مسار «أبراهام» السياحي: من النيل إلى الفرات
كثيرة هي المشاريع الإقليمية التي تنطلق تحت رايات وشعارات بريئة، لكن ما إن يتم التنقيب خلفها حتى تتضح حقيقتها وأهدافها بعيدة المدى وارتباطها بصُلب الصراع العربي الإسرائيلي، على غرار «مسار أبراهام»، وهي مبادرة سياحية تقوم على فكرة الاختلاط بين شعوب وأديان مختلفة عبر طريق مشى عليه النبي إبراهيم، عليه السلام، والتقريب بين اليهودية والإسلام والمسيحية التي تؤمن جميعًا بهذا النبي.
مسار أبراهام السياحي
يجري الترويج بشكل غامض لفكرة «الإبراهيمية» كانتماء وهوية تجمع أتباع الأديان السماوية وتدمج اليهود في قلب هذه الهوية الدينية المستحدثة، سعيًا لتذويب جدار الرفض الديني لاحتلالهم الأراضي الفلسطينية والعربية، والترويج لهوية جديدة تحل محل الهوية العربية والإسلامية تتضمن التعايش مع اليهود والتنازل عن فكرة الصراع والتمسك بـ «الأرض»، وبالترافق مع هذا المشروع تأتي مبادرة مسار أبراهام السياحي كتطبيق عملي مرحلي يروج للفكرة في البلدان المستهدفة.
وكانت جامعة هارفارد بالولايات المتحدة أطلقت عام 2004 مبادرة لإنشاء المسار المذكور، إذ يقود ويليام يوري، الأكاديمي بالجامعة، منظمة دولية تدعى مبادرة مسار أبراهام (API)، ولها موقع تتلقى من خلاله التمويل والتبرعات لدعم مشروعها الذي تروج له باعتباره مجرد مبادرة سياحية تنطلق من «أور» في العراق إلى شبه جزيرة سيناء في مصر، والمشي في المسارات التي مشى فيها سيدنا إبراهيم، عليه السلام، «السلف الروحي لأكثر من نصف البشرية»، وتتلقى المبادرة دعم البنك الدولي لا سيما في الأراضي الفلسطينية، ورغم أنه من المفترض أنه يُطرح كمشروع سياحي، لكنه مُرشح لأن تصبح له تداعيات إقليمية قوية سياسيًّا واقتصاديًّا، بحسب المبشرين به من جامعة هارفارد.
وبداية المسار من مدينة أور التاريخية التي يُذكر أن سيدنا إبراهيم، عليه السلام، نشأ بها (تقع حاليًّا على بعد بضعة كيلومترات عن مدينة الناصرية مركز محافظة ذي قار جنوب العراق)، وشهدت هذه المدينة في السادس من مارس/آذار الماضي زيارة لبابا الفاتيكان البابا فرنسيس، أجرى بها ما عُرف بـ «لقاء بين الأديان»، وأقام صلاة «من أجل أبناء وبنات إبراهيم».
وتظهر خريطة المسار خطًّا ممتدًّا من جنوب العراق يسير مع نهر الفرات إلى سوريا وتركيا، ثم ينزل إلى فلسطين ليتمدد غربًا إلى سيناء في مصر، ويتطابق هذا المسار على الخريطة مع حدود دولة إسرائيل الكبرى من النيل للفرات، التي دعا إليها مؤسس الصهيونية العالمية، تيودور هيرتزل، منذ أكثر من قرن.
ورغم الإنكار الإسرائيلي الرسمي لكون الخطين الأزرقين في علم الدولة الصهيونية يرمزان إلى امتداد حدود الدولة من النيل إلى الفرات، والزعم أن هذين الخطين يشيران فقط إلى وشاح الصلاة اليهودي، لكن الأدبيات اليهودية صريحة في إثبات ذلك، كما جاء مثلًا في سِفر التكوين: «ولما تجلى الرب على إبراهام، منحه الأرض المقدسة من النيل إلى الفرات»، وغير ذلك كثير مما لا يمكن إنكاره.
وتم عقد تفاهمات مع كيانات محلية في الدول العربية للاشتراك في هذه المبادرة بحجة تشجيع السياحة وتقارب الشعوب وتوفير مصدر رزق للسكان المحليين، لكن وزارة السياحة والآثار الفلسطينية انتبهت للمخطط مؤخرًا، وأقدمت على تأميم المسار الذي يمتد من شمال الضفة الغربية إلى جنوبها وفصلته عن المشروع الأمريكي، وأسست لجنة علمية وضعت رؤية جديدة للمسار، و غيَّرت اسمه من مسار إبراهيم إلى «مسار فلسطين التراثي»، ووجهت مؤسسة «اتحاد مسار إبراهيم الخليل» رسالة رسمية إلى مجلس الإدارة العالمي لمسار إبراهيم التابع لجامعة هارفارد، تفيد بخروج المؤسسة من عضوية مجلس الإدارة العالمي للمسار في الولايات المتحدة وقطع صلتها به.
ومن المخطط له أن يبلغ طول هذا الممر البري 5 آلاف كيلومتر تقريبًا عند اكتماله، ويقتطع أراضي عشر دول في الشرق الأوسط، وقد صنفته مجلة ناشيونال جيوجرافيك الدولية على أنه «الممر رقم واحد للسير» على مستوى العالم، واستخدمت شعار «الصعود للارتقاء بالروح» للدلالة على هذا الطريق.
تدويل أرض المسار
تنص وثيقة مبادرة المسار على أن حكومات وشعوب دول المسار يجب أن تتخلى عن ملكية الأرض، وأنه سيتم تدويل هذا الطريق بعد إتمام المشروع، ويؤكد ويليام يوري هذا بالقول: «كان علينا التخلي عن أي إحساس بالسيطرة أو الملكية منذ البداية».
وتشير الدكتورة هبة جمال الدين، مدرِّسة العلوم السياسية والدراسات المستقبلية في معهد التخطيط القومي، وعضو المجلس المصري للشئون الخارجية، إلى أن هدف المشروع إسقاط الحدود السياسية وتهميش فكرة سيادة الدول على أرضها والتخلي عن ملكية الأرض والاستعاضة عنها بفكرة الانتماء إلى الكرة الأرضية!
وتشرح في كتابها «الدبلوماسية الروحية والمشترك الإبراهيمي: المخطط الاستعماري للقرن الجديد» أن هناك خططًا لإعادة كتابة تاريخ المنطقة عبر الزعم بأن الشعوب الأصلية لهذه المنطقة هم اليهود الذين هُجِّروا من البلدان العربية، والمطالبة بتعويضات لهم، وأنه طبقًا لاتفاقية الشعوب الأصلية المسجلة بالأمم المتحدة، من حق الشعوب الأصلية المُهجرة العودة إلى بلادهم الأصلية والحصول على تعويضات مالية بأسعار اليوم عن ممتلكاتهم القديمة، وإجبار تلك البلاد على إعطاء هؤلاء العائدين حق إدارة الاقتصاد.
جدير بالذكر أن الجزء الخاص بـ «الأرض» في تلك المعاهدة ينص بحسب المادة 13 على أن الحكومات عليها احترام ما تتصف به علاقة الشعوب المعنية بالأراضي من أهمية خاصة بالنسبة إلى ثقافات هذه الشعوب وقيمها الروحية، كما تطالب المادة 15 بحقوق هذه الشعوب في الموارد الطبيعية التي تخص أراضيها، ومن بين هذه الحقوق حقها في المشاركة في استخدام وإدارة وصون هذه الموارد.
وهناك مساعٍ قانونية إسرائيلية بالفعل لمطالبة الدول العربية بتعويضات كبيرة عن ممتلكات اليهود الذين هاجروا من تلك الدول بعد تأسيس الكيان الصهيوني، وخلال السنوات الأخيرة نشطت تل أبيب في هذا الاتجاه، ففي عام 2014 مررت قانونًا باختيار يوم 30 نوفمبر/تشرين الثاني من كل عام لإحياء ذكرى «ترحيل اليهود» من دول الشرق الأوسط بهدف «تنمية الوعي الدولي بوضع اللاجئين اليهود» و«حقوقهم في التعويضات».