أبراموفيتش والحرب الروسية الأوكرانية: من الذي دفع للزمّار؟
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، أنشأت وكالة الاستخبارات المركزية «CIA» ما عرف بـ«الكونسورتيوم»؛ وهو سلاح الولايات المتحدة الأمريكية في ميدان الثقافة، الذي تبنّى إدارة جبهة ثقافية معقدة، من أجل الاستيلاء على عقول البشر، وزرع فكرتين رئيسيتين بداخلها وهما: شيطنة الشيوعية، وتمهيد الطريق أمام مصالح الخارجية الأمريكية.
قامت هذه الجبهة بتكريس كل الأسلحة الثقافية الممكنة؛ مثل الصحف، الكتب، المؤتمرات، المعارض والحفلات الموسيقية.
والأهم؛ كان ما ذُكر في كتاب «من الذي دفع للزمار: الحرب الباردة الثقافية»، وهو أن معظم المثقفين من أدباء وشعراء وفنانين ومؤرخين كانوا منخرطين بشكل أو آخر بعمل هذه المؤسسة السرية، سواءً راق لهم ذلك أو لا، وسواءً كان ذلك بمقابل مادي أو لا، بل أن أحيانًا كان انجرافهم مع التيار يحدُث دون إدراك حقيقي منهم.
الميزان الأعرج
فور الإعلان عن الغزو الروسي لأوكرانيا، انقلب العالم رأسًا على عقب، وتبدَّلت طريقة عرض الصحافة الغربية للحدث، وانصب الحديث عن ما يمكن أن تسببه الحُروب من تدمير وتشريد للملايين البريئة، على الرغم من أن نفس الصحافة تتناول أحداثًا مماثلة لتلك التي تحدُث حاليًا بشيءٍ من المواربة. وربما يبدو ذلك مُبررًا من منطلق الحرص على عدم الإضرار بالمصالح الشخصية.
المثير للدهشة، كانت تحرُكات المؤسسات الرياضية إعلاميًا، عبر شجب وتنديد الغزو الروسي تارة، والسماح للرياضيين أو المؤسسات التابعة لها بالتعبير عن تعاطفهم بكل السبل المتاحة مع الشعب الأوكراني في أخرى.
وفي الواقع، يبدو هذا تصرفًا مثاليًا، وإنسانيًا لأبعد حد، يتماشى تمامًا مع الصورة الذهنية التي يمتلكها سكان العالم الثالث عن أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. وقبل أن تسيء فهمنا، في الغالب، لا يوجد إنسان سوي لا يحمل بداخله تعاطفًا مع الشعب الأوكراني، لكن السؤال: لماذا تنصّل آرسنال من تصريحات «أوزيل» سابقًا؟ ولماذا يُغرّم «سيلتيك الأسكتلندي» بشكلٍ دوري بسبب مساندة جماهيره للقضية الفلسطينية؟
الأسئلة كثيرة، لكن وإن قررنا التحلّي بأعلى درجات السلام النفسي -السذاجة-؛ فالإجابة في الغالب تكمُن في هوّية من يتعرّض للظلم، وربما حجم التناول الإعلامي وكيفية وصفه لهذا الظُلم الواقع. بالضبط، هذا ما يمكننا وصفه بازدواجية المعايير.
رومان أبراموفيتش: علاقة مشبوهة
ولأننا نُدرك جيدًا استحالة فصل السياسة عن الرياضة، عكس ما يروَّج له، وهو ما فضحته الأحداث الأخيرة بشكل جلي، كان من المتوقّع أن يتضرر «رومان أبراموفتيش»، مالك نادي تشيلسي الإنجليزي، بسبب الحرب على أوكرانيا، لكن التناول الإعلامي لعلاقة الأوليغارش الروسي بالرئيس «فلاديمير بوتين»، حوَّل النادي اللندني بشكلٍ ما إلى نادٍ روسي لا إنجليزي يملكه رجُل روسي.
في غضون أيام، توالت العقوبات على البلوز بشكلٍ هستيري، بدأت بالضغط على رومان -الذي ادّعى محاولته التوسط لإيجاد حل سلمي للأزمة الروسية الأوكرانية- لبيع النادي وصولًا إلى تجميد الحكومة البريطانية لأرصدته والحجز على أرصدة النادي في البنوك، نظرًا لما وُصف بتوّرط «أبراموفيتش» في سفك الدماء الأوكرانية.
في كتابها «شعب بوتين»، الصادر عام 2020، سردت الكاتبة «كاثرين بيلتون»، مراسلة «فاينانشيال تايمز» في موسكو، خلال الفترة ما بين 2007 لـ2013، حقيقة العلاقة ما بين رومان أبراموفيتش وفلاديمير بوتين.
زعمت كاثرين أنّ مالك «تشيلسي» كان مجبرًا على تملّق بوتين، بدايةً من عمله كحاكم لمنطقة الشرق الأقصى من «تشوكوتا» النائية في أول سنوات حكم الرئيس الروسي، وصولًا إلى شرائه لنادي «تشيلسي» الإنجليزي، بأوامر مباشرة من فلاديمير بوتين. حيث أراد فلاديمير أن تظل ثروة «رومان» التي جمعها عقب تفكك الاتحاد السوفييتي مطلع التسعينيات تحت إمرته.
