، أسهمت حالة التآكل القيادي المذكورة في تعزيز عجز التنظيم عن القيام بعمليات الاستعاضة اللازمة حال مقتل أمرائه البارزين، فلم يعد أمام التنظيم خيارات متعددة ينتقي من بينها خليفةً جديد له، بعد مقتل أبو إبراهيم القرشي/عبد الله قرداش.
وبدا من حالة الصمت والتكتم التي لازمت تنظيم داعش، خلال الأيام الماضية، أن عملية اختيار الخليفة المرتقب مُعقدة ولا تسير بسلاسة ، إذ لم يُسارع التنظيم إلى إعلان اختيار خليفة آخر، بعكس ما حصل عقب مقتل أبو بكر البغدادي في أكتوبر 2019.
ووفقًا لمعلومات الاستخبارات العراقية وغيرها، فإن أبرز المرشحين المحتملين لخلافة قرداش هم أبو الحارث العراقي الذي يشغل عضوية اللجنة المفوضة، وبشار غزال الصميدعي المكنى بحجي زيد العراقي، إضافة لجمعة البغدادي، شقيق أبو بكر البغدادي، والذي كان عضوًا أيضًا في اللجنة المفوضة إبان إمارة شقيقه للتنظيم الإرهابي.
وفي ظل التزام منصات الدعاية الرسمية للتنظيم بحالة الصمت والتكتم المفروضة حول نبأ مقتل عبد الله قرداش، راجت تكهنات غير مؤكدة أن الخليفة القادم للتنظيم سيكون أبو الحسن الهاشمي الذي يُعتقد أنه أحد القادة التركمانيين/القراديش داخل داعش.
وبينما يُجادل المنشقون عن داعش والخبراء في ملف التنظيم الإرهابي بأن أبو الحسن الهاشمي ليس معروفًا من قبل سواء للأوساط الداخلية في التنظيم أو خارجه، يُواصل داعش اتباع ميكانزيمات مُضللة في الإعلان عن هوية أميره الجديد، كما فعل من قبل عندما اخترع كنية «أبو بكر البغدادي»، ونسبها لأبي دعاء السامرائي (إبراهيم بن عواد البدري – الاسم الحقيقي لخليفة داعش الأسبق)، وعندما اختار كنية «أبو إبراهيم الهاشمي القرشي» لعبد الله قرداش، وهو الأمر الذي كشفه وحذر منه أبو محمد المصري، القيادي الشرعي البارز بداعش، الذي يُتهم قرداش بقتله والتخلص منه إبان معركة الخلافات المنهجية الشهيرة.