روح رمضان الغائبة
رمضان، الشهر الكريم، الذي ننتظره من العام إلى العام، ونظل نحسب الأيام المتبقية على مجيئه بكل حنين وترقب. رمضان الذي وصفه رب العزة – جل شأنه – بأنه أيام معدودات، وبالفعل هو كذلك.
منذ الصغر ونحن نرى الأهل والأقارب يمسكون عن الطعام والشراب في نهار رمضان، وعند سؤالهم بكل براءة الأطفال: «ليه؟» يجيبون: «علشان صايمين، بكره تكبر وتصوم زينا». «وفضلنا شوية – مش كتير – على الحال ده ونحن ننتظر، إمتى هنكبر زي ما كانوا بيقولوا علشان نصوم زيهم؟» وبالنسبة لي، فقد حدث هذا وأنا في التاسعة من عمري، بعد أن استطعت بكل حيل ومكر الطفولة وقتها أن أقنع والدتي بأني «خلاص كبرت وبقيت جامد وهقدر أستحمل الصيام طوال النهار»، وساعدني والدي رحمه الله في ذلك.
قبل مجيء الشهر الفضيل بفترة أسبوعين تقريبًا، كنا نبدأ التجهيز لقدومه، أنا وأصدقاء الطفولة «أولاد الحتة»، فكنا نصنع الزينة الورقية لتزيين وتجميل شارعنا ابتهاجًا بمجيء ضيفنا الغالي.
كنا نتفنن في صناعة زينة رمضان بألوان وأشكال زاهية وجذابة، وكنا نغار من جيراننا في الشارع المجاور لنا؛ لأنهم أبدعوا الزينة بشكل أفضل وأزهى، ونحاول أن نفوقهم.
ونظل نزين شارعنا حتى تأتي ليلة استطلاع هلال رمضان، والتي نجتمع فيها كلنا حول التلفاز بكل ترقب وحماس وشوق؛ لنرى مفتي الجمهورية وهو يلقي خطبته الشهيرة، ويتحدث فيها عن الصيام وفضائله ومآثره كفرض، ثم يختتم حديثه بتأكيد ثبوت هلال رمضان من عدمه.
فإذا ما ثبت هلال رمضان استقبله التلفاز بالأغنية الرسمية للترحيب به، «رمضان جانا»، للمطرب محمد عبد المطلب، والتي كان لها فعل شرطي عصبي داخل نفوسنا تشعرنا بأن رمضان فعلًا قد بدأ.
وعليه، فكنا نقوم بآخر خطوة تزيينية وتجميلية لشارعنا، ألا وهي تعليق اللمبات والفوانيس الكهربائية؛ لتضيء شارعنا بأكمله بشكل جمالي مزركش زاهٍ، لتبعث وتخلف فينا تلك البهجة والنشوة والفرحة الغامرة بقدوم رمضان، وليكون هو الشهر الوحيد في العام الذي تضاء فيه كل شوارع المحروسة ليلًا ونهارًا.
الآن أصبح ثبوت هلال الشهر الفضيل من عدمه يتم فلكيًا، ونعرف ذلك منذ شرائنا نتيجة العام الجديد، وموضوع تزيين الشوارع أخذ أبعادًا وطرقًا أخرى غير ما كنا نصنع وقتها، حيث كانت الزينة ورقية، نقوم بقصها بأنفسنا، ومن ثم لصقها على الخيط بعجين النشا.. أما الآن فالأمور أصبحت أكثر حداثة.
كان هذا الحديث في فترة الثمانينيات وأوائل التسعينات، فكنا نذهب إلى المدرسة والفرح يغمرنا بأننا قد أضحينا مثل الكبار، وصائمين مثلهم، وننصب من أنفسنا رقباء على بعضنا، لو رأينا أحدهم يتلفظ بشيء غير لائق ننهره ونذكره بأنه صائم.
كانت الحصص المدرسية في رمضان يتم اختزال ربع وقتها تقريبًا، وذلك لأن ميعاد انتهاء اليوم الدراسي كان أبكر من الأيام العادية، لذا فقد كان اليوم في رمضان مباركًا فعلًا.
عادات اجتماعية في رمضان زمان
كانت روح المحبة والود والألفة بين الأهل والأقارب والجيران هي الأبرز في اجتماعيات الشهر الفضيل، لذا تكثر الزيارات والعزائم والولائم بين الأحباء. كنا نعتبر أن أجمل ما في رمضان هو «لمة» الناس خلال الشهر، وكان تبادل أطايب الطعام والحلويات الشرقية بين الجيران في رمضان أحد أبرز معالم الحارة المصرية.
كان الطبق الرمضاني الذي يتم تبادله بين الجيران بمثابة كارت المعايدة الجميل، الذي يحمل أصدق الدلالات على روح المحبة والألفة، فإشراك غيرك في طعامك، وأيضًا مشاركته ما يأكل، دلالة قوية على الأمان والاطمئنان بين الجميع، وأن الكل بالفعل أسرة واحدة.
الآن أصبحنا نقطن أبراجًا شاهقة، ويكاد المرء يميز جاره عن الغريب، وأصبحت العادات الاجتماعية والمناسبات الطارئة – كالعزاء والفرح – لا نعلمها إلا عن طريق ورقة تعلق عند مدخل عمارة كل فرد فينا.
باختصار، غابت روح الألفة والمودة وطيب الاجتماعيات، سواء في رمضان أو حتى بقية العام.
الميديا في رمضان زمان
التليفزيون المصري في الثمانينيات والتسعينيات كان يمتلك من القنوات ثلاثًا فقط، وعليه فقد كان ما يعرض هو برامج محدودة نعرفها وتحفظها ذاكرة كل من عاش وقتها.
كان شغلنا الشاغل عند عودتنا من المدرسة هو الانتهاء من الواجبات والتفرغ لما يبثه التلفاز في هذا الشهر الاستثنائي، فكان يعرض في الظهيرة إعادة غالبًا لما تم عرضه في أواخر الليلة السابقة، حيث كانت تتم مراعاة أن هناك الكثيرين لا يسهرون وغالبًا ما تكون الإعادة للمسلسلات الدينية التي كان عادة ما يختم بها التليفزيون المصري آنذاك.
كانت أغلب البرامج الدينية تعرض في هذا التوقيت أيضًا بجانب برامج وفوازير الأطفال المختلفة مثل فوازير عمو فؤاد ومغامراته، ثم بوجي وطمطم، والتي أصبحت تعرض عقب الإفطار مباشرةً في السنوات التي تلت ذلك وغيرها كثير، كانت البرامج غايتها التسلية والإفادة، وإضافة معلومة ولو بسيطة في أذهان الأطفال والكبار أيضًا، ولا تتعجبوا من ذلك.
ثم يهل علينا الشيخ الجليل الإمام الشعراوي في الفترة التي تسبق الإفطار بنصف ساعة تقريبًا بخواطره الإيمانية البسيطة والنافذة إلى القلب، والتي تنتزع من صدرك أسمى آيات التسبيح والإكبار لقدرة الله وعظمة دينه القويم، وما إن ينتهي حتى يبدأ الشيخ محمد رفعت في قراءته التي تسبق الآذان مباشرةً لتدرك أن ميعاد الإفطار قد اقترب كثيرًا.
بعد الإفطار كانت الميديا الرمضانية عبارة عن دراما ألفها واعتادها معظم أبناء هذا الجيل، حتى أنهم كان شغلهم الشاغل من سيقوم ببطولة الفوازير وألف ليلة وليلة هذا العام.
بالطبع كانت فوازير نيللي أو شيريهان أو حتى فطوطة وسمورة، والتي كانت حتى في تنوعها وبيانها كدراما استعراضية كانت تعطي للمشاهد معلومة، وتجعله يفكر – ولو لدقائق – في حل الفزورة، أعلم أنك تضحك وتتعجب كثيرًا من هذا الحديث، ولكن صدقني هذا ما كان يحدث، كان المشاهد يستمتع ويفكر ويصل إلى معلومة مفيدة في النهاية.
كانت ألف ليلة وليلة لمبدعها طاهر أبو فاشا، أحد أعظم ما أفرزت الدراما الرمضانية وكنا وقتها حديثي عهد بالخدع السينيمائية والمؤثرات البصرية فكنا مبهورين بما يفعله فهمي عبد الحميد وقتها رحمه الله.
كانت الدراما الرمضانية وقتها عبارة عن مسلسلين كبيرين، ألا وهما: ليالي الحلمية على القناة الأولى، وعلى الثانية كان يعرض رأفت الهجان، وفي نهاية اليوم كان يعرض مسلسل تاريخي أو ديني.
كنا ننتظرهما بفارغ الصبر ونستمتع أيما استمتاع، ونختم يومنا في انتظار المسحراتي الذي يدق على طبلة؛ ليخبرنا بحلول ميعاد السحور، ويظل ينادي بأسمائنا واحدًا تلو الآخر، ونحن بكل براءة الطفولة في أعماقنا منتشون فرحون.
بجانب ذلك كان قطاع التليفزيون يقوم بإنتاج ما يسمى بالأفلام التليفزيونية والتي كانت علامات في تاريخ الدراما التليفزيونية، وكانت لها قيمة فنية كبيرة، وذات إفادة وإضافة، تراها الأسرة كلها دون خجل أو قلق من أي لفظ أو إيحاء خارج كما في أفلام هذه الفترة.