طبقًا لوجهة نظر «بوجاتشيف»، كان الاستحواذ منذ البداية يهدف إلى بناء رأس جسر للنفوذ الروسي في المملكة المتحدة، مؤكدًا أن هذا ليس مجرد ادعاء، لكنه نص ما أخبره به فلاديمير بوتين نفسه، في اجتماع سبق عملية استحواذ أبراموفيتش على تشيلسي بعام واحد.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، في مارس/آذار 2021، رفع «رومان أبراموفيتش» دعوى قضائية ضد «بيلتون» ودار نشر «هاربر كولينز»، واصفًا المعلومات التي احتوى عليها الكتاب بالزائفة، التي تسعى للتشهير بشخصه.
ومع ذلك، تمت تسوية الدعاوى القضائية سريعًا، مع إجراء بعض التعديلات التي لم يلحظها معظم القرّاء، طبقًا لـ«كاثرين بيلتون» نفسها.
في الواقع، ربما أثبتت عدّة مصادر وجود علاقة واضحة بين رجل الأعمال والرئيس الروسي، لكن الأكيد؛ حتى الآن، لم يثبُت توّرُطه في الحرب الأوكرانية، وحتى نتحلى ببعض المنطقية، إثبات هذا التورُّط بشكلٍ مؤكد هو آخر ما قد يكترث له النقاد والصحفيون الرياضيون، الذين أخذوا على عاتقهم قيادة هذه الحملة الممنهجة. فقط يكفي إثبات علاقة ما بين الرجلين، من ثم تتكفّل الأقلام «الموجهة» بباقي الأمر.
الاستيلاء على العقول
يكمن السبيل لفهم ازدواجية المعايير الغربية على نطاق ضيّق مثل الرياضة، في مدى حرصنا على تفهُّم وجهة نظر الآخر، بكل ما يحمله بإرث ثقافي وسنوات من تعبئة العقول بخطابات ترفع من شأن المواطن الأوروبي، وتحط من قدر الآخرين، حتى ولو بصيغة غير مباشرة؛ عبر التضليل تارة، وغض الطرف عن ما يحدُث حول العالم في أخرى.
الصراع الفلسطيني مع الكيان المحتل مثال جيد للقياس، نظرًا لوضوح المجني والمجني عليه، أو هكذا نعتقد، لأن الحقيقة، طبقًا لاستطلاع رأي نشره موقع «Statista» الإحصائي، شارك فيه نحو ألف شخص أمريكي، ارتأت 70% من العينة التي تم سؤالها عن رأيها في رد الفعل الفلسطيني تجاه قصف غزة عام 2014، أنه تصرّف «غير مُبرر».
وفي استطلاع رأي آخر، وافقت نسبة 51% أخرى على ضرورة الشراكة الأمريكية الروسية لحل ما اعتبروه مشكلة الأسلحة الكيميائية في سوريا عام 2013، لكونها شراكة قد تفيد مصالح الولايات المتحدة الأمريكية، بشكل يفوق الأضرار التي قد تسببها مستقبلًا.
المثير أنّ هذه الآراء ليست محسوبة على مسؤولين سياسيين، لكن أفراد عاديون، يشجبون العنف ليل نهار، لكنهم -بشكل ما- تم تغييبهم عن الحقيقة، أن الحرب تحت أي مسمىً تعني إيذاء الأبرياء.
حسب الدكتورة «إيلينا بلانكو سواريز» المتخصصة بكيمياء المخ، غسل العقول فن، لا يتم التعامل معه بطريقة عشوائية، وفي عصر التواصل الاجتماعي، لا يتم إجبار المستخدم على أي شيء، لكن التفاعُل المستمر مع قضايا بعينها يجعله ينحاز دون إدراك حقيقي منه.
بالتالي يمكن بسهولة للحكومات، طبقًا لوجهة نظر «سواريز»، أن تستخدم منصات التواصل الاجتماعي لتشويه سمعة الأفراد، واستنباط المعلومات، وزرع الأفكار، وغيرها من أدوات التحكم العقلي، تمامًا كما حاولت وكالة المخابرات المركزية من قبل.
لأننا غضضنا الطرف
بالعودة مجددًا لـ«أبراموفيتش»، فالقاسم المشترك الأعظم بين كُل التقارير، مقالات الرأي والتدوينات التي تنتشر بالصحافة الإنجليزية والغربية بشكل عام، هو مصطلح «غض الطرف»؛ وهو ما يُمثِّل اعترافًا صريحًا من هؤلاء بتراخيهم عن نشر ما يزعمون حول حقيقة علاقة الملياردير الروسي بنظام «بوتين»، لأسباب لا يعلمها سواهُم.
وحتى لا تظن أن العالم بهذه السذاجة، لا تقلق، فضمن هذه الوجبة الدسمة من ادعاء المثالية والرغبة في إعلاء ما تمثله الرياضة من اتساق مع القيم الإنسانية، ستجد بين الحين والآخر إشارة لضرورة النظر لما يحدُث في اليمن، وعلاقته بمُلّاك نيوكاسل الجدد، وما يمثله تحكُّم دول أخرى، تلوثت أيدي مسؤوليها بإهدار حقوق الإنسان، في أندية أوروبية عريقة، من باب حفظ ماء الوجه.
ولأن التاريخ هو أفضل معلّم، ربما يُعلن إغلاق نادي تشيلسي من الأساس، وربما تُحرم كُل الأندية والمنتخبات الروسية ومن يدعمها من الانخراط في أي مسابقات رياضية إلى الأبد، لكن يظل السؤال الأهم: هل يتقاضى زمّارو العصر الحالي مقابلًا لتوجيههم الرأي العام صوب هدف بعينه؟ أم أنهم فقط يقدمون على ذلك متأثرين بالحالة الراهنة؟
الأكيد أن المستقبل وحده سيكشف «هل دفع أحد للزمّار؟».