امتصاصًا لغضب الناس: العفو السياسي عند الخلفاء العباسيين
رغم سياسة القوة والحزم التي اتبعها الخلفاء العباسيون مع معارضيهم، فإنهم لجأوا في بعض الأحيان إلى اللين والتسامح، وإصدار قرارات عفو ومنح الأمان لكثير من الخارجين على الخلافة، وتعددت الأهداف من وراء ذلك، وإن صبت جميعها لصالح توطيد أركان الحكم.
ونال الأمويون نصيبًا من هذا العفو السياسي، وذلك رغم حالة العداء الشديد مع العباسيين. ويذكر عصام مصطفى عقلة في كتابه «الأمويون في العصر العباسي»، أنه إذا كانت الخطوط الرئيسة للسياسة العباسية اقتضت قتل من قدر عليه العباسيون من الأمويين الذين يشكلون خطرًا على الدولة، فإن أحد خطوط هذه السياسة أيضًا كانت تقتضي تجنب قتل بعض من الأمويين، بخاصة أولئك الذين لا يشكلون خطرًا على الخلافة أو ممن لهم سابق أفعال حسنة مع بني العباس.
لذا تجنب العباسيون قتل أي أموي من بني معيط في الشام ومنحه الأمان، وذلك لسابق أفعال كريمة للمعيطين عند بني عباس، تمثلت في إكرام ذي الشامة المعيطي لمحمد بن علي بن عبدالله بن عباس وابنه موسى، اللذين اشتركا في إحدى المعارك لغزو الروم تحت قيادة ذي الشامة المعيطي، واهتمام ذي الشامة المعيطي بموسى عندما مرض، وتقديمه محمدًا بن علي للصلاة على موسى عندما توفي.
وبحسب عقلة، ترك هذا الفعل أثرًا حسنًا عند بني العباس، لهذا لم ينالوا معيطيًّا بأذى تقديرًا لما فعله ذوو الشامة المعيطي.
أمويون مستثنون من القتل
لم يكن المعيطيون الأمويون الوحيدون الذين أمنّوا في عهد الخليفة أبي السفاح العباس (132-136هـ)، فقد أمّن القائد العباسي عبدالله بن علي أثناء معركة الزاب سنة 132هـ محمدًا بن مسلمة بن عبدالملك، أحد كبار رجال الدولة الأموية، وكان صديقا لعبدالله بن علي، ولكن محمدا عندما رأى هزيمة الخليفة الأموي مروان بن محمد، نبذ أمان عبدالله، وقاتل مع بقايا جيش مروان حتى قُتل.
كما أمّن عبدالله بن علي أيضًا أبان بن يزيد بن محمد بن مروان والي حرّان، بعدما أعلن أبان ولاءه للدولة العباسية، ولبس السواد دليلًا على ولائه للعباسيين.
وأمّن عبدالله أيضًا آدم بن عبدالعزيز بن عمر بن عبدالعزيز، ولم يقتله مع من قتل بنهر أبي فُطرُس، لاتصال نسبه بعمر بن العزيز، بحسب ما ذكر عقلة.
ولم يقتصر منح العفو والأمانات العباسية على الأمويين في بلاد الشام، فقد أمّن الخليفة أبو العباس بالحيرة عبدالعزيز بن عمر بن عبدالعزيز عندما قتل الأمويين ببلاطه سنة 132هـ.
وفي بلاد الحجاز منح القائد العباسي داود بن علي سنة 132هـ الأمان لإسماعيل بن عمرو بن سعيد بن العاص، وذلك لانقطاع إسماعيل عن الناس، وخوفًا من رد فعل الفقهاء إذا قتله لما يتمتع به من مرتبة فقهية كبيرة، كما منح محمدًا والقاسم ابني عبدالله بن عمرو بن عثمان بن عفان الأمان سنة 132هـ، إثر تدخل من قبل عبدالله بن الحسن العلوي لكونهما أخويه من أمه.
تخوفات أموية
كل تلك الأمانات، بحسب عقلة، كانت ذا طابع فردي لم تنسحب على الأمويين جميعًا، وكان أمر منحها منوطًا باعتبارات يقدرها أمير الولاية العباسي، وكان الأمويون يدركون بصورة عامة ذاتية تلك الأمانات، ويتخوفون من قبولها، لذا فضلوا التواري عن الأنظار.
ومن هؤلاء عمر بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان الذي ضجر حياة التواري والمطاردة العباسية له، فقدم على سليمان بن علي أمير البصرة في الفترة ما بين 133 و136هـ لأخذ الأمان لنفسه بعدما انتهت إليه صور المعاملة التي تلقاها الأمويون في البصرة، فظفر بالأمان على نفسه وماله.
ويبدو أن مثل هذه الأمانات دفعت سليمان بن علي لأن يراسل الخليفة أبا العباس، مناشدًا إياه الكف عن مطاردة وملاحقة بني أمية ووقف عمليات تقتيلهم، وطلب منه إصدار أمان عام شامل لجميع الأمويين أينما كانوا في أرجاء الدولة، فأجابه أبو العباس إلى ما سأل، وكان ذلك أول أمان عام لبني أمية.
ويرى عقلة، أن استجابة الخليفة أبي العباس لنداء سليمان كانت نابعة من كون انتهاء العباسيين من القضاء على معظم الأمويين الذين يشكلون خطرًا على كيان الدولة العباسية. ومن ناحية أخرى فإن الدولة قد استقرّت بعد الفتك بقادة بني أمية الأقوياء أمثال ابن هبيرة وغيره.
غير أن التسامح العباسي مع بني أمية لم ينل أبناء مروان بن محمد وأحفاده القابعين في السجن، بل استمر حبسهم حتى خلافة هارون الرشيد الذي أطلق سراح من بقي منهم على قيد الحياة، أمثال أبي عثمان بن مروان، والحكم بن عبدالله بن مروان، ويعود مبرر حبسهم إلى خطورتهم على الدولة العباسية، فهم الورثة الشرعيون للدولة الأموية، لا سيما عبدالله بن مروان الذي له في أعناق المسلمين بيعة بالخلافة بعد أبيه مروان، لذا أبقوه في السجن حتى وفاته.
عفو سياسي عن قادة عسكريين
يذكر الدكتور بسمان نوري الكوان، في دراسته «العفو عند الخلفاء العباسيين في العصر العباسي الأول 132-218هـ»، أن معطم الخلفاء الذين أسسوا دولًا وممالك جديدة، مثل أبي العباس أول الخلفاء العباسيين، كانوا مُكرهين بلا شك على استخدام القوة ومعالجة الأمور بالشدة والحزم، كي تستقيم الأمور باتجاه استقرار الخلافة العباسية وتثبيت أركانها، ومع ذلك لم يهمل الخلفاء العباسيون الجانب الإنساني في تعاملهم مع الخارجين على الخلافة الذين يهددون وجودها وكيانها، لا سيما في بداية تأسيسها.
ومن أبرز صور العفو السياسي عند خلفاء بني العباس ما حدث سنة 133هـ، عندما أعلن أهل الجزيرة من بلاد العراق تمردهم ضد الخليفة أبي السفاح العباس، بقيادة إسحاق بن مسلم بن ربيعة العقيلي، فانتدب الخليفة أخاه أبا جعفر المنصور للتصدي لهذه الثورة.
ولم يكن إسحاق بن مسلم جادًا في القتال أو المواجهة العسكرية، إذ انسحب بجيشه إلى بلدة سميساط على نهر الفرات، وأقبل المنصور بجيشه وضرب الحصار المُحكم على إسحاق لمدة سبعة أشهر متواصلة، وكان إسحاق ميالًا إلى الصلح، فكتب إلى المنصور «في عنقي بيعة (يقصد لمروان بن محمد)، فأنا لا أدعها حتى أعلم أن صاحبها قد مات أو قُتل»، فكتب المنصور له أن مروان قد قُتل، فقال إسحاق إنه يريد أن يتيقن من ذلك، فلما صح عنده أن مروان قُتل طلب الأمان من أبي جعفر الذي كتب إلى أخيه الخليفة أبي العباس يعلمه بالأمر، فكتب إليه الخليفة يأمره بإعطائه الأمان ومن معه، فتم ذلك.
وخرج إسحاق إلى أبي جعفر وكان عنه من آخر أصحابه، فعفا عنه الخليفة أبي العباس رغم الخطورة التي واجهتها الخلافة العباسية، لا سيما أنها كانت لا تزال في بدايتها.
وتتجلى أبرز صور التسامح والعفو خلال هذه الفترة أيضًا في عفو الخليفة أبي جعفر المنصور عن معن بن زائدة، متولي البصرة والكوفة، وأحد رجالات الدولة الأموية وقادتها البارزين، وقد أذاق الويل للمنصور أثناء حصاره لمدينة واسط في العراق، من خلال الكمائن التي كان يعدها لهم، فلما قامت خلافة بني العباس، اختفى معن مدة، وكان البحث عنه حثيثا.
وفي سنة 141هـ، خرجت طائفة يقال لها «الرواندية» على المنصور، وكانت تقول بتناسخ الأرواح، وإن ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم هو أبو جعفر المنصور، فأتوا يومًا قصر المنصور وطافوا به، وكانوا يقولون: «هذا قصر ربنا»، فأرسل المنصور إلى رؤسائهم فحبس منهم 200، فغضبوا من ذلك وثاروا عليه.