وظل الحال هكذا لفترة ليست بالقليلة، فكانت الدراما الرمضانية عبارة عن علامات لا تنسى، فمن منا ينسى الشهد والدموع، أرابيسك، العائلة، الضوء الشارد، زيزينيا، المال والبنون، بوابة الحلواني وغيرهم الكثير والكثير؟
لا أستطيع أن أنسى السهرات الرمضانية البديعة التي كانت تتضمن شعراءً وكُتَّابًا ومبدعين ومطربين وفنانين حقيقيين، وليسوا فقاقيع، كما لا أستطيع أن أنسى البرامج الرمضانية في السهرة.
كما كانت هناك البرامج الخفيفة التي كانت تهدف إلى التسلية والتسرية عن المشاهد، فمثلًا كان هناك الكاميرا الخفية القديم، والذي كان يضحكك بمقالب بسيطة خفيفة، وليس عن طريق أنه يقوم بحرق ضيفه أو يرميه بقاذفة قنابل حتى يستدر ويستعطف ضحكات المشاهدين، وقد يصاب ضيفه بأزمة قلبية جراء ذلك! وبالطبع البرنامج به مادة إعلانية تفوق مدة العرض الأصلي بأربعة أضعاف!
وهكذا نظل على هذا الحال حتى نقترب من نهاية الشهر الفضيل، ونبدأ الإعداد لاستقبال العيد بصنع أطايب الكعك والبسكويت، والتي كنا نعدها في المنزل بأيدينا. ثم يفارقنا رمضان وتطربنا كوكب الشرق بأغنيتها الخالدة: يا ليلة العيد، لندرك أن ضيفنا العزيز قد رحل ونقضي وقتنا في ليلة العيد حتى الصباح لندرك صلاة العيد ونشعر بطيب نسماته.
وحتى في العيد، كان التليفزيون المصري له عاداته التي ألفناها، فكان الفيلم الهندي الذي يستمر لثلاث أو أربع ساعات والذي تستطيع أن تقول إنه كان علامة مميزة للعيد، وكانت هناك مسرحية دائمة العرض، إما ريا وسكينة، أو سك على بناتك أو العيال كبرت، وأحيانًا مدرسة المشاغبين، والقناة الثانية التي تعرض علينا فيلمًا أجنبيًا جديدًا على حسب قولهم.
كانت الحياة بسيطة جدًا، والنفوس طيبة يرضيها ويسعدها القليل، وكنا مع ذلك نجد كل الوقت للتودد لأهلنا وأقاربنا وأصدقائنا، وهذا كان رمضان على أيامنا.
أما الآن فالقنوات والفضائيات الخاصة أصبحت بعدد لا يحصى، وتعرض علينا دراما بعدد هلامي. يكفي أن أقول لك إنه حسب إحصائية العام السابق، فإن عدد الدراما الرمضانية وصل إلى 88 عملاً دراميًا! أتحدى أن يتذكر أحدنا اسمين أو أكثر منها، وما هي إضافتها وإفادتها لمن شاهدها.
رمضان الآن أصبح عبارة عن تجارة رائجة يحشدون فيها كل بضاعتهم طوال العام ليقوموا بسكبها جميعها في عقل المشاهد البسيط والذي أصبح رمضان بالنسبة له عبارة عن مسلسلات وبرامج مقالب وطبخ وإعلانات لشراء الفيلات والشقق في الكومباوندات، بجانب طبعًا إعلانات التبرع التي تنهمر علينا انهمارًا في رمضان!
أتذكر أني رأيت منذ فترة قريبة أحد أصحاب الفضائيات الخاصة، وهو يتحدث في برنامج، ويؤكد أنهم كأصحاب فضائيات يبقون طوال السنة نائمين إلى أن يأتي موسمهم الحقيقي في رمضان.
وهكذا أضحى المشاهد من جمهور له احترامه وقدره وحقه أن ينال الإبداع الفني والإضافة القيمة، تحول إلى زبون عند أصحاب الفضائيات، وهكذا صار الوضع.
ميديا رمضان الآن أصبحت عبارة عن فترينة مليئة بكل صنوف الترف، شكلها جميل، ولكن طعمها ماسخ، تدَّعي الكمال، ولكنها فاقدة للروح.
رمضان الآن أصبح عبارة عن محاولة لجعل الإنسان أقرب ما يكون إلى الروبوت، يرى ويسمع ويستجيب، ولكنه فاقد للحس وتذوق الجمال وبالطبع بعيد كل البعد عن روحانيات ونفحات طيب الشهر الكريم كما ألفناه واعتدناه، وبالرغم من ذلك يظل رمضان هو الاستثناء الجميل في دائرة الأيام المفرغة، ونطلب دائمًا هذا الاستثناء أبدًا ما حيينا بحول الله ومشيئته، وكل عام وحضراتكم بكل خير.