أبو بلال مرداس: خارجي عارَض الأمويين والخوارج
هناك حقيقتان عن التاريخ تزدادان رسوخًا مع الأيام، ولا يزيدهما إنكار البعض لهما إلا ثباتًا، ونحن بحاجة لاستحضار كلتا الحقيقتين في جولتنا الآن مع حياة أبي بلال مرداس بن أدية الحنظلي. وهما أن التاريخ يعيد نفسه، وأن الجانب الأكبر من التاريخ يكتبه المنتصر.
في الصراع الشديد الذي اندلع في صدر الإسلام أواخر عصر الخلافة الراشدة وامتد إلى نهاية القرن الأول الهجري، نجح الأمويون بالعصا وبالجزرة، وبالمجازر وبالسياسة، في فرض دولتهم على الأمة الإسلامية لأكثر من 90 عامًا، رغم تعدد المعسكرات المعارضة لهم من شيعة آل البيت والزبيريين والخوارج بمختلف مشاربهم ومناصري العدل والشورى من عوام المسلمين وخاصتهم.
منح هذا الانتصار الأمويين، وشرعية الأمر الواقع الذي فرضوه، أن يكتبوا جزءًا مهمًا من تاريخ تلك الفترة، وأن يلقوا بالظلال السلبية على كل من قاوموهم، فأمطروهم بتهم مُعلَّبة مطاطة مثل إثارة الفتنة، وتفريق الأمة، والانتساب إلى الخوارج الغلاة، والذين في العموم يمثلون رمزًا سلبيًا عند جماهير المسلمين منذ خروجهم ضد الإمام علي في حرب النهروان عام 37هـ، فيما يشبه تهمة الدعشنة أو الانتساب لداعش في عصرنا الحالي.
اقرأ أيضًا: تعظيم معاوية وشبهة إضفاء القداسة على الظلم.
في جولتنا التاريخية الحالية، سنمر سريعًا على حياة شخصية ثرية من القرن الأول الهجري، لم ينلْ نصيبه المُستحَق من تسليط الأضواء، دفع حياته ثمنًا لرفض الظلم والطغيان، هو أبو بلال مرداس بن حُدير الحنظلي، والذي شهدت حياته تطورًا فكريًا عميقًا، جعله ينتسب إلى مذهبٍ خاص من مذاهب الخوارج، عُرَف بالخوارج القعدة وهم القاعدون، الذين لا يخرجون بالسلاح ضد الأمة، وإن استنكروا ظلم الحكام أو كفَّروهم لجرائمهم، وكان هؤلاء عرضةً للتكفير من قبل الخوارج المتطرفين في زمنهم مثل الخوارج الأزارقة.
من الخروج بالنهروان إلى المعارضة باللسان
كان أبو بلال مرداس في نظر كثير من المتقدمين والمتأخرين من أكثر المنتسبين للخوارج اعتدالًا في تاريخ الأمة الإسلامية، وتنازع على نسبته كلُّ من الشيعة ومذاهب الخوارج المعتدلة مثل الإباضية، واحتفت المصادر السنية بورعه وتقواه وتورُّعه عن الدماء، ودعوته الدؤوبة لإقامة العدل، ورفض الظلم، رغم اعتبارهم إياه من المبتدعة لكونه من الخوارج.
اقرأ: عمران بن حطان .. تابعي ثقة انضم للخوارج
كان أبو بلال مرداس ممن حاربوا مع الإمام علي ضد معاوية في موقعة صفين عام 37هـ ، وكان من بين الآلاف ممن خرجوا ضد الإمام معترضين على رضاه بالتحكيم بينَه وبين معاوية، وحارب مع الخوارج في موقعة النهروان عام 37هـ ضد الإمام علي، لكنه كان من القلة القليلة التي نجت من الاستئصال في تلك المعركة، واعتزل بعدها، فلم يقاتل، حتى جاء عصر معاوية بن أبي سفيان عام 40هـ، فبدأ يواجه ما يراه من مظالم لكن باللسان وليس بالسيف.
وفي عام 45هـ، كان لأبي بلال مرداس موقفٌ قويٌّ عندما كلَّف معاويةُ بن أبي سفيان زيادًا بن أبيه بولاية البصرة، وكان زياد قبل سنوات من أنصار الإمام علي في حربه ضد معاوية، لكنه بعد استشهاد الإمام بايع معاوية، وأصبح من رجال دولته، وارتكب معاوية من أجله مخالفةً شرعيةً كبيرة، عندما اعترف به أخًا له، لأن أباه أبا سفيان قد زنا بسُميَّة أم زياد في الجاهلية، وسمَّاه معاوية زيادَ بن أبي سفيان.