وحار المنصور في أمرهم فخرج لقتالهم، فظهر معن وقالتهم بجوار الخليفة، وكان النصر على يده، فقال المنصور: «ويحك، من تكون؟»، فكشف معن لثامه، وقال: «أنا طلبتك معن»، فسُر به، وقدّمه، وعظّمه، وأمر له المنصور بعشرة آلاف ورضي عنه وولاه اليمن، بحسب ما نقل الكوان عن ابن كثير في «البداية والنهاية».
وفي سنة 145هـ، تمرد أهل الشام، والمعروفين بميولهم الأموية، على الخليفة المنصور، فعمل الخليفة جاهدًا للحصول على تأييدهم، فعفى عنهم، وكان من جملة من شملهم العفو كبار قادة أمويين مثل بكار بن أبي مسلم العقيلي، وأخيه عبدالعزيز، وزفر بن عاصم الهلالي، وأصبح هؤلاء في ما بعد من أبرز قادة جيش المنصور.
كسب أهل الشام
وحدث أن أهل الشام أرسلوا إلى أبي جعفر المنصور وفدًا من أشرافهم، وكان فيهم الحارث بن عبدالرحمن الغفاري، الذي قال للخليفة عند دخوله عليه: «أصلح الله أمير المؤمنين، إنا لسنا وفد مباهاة ولكننا وفد توبة، وإنا اُبتلينا بفتنة استقرت كريمنا، واستخفت حليمنا، فنحن بما قدمنا معترفون، ومما سلف منا معتذرون، فإن تُعاقبنا فيما أجد منا، وإن تعف عنا فبفضلك، فاصفح عنا إذا ملكت، وامنن إذا قدرت، وأحسن إذا ظفرت، فطالما أحسنت»، فقال أبو جفعر: «قد فعلت»، وعفا عنهم، بحسب ما نقل الكوان عن أبي جعفر محمد بن جرير الطبري في كتابه «تاريخ الرسل والملوك».
وفي زمن الخليفة المهدي، تمرد أهل الشام سنة 161هـ بزعامة عبدالله بن مروان، وهو ابن آخر الخلفاء الأمويين، وبعث الخليفة المهدي جيشًا بقيادة نصر بن محمد الأشعث الخزاعي، ونجح في إخماد التمرد والقبض على عبدالله بن مروان، وحمله إلى الخليفة المهدي، فعفا عنه وأغدق عليه الأموال والأرزاق. وبحسب الكوان، أراد الخليفة بهذه الخطوة كسب أهل الشام إلى جانبه على الرغم من أنهم غير موالين للدولة العباسية.
واتبع الخليفة هارون الرشيد نفس النهج، ففي سنة 174هـ شهد الشام فتنة عارمة بين القبائل اليمانية والنزارية، وتفاقم أمرها، فاستمرت بضعة أعوام، وذهب ضحيتها كثير من الأبرياء، ثم تطورت إلى ثورة دامية ضد عمال الرشيد وجيوشه، وكان عامل الرشيد على الشام عبدالصمد العباسي شيخًا كبيرًا لم يستطع إخماد الفتنة التي نشبت، فعزله الخليفة وأرسل محله إبراهيم بن صالح العباسي، لكن القتال دام سنتين، ثم حدث صلح بينهما بعد ذلك.
ووفد أهل الشام على الخليفة هارون الرشيد بعد الصلح، وحدّثوه عن تلك الفتنة في مجلسه، فسكت الرشيد وعفا عن الجميع. ويبد أن الخليفة اتبع سياسية اللين مع أهل الشام لكسبهم إلى جانبه، وليكونوا بمثابة دعم معنوي وعسكري للخلافة العباسية، رأى الكوان.
عفو عن أمراء عباسيين
وكان لأمراء البيت العباسي نصيب من هذا العفو، ففي سنة 200هـ خلع أهل بغداد الخليفة عبدالله المأمون وبايعوا عمه إبراهيم بن المهدي، ووقعت فتنة كبيرة، وفي تلك الأثناء خرج إبراهيم ليلًا متنقبًا مع امرأتين وهو في زي امرأة، فقابلهم حارس من جيش المأمون، فقال: من أنتن؟ وأين تردن في هذا الوقت؟ وأمرهن أن يسفرن عن وجوههن، فامتنع إبراهيم، فجذبه الحارس فبدت لحيته، فذهب به إلى باب المأمون وأعلمه به.
