المقاطعة: سلاح الضعفاء في مواجهة جشع الرأسمالية
بعد تقاعد الكابتن «بويكوت» Boycott من الجيش البريطاني عام 1880، عمل وكيلاً لملاك الأراضي في أيرلندا، لكن الأوضاع آنذاك لم تكن على ما يرام، فقد رفع ملاك الأراضي قيمة الإيجار، فغضب المستأجرون، ورفضوا الدفع،فصدرت الأوامر حينها بأن من لا يدفع يجب طرده، وهو ما كان.
في ظل هذه الأوضاع أصبح بويكوت شخصاً مكروهاً، منبوذاً من الناس، واجه حملة مقاطعة اقتصادية واجتماعية، فقد رفض المستأجرون العمل بالأراضي، ورفضت الشركات المحلية التعامل معه، وحتى ساعي البريد لم يكن يتسلم بريده.
حاول بويكوت مواجهة الحملة بالاعتماد على عدد محدود من العمالة أو استيرادها من الخارج، إلا أن هذا الأمر كان مُكلفاً للغاية، وفي ظل تلك الحالة من الانعزال حيث لا مستأجرين ولا مزارع ولا خدمات، لم يكن أمامه بنهاية المطاف إلا المغادرة.
بالفعل غادر بويكوت إلا أن القصة لم تنته بهذه النهاية، فمنها بدأ انطلاق حملات المقاطعة حول العالم والتي اتخذت من اسمه Boycott مصطلحاً لها.
المقاطعة: نظرة في التاريخ
تدور المقاطعة بالأساس حول فكرة الامتناع الطوعي عن شراء أو استخدام أو التعامل مع شخص أو منظمة أو بلد كتعبير عن الاحتجاج، وعادةً ما تكون لأسباب اجتماعية أو سياسية. والمقاطعة الاقتصادية بهذا المنطق هي دعوة للتوقف عن شراء منتجات شركة معينة أو القيام بأعمال تجارية معها.
تحدث حملات المقاطعة الاقتصادية عادةً لأسباب عدة، فقد يختلف المستهلكون حول الأسعار أو العلامة التجارية أو المنتجات والخدمات، أو ممارسات التوظيف، وقد يكون لديهم دوافع سياسية ويرغبون في إجبار الشركة على تغيير سياساتها.
ولعل أبرز الأمثلة على هذا ما حدث في بريطانيا عام 1791، حينما استخدم الشعب مقاطعة السكر كوسيلة للضغط على البرلمان لإلغاء العبودية، فقرر المواطنون مقاطعة جميع منتجات السكر الذي ينتجه العبيد العاملون في جزر الهند الغربية، ودشنوا حملات توعية واسعة لحشد المزيد من المؤيدين لهم بعد تعريفهم طرق وأسباب المقاطعة وأهميتها.
بلغ عدد المقاطعين نحو 400 ألف شخص، وبالفعل أدت تلك الحملة إلى انخفاض المبيعات إلى أكثر من الثلث، وعلى العكس تماماً، ارتفعت مبيعات الشركات التي لا تستخدم الرقيق، مما دعا محلات بيع السكر إلى أن تضع ملصقات تضمن أن منتجاتها صنعت بواسطة «رجال أحرار»، وانتهى الأمر باندلاع الثورة الفرنسية.
وليست شرطاً أن تكون هذه الحملات موجهة من المستهلكين تجاه تجار وشركات نفس الدولة، فالتاريخ يزخر بحالات عدة قادتها دول ضد دول أخرى، وحققت نجاحاً كبيراً. ويأتي في مقدمتها دعوة الزعيم الهندي، غاندي، لمقاطعة المنتجات البريطانية؛ فقد اعتبرها الطريقة المثلى لمقاومة الاستعمار الإنجليزي للهند، وقال وقتها كلمته الشهيرة:
تفاعل معه الهنود،واتفقوا على مقاطعة أي منتجات تقوم بتصنيعها الشركات البريطانية داخل وخارج الهند، وهو الأمر الذي كبّد الاحتلال خسائر فادحة، واضطرهم للتفاوض معهم والانسحاب من بلادهم عام 1947.
