أبو حنيفة النعمان مناضلاً: الإمام الذي واجه دولتين
أثار الإمام أبو حنيفة النعمان كثيرًا من الجدل في حياته، وأكثر منه بعد رحيله، وإلى اليوم، ولحظة كتابة هذه الكلمات، بعد أكثر من 13 قرنًا، لا تزالُ المعارك تُخاضُ في ساحة أبي حنيفة دفاعًا وهجومًا. وقدرة صاحب تلك الشخصية الاستثنائية على إثارة هذه الحالة من الجدل بعد مئات السنين من رحيله، وأن يكونَ المذهبُ الديني الذي ينتسب إلى مدرسته، ويحمل لقبه، هو المعتمَد لدى أكثرية المسلمين- لا سيَّما في آسيا – في زماننا المتأخر، يدلان على مدى تميُّزه وفرادَته.
إمام استثنائي
وُلِدَ أبو حنيفة عام 80 هـ، واسمه النعمانُ بن ثابت بن زوطيّ التيمي، نسبة إلى بني تيم الله بن ثعلبة، الذي كانت عائلته ذات الأصول الفارسية– على أشهر الروايات التاريخية- من مواليهم. وذكرت بعض المصادر أن جده لأبيه كان من سكان مدينة كابول عاصمة أفغانستان الحالية، أُسِر أثناء فتحها، ثم نال حريته، ووُلِد أبوه (ثابت) مسلمًا، وقيل إنه كان من أنصار الإمام علي بن أبي طالب، وقد ذكرَ هذا أحد أحفاد الإمام أبي حنيفة.
كان تاجرًا ناجحًا في بيع الحرير، حتى كان يُلقَّب أحيانًا بالخزَّاز – نسبة إلى الخز وهو الحرير – ثم ذاع صيته في طلب العلم وفي الفقه، حتى نقلت بعض المصادر التاريخية أنه قد أخذ العلم عما يقارب 4 آلاف شيخٍ وإمام من جيل التابعين، من أبرزهم شيخه الأكبر حمَّاد بن أبي سليمان، وعطاء بن أبي رباح، ونافع مولى ابن عمر، وابن مسروق، وابن شهاب الزُّهري … إلخ. وقد وصفه ابن كثير الدمشقي في موسوعته (البداية والنهاية) بأنه فقيه العراق، وأحد أبرز علماء وأعلام الإسلام.
وقد اعتبر الحافظ الذهبي في «سير أعلام النبلاء» أن أبا حنيفة قد بلغ المُنتهى في الفقه وغوامضه، لا سيَّما فقه الرأي (ويمكننا باختصارٍ شديد أن نلخص طريقة مدرسة الرأي التي يُعتبر أبو حنيفة مؤسسها التاريخي ومُنظِّرُها الأول، في الاعتماد في الفتوى والفقه على الاجتهاد العقلي المرتكز على ثوابت الشريعة، وأحكام القرآن، والتحفظ النسبي في قبول الأحاديث النبوية سوى أكيدة الصحة، والمتفقة مع ما ورد في القرآن الكريم).
وقد امتُدِح أبو حنيفة أيضًا بأنه كان لا يتحرَّج من أخذ العلم والروايات ممن هم أصغر منه سنًا. وتتلمذ عليه في حياته الآلاف من طلاب العلم. وقد امتدح يحيى بن معين– إمام علم الحديث والجرح والتعديل- أمانة أبي حنيفة وصدقه في ما رواه من أحاديث نبوية، وأشاد كثير من الأئمة اللاحقين بسعة حفظه لما وصله من الأحاديث النبوية الصحيحة، واشتهر بين الناس كذلك بحُسن ثيابه، وترحاله طلبًا لمزيد من العلم.
في الجهة الأخرى، وكما أشرنا في مقدمة المقال، نالت أبا حنيفة كثير من سهام الانتقاد في حياته، وفي القرون التالية لعصره، جمع كثيرًا منها الخطيب البغدادي في كتابه «تاريخ بغداد»، وقد تدرجَّت بين الإشارة إلى ضعفه في علوم الحديث النبوي ورواياته، وتفنيد بعض آرائه وفتاواه، إلى اتهامه بضعف الحجة والاستهانة بمقام الحديث النبوي، وصولًا إلى تجرؤ البعض ورميه بالضلال والكفر، أو التعالي العنصري عليه لكونه من الموالي غير العرب.
وقد رد الإمام في حياته على كثير من تلك الاتهامات، ودافع عنه تلاميذه، ومن تمذهبوا بمذهبه على مدار القرون، بل خلال الأسابيع الماضية شاهدنا على مواقع التواصل جدالات متجددة حول الإمام أبي حنيفة بين قادحيه، والمدافعين عنه.
اقرأ: الفقيه السياسي: ابن حزم الأندلسي كمعارض لملوك الطوائف
إمامٌ بروحِ ثائر
اعتنى الإمام أبو حنيفة باستقلال العلم، وكرامة العلماء، ولذا كان يتجنب وُسعَ طاقته دخول قصور الولاة والسلاطين وعطاياهم، وكفلت له تجارته المُربحة دخلًا جيدًا يكفيه ويفيض، فكان يُغدق من جيبِه الخاص على المئات من طلبة العلم، ويتكفَّل بالفقراء منهم كفالة تامة، حتى يغنيَهم عن السؤال كما ينقل الشيخ أبو زهرة في كتابه عن حياة الإمام أبي حنيفة.
كذلك لم يكن أبو حنيفة ضعيفَ الشخصية ينساقُ وراء التوجهات السائدة من حوله، فقد ذكر أحد معاصريه أنه قد سمعه في مجلسه في الكوفة يترحَّم على الخليفة الثالث عثمان بن عفان، ويترضى عليه، بينما كانت الأغلبية العظمى من أهل الكوفة آنذاك شيعة متعصبين، يذمون عثمان بن عفان.
لكن سجّلت المصادر التاريخية مواقف عدة لبَّى فيها أبو حنيفة طلبات من الولاة والسلاطين بالفُتيا في بعض المسائل الشائكة، وكان يجهر فيها بالحق سواء أرضى هذا صاحب السطوة أو أغضبه.
عندما اندلعت ثورة إمام آل البيت زيد بن علي بن الحسين عام 122هـ، جهر الإمام أبو حنيفة بتأييدها، كما ينقل الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه عن الإمام أبي حنيفة، وذكر أنه قد دعم تلك الثورة بعشرة آلاف درهم، لكنه لم يخرج بنفسه للقتال فيها، ولعلَّ هذا ما جنَّبه إلى حين انتقام الأمويين بعد إجهاض الثورة.
وقد اختلفت المصادر التاريخية في تعليل قعود أبي حنيفة عن القتال، فمنهم من ذكر أن الإمام لم يكن يجيد مهارات القتال والحرب، ومنهم من ذكر بأنه كان يعتقد جازمًا أن تلك الثورة ستفشل، حيث سيتخلى أهل العراق عن زيدٍ كما تخلوا من قبل عن جده الحسين بن علي، لكنه ناصرها من حيثُ المبدأ، وذكر آخرون أن ما أقعد أبا حنيفة كثرة الودائع والأمانات التي كان قد استُئمِن عليها من أهل الكوفة، فخشي أن تضيع إذا خرج للثورة وقُتِل.
ثم في عام 128هـ، في بداية خلافة آخر الخلفاء الأمويين مروان بن محمد، تعرّّض أبو حنيفة للمحنة على يد والي العراق يزيد بن عمر بن هبيرة الذي كان يستريب من ولاء الإمام للدولة الأموية، فرأى أنه لن يطمئن إلا بإجباره على تولي منصب القضاء ليكون من رجالاتها، فرفض أبو حنيفة بإصرار، فما كان من ابن هُبيْرَة إلا أن أمرَ بجلد الإمام أبي حنيفة، عشرة أسواطٍ كل يوم، علَّ إرادته تنكسر ويقبل تحت وطأة الألم ومهانة العقاب، لكن صمد أبو حنيفة حتى بلغت الأسواط مائةً وعشرة، فيئسَ منه ابن هبيرة، وأخلى سبيله، على أن يغادر الكوفة، فغادرها إلى الحجاز، ولم تمر سنوات قليلة، حتى كانت الثورة العباسية قد اكتسحت الدولة الأموية، وكنستها من كتاب التاريخ، لكن الدولة العباسية التي أنشأتها تلك الثورة، لم تختلف عن سابقتها في الاستبداد والطغيان، وسيكون للإمام أبي حنيفة منها موقف مماثل لما فعله أيام الأمويين.