ولما دخل إبراهيم على المأمون قاله له: «يا أمير المؤمنين، العفو أقرب للتقوى، وقد جعلك الله فوق كل ذي ذنب، فإن تعاقب فبحقك، وإن تعفو فبفضلك»، فقال الخليفة: «بل أعفو يا إبراهيم». ورُوي أن المأمون قال حينما عفا عن إبراهيم، «أقول كما قال يوسف لإخوته (قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين)».
عفو سياسي عن علويين
ومثل بعض الأمويين، نال العلويون نصيبًا من العفو السياسي من الخلفاء العباسيين. ويذكر الدكتور رضا السعيد إبراهيم في دراسته «جوانب من التسامح والعفو في الحضارة الإسلامية.. المأمون نموذجًا»، أن العلويين اتخذوا موقفًا عدائيًا تجاه خلافة بني العباس، لاعتقادهم أن العباسيين خدعوهم وسلبوهم حقًا كان من المفروض أن يؤول إليهم، لأنهم أحق بالخلافة منهم، لقرابتهم الوثيقة من النبي.
واتبع الخليفة المهدي (158-169هـ) سياسة اللين والتسامح مع العلويين، وأطلق سراح كثير من المسجونين المعارضين، وفك الحصار الذي فرضه والده أبو جعفر المنصور على أهل الحجاز إثر تأييدهم ثورة ذي النفس الزكية، كما فرّق على أهل مكة مالًا كثيرًا جدًا.
ويبدو أن المهدي حاول استرضاء العلويين من خلال حُسن معاملة العلويين وعفوه عنهم، ليركنوا إلى الهدوء وعدم إثارة القلاقل، بحسب إبراهيم.
واستهل هارون الرشيد خلافته بالعفو عن العلويين وأعطى لهم الأمان، بعدما تعرضوا لسياسة عنيفة في عهد سلفه الهادي بعد معركة «فخ» بالقرب من مكة عام 169هـ، وأطلق سراح المسجونين منهم.
كما تجاوز الرشيد عن الثائرين من العلويين، ففي عام 176هـ كان ظهور يحيى بن عبدالله بن حسن بن علي بن أبي طالب ببلاد الديلم، واتبعه خلق كثير، فقويت شوكته، فانزعج الرشيد لذلك وقلق من أمره، فندب إليه القائد الفضل بن يحيى بن برمك في خمسين ألف جندي، وكاتب الرشيد صاحب الديلم ووعده بألف ألف درهم إن هو سهل خروج يحيى إليهم، وكتب الفضل إلى يحيى بن عبدالله يعدّه ويمنيه بأنه إن خرج إليه أن يقيم له العذر عند الرشيد.
غير أن يحيى امتنع عن الخروج إليهم حتى يكتب له الرشيد كتاب أمان بيده، فكتب الفضل إلى الرشيد بذلك، ففرح الرشيد ووقع ذلك منه موقعا عظيما، وكتب الأمان بيده وأشهد عليه القضاة والفقهاء ومشايخ بني هاشم. وبعث الرشيد الأمان وأرسل معه جوائز وتحفا كثيرة إلى الفضل، ليدفع ذلك جميعه إلى يحيى بن عبدالله، فقدم يحيى عليه وورد به الفضل إلى بغداد، فلقيه الرشيد بكل ما أحب، وأمر له بمال كثير، وأجرى له أرزاقًا سنية، وأنزله منزلًا كبيرًا.
أما الخليفة المأمون، فاتخذ خطوة فريدة من نوعها عام 201هـ، عندما قام ببيعة الإمام علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بولاية العهد، ولّقبه بالرضا من آل محمد، وزوّجه ابنته أم الحبيب، وأمر جنوده بطرح السواد شعار العباسيين ولبس الثياب الخضراء شعار العلويين، مدفوعًا بذلك بشعور ديني وسياسي يرمي إلى كسب رضاء العلويين والخراسانيين على السواء.
ولعل المأمون أراد استمالة العلويين إلى جانبه لتوطيد أركان خلافته، خصوصًا بعد صراعه مع أخيه الأمين، وما أعقب ذلك من انقسام واضطراب. ومع ذلك، يبدو أن المأمون لم يكن مخلصًا تمامًا في تحويل الخلافة إلى العلويين، بدليل أنه تراجع عن عن كل هذه الإجراءات حينما دعت الضرورة إلى ذلك، بحسب إبراهيم.
وبعد وفاة الإمام علي الرضا خرج عبدالرحمن بن أحمد بن عبدالله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب ببلاد عك من بلاد اليمن عام 207هـ، داعيًا إلى الرضا من آل محمد، وكان سبب خروجه أن العمال باليمن أساءوا سيرة العلويين، فبويع عبدالرحمن، ولما بلغ ذلك المأمون وجه جيشًا جرارًا، وكتب مع قائد جنوده بأمان عبدالرحمن، فأتى عبد الرحمن وتلقى أمانه.