لقد فكّرت -بالتأكيد- في ذلك من قبل، لنعد قليلًا إلى الماضي هربا من الواقع! فهاجس السفر عبر الزمن، إلى الماضي والمستقبل، كان ولا يزال من أكثر الألغاز المحيّرة للعلماء، والفيزيائيين، والرياضيّين، وكتّاب الخيال العلميّ، وللبشريّة بشكلٍ عام. واحتلّت هذه الفكرة مركزًا كبيرًا في روايات الخيال العلميّ والأفلام والمسلسلات العديدة، بحثًا عن الطريقة المناسبة للسفر، وأحيانًا أيضا، المفارقات الحاصلة بسبب السفر عبر الزمكان وتشويه نسيج الكون.

من Doctor Who إلى The Terminator وثلاثية Back To The Future، تنوّعت التناقضات والمفارقات. ستناول هنا إذًا التناقضات والمفارقات الفكرية الناتجة عن الاعتقاد في إمكانية تحقيق حلم السفر عبر الزمن، وليس موضوع السفر عبر الزمن نفسه -والذي سنتحدث عنه لاحقًا- وآراء العلماء وكتّاب الخيال العلمي عن هذه التناقضات وحلولها المختلفة.


مفارقة القدر-المصير Predestination Paradox

يحصل هذا النوع من المفارقات حين تؤدي أفعال الشخص المسافر إلى الماضي إلى حدوث الفعل الأساسي الذي حاول أن يسافر بالزمن ليمنعه، وبالتالي يصبح الفرد عالقًا في حلقةٍ زمنيةٍ تتكرر بشكلٍ مستمر، حيث يؤثر الفعل الأول الموجود بالماضي على الفرد ليقوم بالفعل الثاني (السفر زمنيًا) والذي بدوره (الفعل الثاني) يقوم بتحقيق الفعل الأول الأصلي ويؤدي لحدوثه! بهذه الطريقة يحفظ الكون نفسه من التغير الحاصل بسبب رحلة المسافر إلى الماضي.

بشكل أبسط: أيّ محاولةٍ للسفر إلى الماضي تنتهي بتحقيق الحدث المراد بدلًا من منع حدوثه. يقترح وجود هذه المفارقة أنّ الأحداث لا تتغير وهيّ ثابتة الوقوع مهما حاول الشخص تغييرها، وأنّ ما حدث لا بدّ أن يحدث. لهذا السبب لا يمكنك تغيير الماضي، وأن أيّة محاولة للقيام بذلك تؤدي لدخول الشخص في حلقة مغلقة، يختبر فيها الأحداث مجددًا بشكلٍ مستمر. تشبه هذه المفارقة بهذا الشكل ما يُعرف باسم «النبوءة ذاتيّة التحقق»، حيث أنّ الدافع للسفر عبر الزمن هو فعل المسافر نفسه بعد وصوله لمقصده الزمني.

ويمكننا ملاحظة ذلك في فيلم Twelve Monkeys، حيث يُرسل جيمس كول (بروس ويليس) إلى الماضي ليمنع كارثة غامضةً من الحدوث وليحمي بذلك المستقبل، ويسمع ثرثرة كول شخصية أخرى هي جيفري كوينز (براد بيت)، الذي نعرفه في المستقبل لكونه قائد جيش القردة الاثني عشر، ويقوم جيفري حينها بالعمل لتحقيق ما سمعه من كول عن هذه الكارثة الغامضة. أيّ أن سفر كول إلى الماضي وحديثه مع جيفري أدى فعلًا لتحقق الكارثة التي أُرسل كول لمنعها.

في خضّم تلك الأحداث تراود كول صور من ذاكرته عندما كان طفلًا، لرجل يُصاب بطلق ناري أمامه في المطار ويقع بين ذراعي مرافقته، لا تفارق هذه الذكرى كول، ليكتشف في النهاية أنّه هو فعلًا الرجل المصاب بالطلق الناري وأن نسخته الأصغر سنًا رأته يموت، لتنطلق الحلقة المغلقة من جديد.

*من أشهر الأفلام التي تحدثت مؤخرًا عن هذه المفارقة فلم يحمل اسم المفارقة نفسها:Predestination.


المفارقة الوجودية Bootstrap\Ontological Paradox

في هذه المفارقة، تؤدي عودة أشخاصٍ أو معلوماتٍ أو أشياء إلى الماضي لحدوث حلقة غير منتهية من الأحداث، دون معرفة أصل الحدث الأول، ويبقى هذا «الشيء» موجودًا رغم عدم معرفة كيفية وصوله إلى الوجود أو من قام به في المقام الأول.

إحدى الأمثلة التي تُطرح في هذه المفارقة، أن يقوم مسافرٌ عبر الزمن بأخذ مخطوطة رياضيّة والعودة إلى الماضي، ليلتقي بكاتب المخطوطة نفسها لكن قبل أن يقوم بكتابتها فعلًا، ويقدّم له هذه المخطوطة، ثم يقوم الكاتب الرياضيّ بنشرها في المستقبل، في هذه الحالة من كتب المخطوطة فعلًا؟

بعكس المفارقة السابقة، تقترح هذه المفارقة أنّ المستقبل، والحاضر والماضي، أشياء غير محددة فعلًا حيث لا وجود لخطوط تفصلها عن بعضها، وينتج عن ذلك مشاكل عن «أصل» وجود أيّ شيء. رغم تعقيد هذه المفارقة إلا أنّ معادلات آينشتاين تسمح بمنحنيات الزمن المغلقة CTC(Closed Timelike Curve) .

تختلف مفارقة الوجودية ومفارقة القدر عن المفارقات الأخرى بأنّها تشكّل حلقة مغلقة في الزمن، حيث أن المسبب والسبب يظهران بشكل مستمر لإعادة إنتاج النتيجة نفسها. هذا الحدث المسبب لذاته لا يعارض فعلًا أيّ شيءٍ حصل في ماضيه، بل على العكس يسعى لإحداثه.


مشاكل المفارقة الوجوديّة

قانون السببية: رغم أنّ مفارقة الوجود تخرج بنتيجة متفقة مع الخط الزمنيّ، إلّا أنّها تعارض قانون السببية، وبالتالي فإنّ العلماء لا يستطيعون أن يقولوا بأنّ هناك «سببًا» أدى إلى حدث مستقبلي، لأنّ الحدث المستقبلي هو الذي أدّى لظهور السبب في الماضي. بذلك تقترح هذه المفارقة أن الماضي، الحاضر والمستقبل كلها موجودة بشكلٍ مستمر وكلّها تؤثر على بعضها بشكل غريبٍ أحيانًا، وربما تصبح تسميّة «الماضي» حينها عديمة القيمة.

قوانين الديناميكا الحرارية: مشكلة أخرى تسببها المفارقة الوجوديّة، وهي معارضتها للقانون الثاني من قوانين الديناميكا الحرارية، والذي يقول أنّ النظام يتجه من حالة الترتيب إلى حالة الفوضى، أيّ أنّ الجسم أو المعلومات العالقة في الحلقة المغلقة يجب أن تتهالك بشكلٍ مستمر ثم تفنى، ولكن المفارقة تمنع ذلك، وتستمر بإنتاج ذاتها بشكل متجدد.

أحد الحلول المطروحة هو اعتبار أن الإنتروبيا تُعكس عند السفر عبر الزمن، وعن ذلك يقول نوفيكوف، البروفسور الروسي، أن القانون الثاني من الديناميكا الحرارية ليس قانونًا مطلقًا، بل قابليةً إحصائيّة ذات قيمة عالية، أيّ إنّ الاحتمال الأكبر هو خضوع الكون والزمن لهذا القانون، لكن ليس من المستحيل خرقه.


مفارقة قتل هتلر Let’s Kill Hitler Paradox

تكمن مشكلة هذه المفارقة في اسمها، هل ستقتل هتلر؟ إن عدت في الزمن حقًا وقمت بقتل هتلر، سيختفي بالتالي سبب عودتك بالزمن، لماذا عدتَ إذًا؟ لا أحد يعلم.

بالإضافة إلى التناقض البنيوي في هذه المفارقة، علينا ألّا ننسى الأثر الكبير المترتب على موت هتلر قبل الحرب العالمية الثانية، أي أنّ فقدان هتلر سيغير التاريخ بصورةٍ هائلة.

لنفرض أنّك نجحت في قتل هتلر فعلًا، فإنّك ستغير الحاضر/المستقبل بعد ذلك، في هذه الحالة لن يغادر العلماء والفيزيائيون الألمان إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وربما خسر برنامج الفضاء أهم العقول التي أدت لإنتاج حاضره، والذي ربما قد يؤدي في المستقبل لـ «السفر عبر الزمن». إذًا بسبب فعلتك هذه، ألغيت إمكانية السفر عبر الزمن، وبالتالي إمّا أن تختفي أنت بعد قتل هتلر، أو أن تختفي آلة الزمن الخاصة بك لتبقى عالقًا في برلين بعد أن قتلت قائد جيش من أقوى الجيوش العسكرية في التاريخ.

لكن يبدو أن توم هانكس لا يوافقني الرأي!


مفارقة بولتشنسكي Polchinski Paradox

الحلول المقترحة لمفارقة بولتشنسكي.

قدم الفيزيائيّ النظريّ جوزيف بولتشنسكي (Joseph Polchinski) -العالم الذي قدم ورقة عن مفارقة الحائط الناري للثقوبالسوداء 2012- سيناريو لمفارقة زمنيّة أخرى، حيث تدخل كرة بلياردو ثقبًا دوديًا وتخرج من الطرف الآخر (في الماضي) في الوقت التي كانت تدخل فيه النسخة «الأصغر زمنيًا» الثقب الدوديّ وبذلك تمنعها من الدخول فيه في المقام الأول. تمّ أخذ هذه المفارقة بشكلٍ جديٍّ من قبل الفيزيائيين، حيث لا يوجد ما يمنع السفر عبر الزمن في نظرية النسبية العامة لآينشتاين.

عندما قام جوزيف بولتشنسكي باقتراح المفارقة، كان قد فكر سابقًا بمبدأ حفاظ الذات لنوفيكوف، والذي ينصّ على أنّ السفر عبر الزمن ممكن، لكن بشرط أنّ المفارقات غير ممكنة الحدوث.

تمّ تقديم عدّة حلول للتخلص من التناقضات التي طرحها بولتشنسكي، ومنها أنّ كرة البلياردو كانت تصطدم بنسختها الأصغر سنًا بطريقة لا تمنعها من الدخول في الثقب الدودي، بل فقط تغيّر مسارها بشكل صغير جدًا. يرتبط هذا الحل بفرضيّة «حماية الخط الزمني» والتي تقول بحرف الاحتمالات ليحصل الناتج الذي يمنع المفارقة من الحدوث. نفس هذه الفرضية تمنعك من قتل جدك، شيء ما سيحصل دومًا للحفاظ على الخط الزمني في طريقه الصحيح.

هل تعتبر النبوءات المحققة لنفسها نوعًا من أنواع المفارقات؟

(الحلول المقترحة لمفارقة بولتشنسكي)

تعتبر النبوءة المحققة لذاتها حلقة سببية فقط عندما تكون النبوءة معلومة التحقق وأنّ الأحداث المستقبلية هي التي أدت لحدوث الأشياء التي تمّ التنبؤ بها مسبقًا، كالمقولة التالية «ستسيطر القطارات التي تسير بواسطة الرفع المغناطيسي على أشكال النقل كافةً بسبب سرعتها العالية وكلفتها المنخفضة».

بدءًا من هذه المعلومة، يقوم الناس بالتخطيط لبناء شبكات القطارات عالية السرعة، وتبدأ المعامل بتجهيز القطع اللازمة وشيئًا فشيئًا تتحقق الجملة في المستقبل، لأن الناس عاملوها كما لو أنّها حقيقة وليس ككونها تنبأً. لمعرفة المزيد عن النبوءات المحققة لذاتها يمكنك مشاهدة المقطع التالي:

https://www.youtube.com/watch?v=obhciS90EWA

في المقال القادم سنتحدث عن أشهر مفارقة بين هذه المفارقات ونذكر أهمّ ما توصّل إليه العلماء لحلّها، مفارقة الجدّ! The Grandfather Paradox.

المراجع
  1. TIME TRAVEL IS REAL. HERE ARE THE PEOPLE AND SPACECRAFT WHO HAVE DONE IT
  2. Time Travel Simulation Resolves “Grandfather Paradox”
  3. Time travel IS possible – but only if you want to go to the future and not come back, says Professor Brian Cox
  4. 5 Bizarre Paradoxes Of Time Travel Explained
  5. Professor predicts human time travel this century
  6. STEPHEN KING'S RULES FOR TIME TRAVEL
  7. COSMONAUT SERGEI KRIKALEV, THE WORLD’S MOST PROLIFIC TIME TRAVELER
  8. Time travellers: please don’t kill Hitler