في المقابل، لم تكن ثورية الإمام أبو حنيفة تدفعه للتهور وللعنترية أو إلى أن يعرض نفسَهُ للقتل دون جدوى، وكان ذكاؤه الحاد خيرَ معينٍ له في المواقف العسيرة، مثلما حدث عندما اقتحم بعضُ الخوارج التكفيريين مدينة الكوفة، وكبسوه وأصحابَه في مجلسهم في مسجدها، فواجه الإمامُ هؤلاء الخوارج الذين كانوا يكفرونه ومن معه قائلًا نحن مستجيرون بالله الذي يقول في سورة التوبة «وإن أحدُ من المشركين استجاركَ فأجِرْه حتى يسمعَ كلام الله ثم أبلغه مأمنَه»، فلم يقتله الخوارج، ونجا هو وتلامذته الحاضرون.
محنة الإمام الأخيرة
لم يكن الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور (137-158هـ) مرتاحًا لاستقلالية الإمام أبي حنيفة، ولعلَّه كان يراها انتقاصًا من سلطته وشرعيته أمام الجماهير، فأراد أبو جعفر أن يوليَهُ القضاء طوعًا وكرهًا، ليُلحقَه إلحاقًا بدولته ورجالها. لا سيَّما وقد ذاع بين الناس موالاة أبي حنيفة لثوار البيت العلوى، خصوم أبي جعفر الرئيسيين، وإن لم يخرج معهم ثائرًا بالسيف، حيث جهرَ أبو حنيفة بدعم الثورة المزدوجة عام 145هـ التي قادها محمد النفس الزكية في الحجاز، وأخوه إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي في العراق، التي قمعها المنصور، وقتل قائديْها، لكن لم يبطش المنصور مباشرة بأبي حنيفة لأنه لم يخرج بالسيف، لكنه تربَّص به بعدها.
أمر المنصور أولًا بنقل أبي حنيفة من الكوفة، إلى جواره في بغداد. وتنقل كتب السير والتواريخ مشهدًا لمجلس محتدم في قصر الخليفة، يعرض فيه المنصور على أبي حنيفة أن يكون قاضي قضاته، وحاول في البداية أن يستدرجه للموافقة بالتأكيد على أن هذا المنصب الحساس يريدُ من يخشى الله، وهو يراه أهلًا لذلك، فجادله أبو حنيفة أولًا بأنَّه لا يرى نفسه صالحًا لتلك المهمة، ثم صارحه بأنه ليس القاضي المناسب الذي يمكن أن يحكم في يومٍ من الأيام بما يُناسب هوى الخليفة، ومصالح رجاله المقربين، حتى لو هُدِّدَ بالقتل أو بالتغريق في نهر الفرات.
فلما أصر الإمام أن يرفض، أقسم المنصور أنه سيقبل، فأقسم أبو حنيفة بإصرار أنه لن يقبَل، فلما عاتبَهُ الحاضرون من حاشية المنصور على جرأته في القسم بعد قسَم الخليفة، رد عليهم بدهائه المشهور عنه أن الخليفة أغنى منه، وبالتالي فهو أقدر على دفع تكلفة كفارة اليمين. لكن لم يشفع هذا للشيخ السبعيني، إذ أمر المنصور بإلقائه في غياهب السجن. وبعد أن قضى أسابيع مريرة في السجن، أطلق سراحه، ممنوعًا من الفتوى، لكن لم يلبثْ بعدها طويلًا إذ أقعده المرض، ثم قضى نحبه. وتذكر روايات أخرى أن أبا حنيفة قد مات في السجن.
تُوفي الإمام أبو حنيفة عام 150هـ، ونقل ابن كثير الدمشقي في «البداية والنهاية» أن جنازته شهدت زحامًا كثيفًا من المشيِّعين، حتى اضطروا إلى إقامة صلاة الجنازة عليه 6 مرات. ولم يفُت أبا حنيفة أن يجعل من موضع دفنه موقفًا ثوريًا، فقد أوصى بأن يُدفنَ في جانب معين من مقابر بغداد، وألا يُدفَنَ في الجانب الآخر منها الذي كان الإمام يرى أن أرضَهُ مغصوبةً من السلطة أثناء بناء بغداد، العاصمة الإدارية الجديدة للدولة العباسية آنذاك. كما أعاد ابنه يوم وفاته 10 آلاف درهم كان الخليفة المنصور قد أعطاها لأبيه قبل سنوات لاسترضائه به، فلم يُنفقها، واعتبرها وديعة، وأوصى أبناءه بإعادتها بعد وفاته.
كيف أُهيلَ التُّراب على ثورية الإمام تاريخيًا؟!
رغم الانتشار الواسع لمذهب الإمام أبي حنيفة في العالم الإسلامي، وميل كثير من العلماء المعاصرين إلى تبني أصوله وفروعه الفقهية، والبناء عليها في استنباط كثير من المسائل المستجدّة، فإن الجزء المتعلق بأفكار الإمام الثورية، وبآرائه السياسية والعقائدية الخاصة، لم يحظَ بمعشار هذا الاشتهار والاحتفاء، ويُمكِن أن نُرجِعَ هذا إلى مخالفته لما استقرّ في المذاهب السنية لا سيّما في القرون المتأخرة من ذم الثورة والانتفاض مبدئيًا، واعتبار كل ثائرٍ ومنتفض من (أهل الفتنة) والتنظير شرعيًا بل وعقائديًا للتسليم بالأمر الواقع، ورفض مواجهة الحكام إلا باشتراطاتٍ شبه مستحيلة. وكونُ أقدم أئمة المذاهب السنية الأربعة، وأقربهم زمنًا لأجيال الصحابة والتابعين، مُنظّرًا للثورة وللتغيير السياسي، أو على الأقل قابلًا بهما، مؤيدًا لهما بما استطاع من القول والفعل والمال، يُصعّب ابتلاع الأفكار والتفسيرات السلطوية.
ولعل بداية تلك التعمية المقصودة وغير المقصودة على تراث أبي حنيفة كإمامٍ ثائر أو على الأقل كمعارضٍ للسلطة الغاشمة، كانت بعد وفاته مباشرة، إذ يذكر الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه عن الإمام أبي حنيفة، أن أبرز تلميذيْن له، وهما أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني، اللذان نقلا جُلَّ مذهبه في كتبهما، كانا مقرّبين من الدولة العباسية، وتولَّيا منصب القضاء فيها، فلم ينقلا من آراء إمامهما ما لا تريده تلك السلطة وتراه مهددًا لشرعيَّتِها.
وفي العصور المتأخرة، ورغم إفراد عديد من المؤرخين مساحة كبيرة لترجمة الإمام أبي حنيفة، فإنهم كانوا لا يطيلون الحديث في نضالاته السياسية، ويمرون عليها مرور الكرام، بينما قد يطيلون الحديث في قضايا فرعية كأسماء شيوخه أو تفاصيل نسبه، ومن نماذج ذلك ابن كثير الدمشقي في ترجمته للإمام أبي حنيفة في وفيات عام 150هـ، فقد تحدث عن محنة الإمام في العهد الأموي في بضع كلمات مدفونة في سياق الحديث عن مناقبه (…وَلَقَدْ ضَرَبَهُ ابْنُ هُبَيْرَةَ عَلَى الْقَضَاءِ فَأَبَى أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا)، ثم انتقل في حديثه إلى موضوع آخر حول أبي حنيفة، ولم يُِشِر في تلك الترجمة إلى محنته في عهد أبي جعفر المنصور ولو بشطر كلمة.