تجارب ناجحة
لم تكن تجارب المقاطعة تتوقف عند هذا الحد، فالعالم يذخر بحملات المقاطعة الناجحة والتي تتنوع في أهدافها، وبينما ركزت الأمثلة السابقة على الأغراض السياسية، فهناك حملات أخرى ركزت بالأساس على أغراض اقتصادية وحاولت من خلالها مواجهة جشع التجار وخفض الأسعار:
1. مقاطعة البيض
في يومٍ ما، توجه مواطن أرجنتيني إلى السوبر ماركت ليشتري بعض احتياجاته، أخذ طبقاً من البيض، وعندما سأل البائع عن السعر وجد أن هناك زيادة به، فسأل عن أسبابها، فأجاب البائع بأن شركة الدواجن قد رفعت سعر البيض. بهدوء أخذ المواطن طبق البيض وأعاده إلى مكانه، وقال لا داعى للبيض، وقام كل المواطنين -الذين رفضوا هذا الاتفاق بين التجار وأصحاب مزارع الدواجن لزيادة السعر- بالشيء ذاته دون حملات ورسائل، لتبدأ حرب باردة بمقاطعة البيض.
نتيجة لذلك، تكدس البيض بالمتاجر، وكالعادة تأتي سيارة التوزيع الخاصة بشركة الدواجن لتقوم بتنزيل الكميات الجديدة من البيض، ولكنهم فوجئوا بأن أصحاب المحلات يرفضون إنزال أي كميات جديدة بسبب عزوف المستهلكين عنه، استمر الوضع هكذا إلى أن تكدس البيض في الثلاجات والمخازن والمستودعات دون وجود مشترين.
اضطر التجار إلى الرجوع إلى السعر الأصلي قبل الزيادة، إلا أن المستهلكين استمروا في المقاطعة لتأديبهم، وهو ما دفع التجار إلى تخفيض أسعار البيض إلى نحو 75% من سعره الأصلي، مع تقديم اعتذار رسمي في الصحف، وتعهدوا بعدم تكرار الأمر مرة أخرى.
2. مقاطعة نستله
في السبيعينات وتحديداً عام 1974 تعرضت شركة نستله لحملة مقاطعة كبيرة، عندما بدأت حملة تسويقية لبيع بدائل لبن الأم (اللبن الصناعي) إلى الدول النامية؛ حيث اتُهمت بالمساهمة في المشاكل الصحية وارتفاع معدل وفيات الرضع، كما كانت هذه البدائل ذات تكلفة مرتفعة.
نتيجة لذلك بدأ المستهلكون حول العالم بمقاطعة الشركة، وبعد 10 سنوات، أي في 1984 وافقت الشركة على تغيير ممارساتها، واضطرت لتغيير شروط المنتج الخاصة بها وخفض سعره باهظ الثمن، قبل إعادة العمل على إنتاجه من جديد عام 1988 بالشروط الجديدة.
3. مقاطعة القهوة
كانت هذه المقاطعة الأولى للمستهلكين بالأردن في منتصف التسعينيات، حيث قاطعوا القهوة بعد أن رفع التجار أسعار البن بطريقة مبالغ فيها، شكّل الحدث الأبرز حينها مشاركة رئيس الوزراء الأردني في الحملة حينما منع القهوة في مكتبه. وكانت هذه المرة الأولى التي تشارك فيها حكومة عربية في المقاطعة الاقتصادية، وانتهى الأمر بنجاح الحملة وخفض الأسعار مرة أخرى.
4. مقاطعة الدجاج والألبان
شهد عام 2012، إطلاق أكبر حملة مقاطعة في السعودية «خلوها تعفن»، من أجل مقاطعة الدجاج المحلي، للضغط على شركات الدواجن لتخفيض الأسعار، وهو ما نجحوا بالفعل في تحقيقه. ولم تكن هذه الحملة الأولى من نوعها، ففي 2011 أطلق السعوديون حملة ضد شركة المراعي احتجاجاً على رفع الشركة لأسعار منتجات الألبان، واستمر الضغط الشعبي حتى أعلنت الشركة في يوليو/تموز من العام ذاته خفض الأسعار مرة أخرى.
صحيح أنها تعاود بين الحين والآخر رفع الأسعار كما حدث عام 2012 حينما رفعت الأسعار بنسبة تتراوح بين (20-28%)، وعام 2018 حينما رفعتها بنسبة 9%، إلا أن المقاطعة الشعبية والتي تتخذ عددًا من الأوسمة على وسائل التواصل الاجتماعي من قبيل (#مستمرين_ومقاطعين_المراعي، #قاطع_المراعي_وكن_واعي، #لا_داعي_للمراعي، #استبدلها_بغيرها، #المقاطعه_سلاح_المستهلك) عادة ما تجبرها على التراجع.
ماذا عن المقاطعة في مصر؟
يبدو الواقع في مصر مختلفاً إلى حد ما، فقد اتخذ المصريون المقاطعة سلاحاً لمواجهة الغلاء في الأسعار والذي ينتاب السلع والمنتجات كل فترة. وتنوعت صدى تلك الحملات، فتارة تنجح في خفض الأسعار، وتارة أخرى لا يُكتب لها النجاح رغم تطور الحملات في بعض الأحيان إلى احتجاجات، حيث تنتهي بالفشل وتستمر الأسعار في مسارها التصاعدي دون عوائق.
وقد كانت أبرز هذه الحملات التي انتشرت مؤخراً حملة «خليها تصدي» لمحاربة جشع التجار والوكلاء واحتجاجاً على رفع أسعار السيارات رغم إلغاء الجمارك على السيارات الأوروبية. بالإضافة إلى حملة «خليها في المصنع» رفضًا لرفع أسعار السجائر، و«خليها تحمض» احتجاجاً على ارتفاع أسعار الفاكهة بشكل مبالغ فيه.
كما قد سبقها العام الماضي 2018، حملات من قبيل «بلاها لحمة» لمواجهة ارتفاع أسعار اللحوم، و«خليها تعفن» اعتراضاً على رفع أسعار الأسماك عام 2017. هذا فضلًا عن مقاطعة شركات المحمول خلال أواخر عام 2016، احتجاجاً على إضافة ضريبة القيمة المضافة على المستخدمين وزيادة أسعار كروت الشحن، إلى جانب سوء الخدمات المقدمة للمستخدمين المصريين وارتفاع أسعارها مقارنةً بالدول الأوروبية.
ورغم تعدد حملات المقاطعة هذه إلا أن أغلبها لم يحقق أهدافها المتعلقة بخفض الأسعار. فما زالت أسعار السجائر والفاكهة مرتفعة، وما زالت أسعار اللحمة مرتفعة، وبعد أن انطلقت الحملة للتنديد بوصول سعرها إلى 120 جنيهًا للكيلو، بعد أن كانت تتراوح أسعارها بين 80 و100 جنيه، نجدها تصل اليوم إلى 140 جنيهًا في المناطق الشعبية، وتزيد على ذلك في أماكن أخرى. أما مقاطعة شركات المحمول، فلم يكن مصيرها مختلفًا عن نظائرها إذ باءت بالفشل هي الأخرى.
يرجع هذا الفشل في أحد أسبابه إلى افتقاد الوعي الاستهلاكي لإنجاح ثقافة المقاطعة، فمن لديه الأموال يشترى بها ومن لا يملك لا يشتري. كما أن هذه الحملات يمكن اعتبارها حملات توعية ولا يوجد بها إرادة قوية، فهي حملات قصيرة النفس تعبر عن حالة من الضيق يواجهها المصريون.
وعلى الجانب الآخر، فالأسواق تفتقر إلى وجود ذلك الرقيب المنوط به منع أي محاولات للاستغلال ورفع الأسعار، فالدولة من جانبها لا تمارس هذا الدور على كبار التجار، وتميل في كثير من الأحيان إلى المسكنات واتخاذ بعض الإجراءات الشكلية التي تظهر بها كما لو كانت تحارب جشع التجار. وقد ظهر هذا جليًا في أزمتي البطاطس والسكر من قبل (حينما ارتفعت أسعارهما بشكل مبالغ به) ولجأت خلالها إلى القبض على صغار التجار ومتاجر الجملة، وخرجت وسائل الإعلام حينها تتحدث عن قيام الدولة بدورها الرقابي وتُلقي بالمسئولية على هؤلاء التجار الصغار.
كيف يمكن للمقاطعة أن تنجح؟
على هذا النحو، ولكي تعمل حملات المقاطعة ضد جشع السوق بفعالية، فهناك مجموعة من العوامل التي يجب الاستناد إليها، حتى تكتسب حملات المقاطعة فاعلية قوية:
1. الاهتمام الإعلامي والدعاية السلبية
وفقاًلدراسة أعدها برايدن كينج (متخصص في علم الاجتماعي السياسي)، أنه لكي تُحقق المقاطعة أهدافها قد لا تحتاج في البداية إلى التأثير على المبيعات بشكل مباشر، ولكن يجب عليها أن تعمل على التأثير على سمعة الشركة سلبياً وأن يقترن هذا بوجود اهتمام إعلامي، حيث يم تسليط الضوء على مساوئ تلك الشركات.
ويشير كينج إلى أن الشركات التي تحرص على صورتها العامة من المُرجح أن تأخذ مطالب المقاطعة على محمل الجد، بحيث تكون أكثر عرضة للتنازل وإخماد أي ضرر قد تفعله المقاطعة بسمعتها، فالمقاطعة تشكل تهديدًا أكثر خطورة لسمعتها من إيرادات مبيعاتها.
2. بدائل لمنتجات الشركات المستهدفة
يؤكد الأكاديميان إيغوروف وبارد هارستاد في دراسة حديثة لهما، أن المقاطعة تكون أكثر فعالية في الصناعات التنافسية التي لها منتجات مماثلة، ففي هذه الحالة من المرجح أن تستسلم الشركة ودون تأخير كبير، وربما ستنظم نفسها حتى قبل أن تحدث المقاطعة. وعلى العكس من ذلك، إذا كانت الصناعة غير تنافسية، فالمقاطعة لن تعمل بفعالية. وبناء على هذا، فحملات المقاطعة التي تستهدف منتجات شركة معينة، عليها أن تقترح منتجات مماثلة بسعر مماثل أو أقل.
3. أهداف قوية ومعلومات واضحة
يجب ان تكون هناك أسباب قويةً حول المقاطعة وأهدافها، ولماذا يجب أن يشارك المستهلكون بها، فلا يحتاج الناس فقط إلى معرفة أن المقاطعة مستمرة، بل يحتاجون إلى معرفة سبب وجوب دعمها. كما يتطلب هذا إتاحة المعلومات للجميع في شكل مبسط، فإذا كنت ترغب في إقناع الأشخاص يجب أن تكون المعلومات بسيطة بما يكفي بحيث لا يحتاجون إلى درجات متقدمة لفهم ما يجري.
4. سياسة العصا والجزرة
المقاطعة هي نوع من التفاوض، يرغب المستهلكون المشاركون خلاله في الحصول على إجراء معين من قبل الشركة، ولكن لكي يكون الإجراء منطقياً من وجهة نظر الشركة، يجب أن يؤدي إلى الاحتفاظ بالأرباح أو عدم خسارتها بشكل كبير.
وفي هذا الصدد يشير براندون ستيل، مدير بشركة Future 500 إلى أن حملات المقاطعة الناجحة هي التي تتخذ نهج العصا والجزرة، فمن خلاله يتفاوض المستهلكون مع الشركات عبر توفير مميزات عدة في حال الاستجابة لمطالبهم، كأن يتم الترويج للعلامة التجارية. وإذا لم يحدث ذلك فسيتم اللجوء إلى وسائل المقاطعة المختلفة وما يترتب عليها من نتائج سلبية.