كان لزياد خطبةٍ قوية وشهيرة في أهل البصرة في بداية ولايته، ينذرهم فيها بشدته في حفظ الاستقرار وضمان الطاعة لمعاوية، وأخذ العاطل بالباطل إن لزم الأمر كما يذكر المثل الشعبي المشهور، قال فيها:
بعد الخطبة، شرع بعض الحاضرين في تملُّق زياد، وامتداح بلاغته وقوته وحكمته، حتى أنَّ أحدهم تجاوز كل حد، وقال لزياد إنك قد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب، اقتباسًا مما امتُدِحَ به نبي الله داوود في القرآن الكريم، فهنا انبرى أبو بلال للاحتجاج على ما قاله زياد بشجاعة، ذاكرًا أنه يخالف ما جاء في القرآن الكريم من أنه لا تزِرُ وازرةٌ وزرَ أخرى.
لم يكتفِ أبو بلال مرداس باستنكار مظالم الحكام، إنما سجَّل له التاريخ رفضَ جرائم خصوم الحكام من الخوارج. في إحدى تلك الوقائع، خرج اثنان من الخوارج الغلاة في عهد معاوية، واسمهما قريب بن مرة، وزحَّاف، وقتلا أحد العُبَّاد لمخالفته إياهما في الرأي، فلما وصل هذا الخبر إلى أبي بلال، استنكر ما حدث، ودعا عليهما بالهلاك قائلًا:
كان أبو بلال مرداس يرفض ما كان يُعرَف بين الخوارج باسم (الاستعراض) وهو أن يبادر الخوارج بعقد محاكماتٍ فردية لغيرهم من المسلمين، فيسألون عن أفكارهم ومعتقداتهم، فمن وجدوه مخالفًا لهم، كفَّروه وقتلوه فورًا. كما كان يرفض استحلال الخوارج الغلاة- مثل الأزارقة- لدماء نساء وأطفال مخالفيهم من المسلمين.
وفي عام 58هـ، وقع حادثٌ مؤلم، فقد قتَلَ عبيدُ الله بن زياد واليَ الكوفة عروة بن حُدير، أخا أبي بلال، لأنه وقف في مجلسٍ عامٍ يعظُه ويستنكر عليه مظالمه واستهانته بدماء المعارضين للأمويين، مستشهدًا بقول الله تعالى في سورة الشعراء آية 128-130:
ولم يكتفِ ابن زياد بمجرد القتل، فقد أمرَ أولًا بقطع يديه ورجليه، كما أمر بقتل ابنته. وقد فتك ابن زياد على نفس هذا المنوال بالعشرات من الناس تحت لافتة مكافحة الخوارج وقمع الفتنة، ومن هؤلاء امرأة عابدة اسمها البثجاء كانت تحرض الناس ضد جرائم ابن زياد، وتدعوهم إلى مواجهة مظالمه. علم أبو بلال أن ابن زياد يطلب رأسها، فنصحَها أن تأخذ بالتقية، وتسكت إلى حين، وتختبيء نجاةً بنفسها، فرفضت حتى لا يأخذ ابن زياد أحدًا بذنبها، وبالفعل اعتقلها ابن زياد، وأمر بقطعِ يديْها ورجليْها وإلقاء جثتها في السوق لتكون عبرة، فمرّ بها أبو بلال، فبكى بكاءً شديدًا وقال:
وأخيرًا، ذاق أبو بلال نصيبه من قمع ابن زياد، فألقى به في غياهب السجن، وهناك تعاطف معه السجَّانون لشدة ورعه وعبادته، حتى أنهم كانوا ثقة في وفائه بالعهد يأذنون له أن يخرج ليلًا إلى أهله، على أن يعودَ إلى السجن صباحًا. ومن المفارقات العجيبة، أنه في إحدى تلك الليالي التي كان فيها أبو بلال خارج السجن، تسَّربت أنباء عن أن ابن زياد سيقتل بعض الخوارج المسجونين في الصباح التالي، وانتشر الخبر في البصرة، فتوقَّع السجان أن أبا بلال سيفر، ولن يعود، ليُفاجَأ به عائدًا قبل بزوغ الصباح، ذاكرًا أنه علم الخبر، لكنه لم يرد أن يكونَ جزاء إحسان السجَّان له أن يتسبَّب في قتله، فتوسَّط له السجان عند ابن زياد، وتشفَّع فيه، فاكتفى بإبقائه في السجن.
الخروج الأخير
شهد عصر يزيد بن معاوية (60هـ – 64هـ) والذي ورث الحكم بعد أبيه معاوية طوعًا وكرهًا، بعض كبريات الحوادث الفاجعة في تاريخ صدر الإسلام، وكان أشهرها استشهاد الحسين بن علي، رضي الله عنهما، ومعه العشرات من أهل بيته وبخاصة أصحابه على يد جيش والي الكوفة عبيد الله بن زياد في وقعة كربلاء في شهر المحرم من عام 61هـ، بعد أن رفضوا الاستسلام له من دونَ قيدٍ أو شرط.
اقرأ أيضًا: الحسين الذي ظلم الظالمين
وفي عام 63هـ، وقعت إحدى أبشع الجرائم في التاريخ الأموي، وهي وقعة الحرة، عندما هُزِمَت ثورة أهل المدينة ضد حكم يزيد بن معاوية، وقتل المئات منهم في معركة غير متكافئة، ثم استباح جيش الشام الأموي مدينة الرسول، عليه الصلاة والسلام، وأعملوا فيها السلب والنهب، ثم قتلوا العشرات من أسري أهل المدينة وأعيانها من أبناء وأحفاد الأنصار والمهاجرين الذين رفضوا الإذلال عندما طلب منهم مسلم بن عقبة قائد الجيش الأموى أن يبايعوا على أنهم عبيد ليزيد مقابل الحصول على العفو.
عندما وصلت أنباء تلك الجريمة الأخيرة إلى أبي بلال مرداس، وكان قد خرج لتوّه من سجن عبيد الله بن زياد، فإنه رأى أن الظلم قد فاقَ كل حد، وأنَّه لا يسعه أن يظل مقيمًا تحت سلطانٍ والٍ أمويًّ ظالم، فقال أبو بلال مرداس لأصحابه ومؤيديه:
قرَّر أبو بلال، وأربعون من بخاصة أصحابه، مغادرة البصرة، والالتجاء إلى مكانٍ بعيد عن سلطان ابن زياد في منطقة الأهواز في إيران الحالية، معلنينَ أنهم يريدون أن يعبدوا الله أحرارًا، ولن يقطعوا طريقًا، ولن يحاربوا إلا من يبدأهم بالحرب.
لم يترك ابن زياد مرداسًا وأصحابَه في مُعتَزَلهم، فأرسل إليهم جيشًا كبيرًا قوامه ألفيْ مقاتل، يقوده زُرعة بن مسلم العامري، والذي أخبر أبا بلال قبل المعركة أنه يراهُ وأصحابه على الحق، لكنه يخشى من عقوبة ابن زياد والحرمانَ من العطاء. دارت بين الجيشين غير المتكافئيْن معركةً شرسةً، كان نتيجتها صادمة، فقد حقَّق مرداس وأصحابه انتصارًا ساحقًا، وشتتوا جيشَ الألفيْ مقاتل، وعُرفَت تلك المعركة باسم موقعة آسِك، نسبة للمكان الذي وقعت فيه، وقال عنها أحد الشعراء الموالين للخوارج:
وقد وبَّخ ابن زياد قائد جيشه المهزوم لكنه لم يقتله، وظلَّ هذا القائد مثال سخرية أهل البصرة، حتى كان أطفال البصرة يتلاعبون به إذا مرَّ أمامهم قائلين: احذر أبو بلال خلفَك!
أرسل أبن زياد جيشًا أكبر قوامه 3 آلاف مقاتل للقضاء على أبي بلال ورفاقه، وطلب أبو بلال من أصحابه أن ينسحبَ منهم من شاء لأن القتال سيكون مميتًا، فثبتوا معه جميعًا، وقاتلوا بضراوةٍ حتى قُتِلوا. وتذكر بعض الروايات أنهم توقفوا للصلاة أثناء المعركة، فقتلهم جيش ابن زياد غيلة أثناءَها. وهكذا نال أبو بلال مرداس بن حدير الشهادة التي كان تمنَّاها عندما رأى جُثمان الثبجاء في سوق البصرة. وكان قائد الجيش الذي قتلَ أبا بلال هو عبَّاد بن أخضر، وقد وقع في كمينٍ لبعض المنتسبين للخوارج، فقتلوه انتقامًا لأبي بلال بعد أن أشهدوه على نفسه.
وقد رثى أحد شعراء الخوارج أبا مرداس قائلًا:
وقال فيه عمران بن حِطان، أبرز شعراء الخوارج في صدر الإسلام: