عن العمر كخيال
قد تهديك هذه الجملة هاجسًا أو سلوى، لكنها في الحقيقة لا تقول لك ما تجهله، يراودك الزمان أمام المرآة، أمام مجموعة لم يبقَ منها سوى فنجان بلا يد، في حفل زفاف صديق، وفي ليالٍ ثقيلة تفكر فيها مَنْ أنت.
كان أينشتاين في السادسة والعشرين من عمره حين نشر نظريته عن النسبية، نظرية سترسم ملامح تصورات القرن العشرين عن الوقت، لكن قبل أن يُلقي بنفسه على كرسيه مُحتفلًا، يتساءل عالم الفيزياء «آلان ليتمان» عن الأحلام السابقة التي راودت أينشتاين عن الزمن؛ هل راوده أن يُجمِّد اللحظة؟ أو ربما جال في خياله أن الزمن دائري يكرر لأصحابه النجاح والفشل.
يلبس ليتمان الثواني نقوشًا من حرير وردي، يتخيل الزمان مُمتدًّا ومنتهيًا، لئيمًا وكريمًا، مُبحرًا في تقاطعات خياله وخيال ألبرت الشاب، الذي دل صغر عمره النسبي عند هذا الاكتشاف على أن الزمن شغل كل عقله وأحلامه.
الزمن… العمر والتصور
يقول «نيوتن سميث»: «لا توجد أي حقائق لا تصورية ولا تجريبية يمكنها أن تُحدِّد بصورة مطلقة القياس الوحيد الصائب للزمن». ففي حين يتجادل الفلاسفة عن عقلانية أو لا عقلانية الزمن كمفهوم، وتتسابق النظريات العلمية بنتائجها التي تؤثر قبل كل شيء على شعور المرء بالوقت كجزء مضى ولن يُستعاد من عمره، تُروى عند ذكر النسبية قصيدة شعبية:
نحن أكثر المخلوقات وعيًا بالزمن، لأننا نعي بغُصة أن وقتنا محدود، لذا شغل تفسيره قلب الأسئلة الأولى، وشكَّل التفلسف والإجابة حجر أساس لتصوراتنا عن الكون، عن ذاتنا، وعن المجتمع.
يترتب على العمر واجبات أخلاقية واجتماعية، ويبعث التفكر في الزمن مشاعر متضاربة، قد تكون الأنس بالذكرى، أو ربما الضعف مُستسقًى من ضعف الطفولة، ولكن أكثرها الشجن.
يمتلئ تاريخ الشعر العربي بالبكاء على الأطلال، فيقول امرؤ القيس «قِفا نَبكِ»، وكأن سؤال الزمن هيكل لوجدان القصيدة، في حين يرى توفيق الحكيم العمر سجنًا، ويراه «مارسيل بروست» موضوعًا يُتأمَّل ويُنسَج فيه سبعة أجزاء بحثًا عن الزمن المفقود.
تُروَى رحلة العمر من معجزة الولادة، مسبوقة بتسعة أشهر، في بدايتها حملت حملًا خفيفًا فمرت به، وفي نهايتها يدفع الثقل للالتجاء: «دعوا الله ربهما». ثم نتذكر أن هذه البداية الوشيكة مرتبطة بعهد قديم: «ألست بربكم قالوا بلى شهدنا»، مرتبطة بزمن آخر ووعي سابق، يستبدل باحتواء الطفل في جسد الأم التصاقًا خارجيًّا يُحدد بعامين.
يبدأ الطفل باكتشاف زمانه ومكانه، ويُشكِّل ما يلقى في طريقه داخل العمر هويته. يتعاظم الاستكشاف، ويُناط عند السابعة بالتذكير بما سيترتب على الوقت من واجبات دينية كخمس صلوات لزمانها بداية ونهاية وداخل الزمان أوقات فضيلة واختيار وضرورة، ترتبط الأركان الأربع بعد الشهادتين بالوقت، ويرتبط التكليف بالعمر، وكذا الأشد، وحتى رجاحة الرأي والحكمة، فسؤال العمر: «وعن عمره فيما أفناه» يجعل تصور المسلم عن العمر لا يُحدَّد بالكم فقط، بل بالكيفية والقيمة.
يقول العالم والأديب المغربي «فريد الأنصاري»:
في حين يكون قصر العمر عددًا خيالًا سابقًا لعمر أبدي وحياة أبدية في الآخرة. فيقول «محمود سامي البارودي»:
تتنوع صورة الزمن والعمر باختلاف الثقافة، كالكارما باعتبار الزمن دائرة يتحدد شكل مركزها بعواقب أفعالك، أو أسطورة الساموراي، حيث يمكنك أن تحظى ببداية جديدة متى امتلكت شجاعة المفارقة.
العمر والجسد
في لقاء للفيلسوف الفرنسي «غاستون باشلار» سأله الصحفي: هل من المحزن أن تكون عجوزًا يا سيد باشلار؟ وربما توقع أن يرد فيلسوف الظاهراتية بإجابة مختلفة، لكنه قال: أجل محزن جدًّا جدًّا.
عند ذكر العمر ربما لا يتوارد إلى الذهن سوى ألم واحد وهو الشيخوخة، لا تريد أنثى أن تفقد جمالها، ولا يرتاح رجل أن يفقد قوته، كل شعرة بيضاء إنذار غير مُرحَّب به، ويعدك المال بمحاربة تهدل الجسد وتساقط الشعر وأيًّا كان ما يُؤرِّقك، شريطة أن تتأهب للشبح.
عارضات الأزياء تنصح باستعمال مستحضرات التجاعيد منذ السادسة عشرة، وينصح أطباء الجلدية بحقن البوتوكس مبكرًا لتدوم النتيجة لزمن أطول، وأصبح أطباء التجميل ضيوفًا شبه دائمين في برامج التوك شو، وكأن مشكلة التجميل هي شغل الطب الشاغل، أو أن الجسد لا يفقد مع الوقت سوى صورته في الخيال، ربما سيصبح قبول عمر الجسد استسلامًا، ولا نريد بطبيعة الحال أن نكون مهزومين.
يحمل الجسد آثار الرحلة وعناوينها، للخفة دلالات الصبا، وللثقل دلالات الوقت، دلالات الأمومة في الجسد أحيانًا، دلالات الألوان والطقوس التي مرت، دلالات المقاومة والحزن في رأس التونسي الذي صرخ: هرمنا، ودلالات مواضع السيوف في جسد خالد بن الوليد.
ربما لهذا يقول الروائي التركي «أورهان باموق» في «الكتاب الأسود»: