عن الموت الذي يجري في عروقنا
كان تقف في المطبخ لأول مرة منذ أسبوعين تقريبًا على أروع حدث مرَّ في حياتها. أرادت أن تستغل الهدوء الذي يسبق عاصفة بكاء الرضيع في العودة إلى مملكتها، واستعادة اعتمادها على نفسها مجددًا في شئون منزلها.
كان أول يومين بعد الولادة القيصرية هما الأصعب، لكن تحسنت الأمور بعدها، ومع ذلك أصرت والدتها وقريباتها وصديقاتها على إخضاعها لراحة إجبارية طويلة، لا تكاد تقوم من سريرها إلا لدخول دورة المياه!
لا تدري متى بدأ ما حدث، لكنه حدث.
فجأة أصبحت لا تتمالك أنفاسها وكأنها في سباق عدو أوليمبي؛ تسارع غريب في ضربات القلب، فيضانات من العرق تنهمر من كل شبر في جسمها، سكين مغروس في جانب صدرها الأيسر، ومع كل نفس، تشعر وكأن السكين ينغرس أكثر فأكثر.
فجأة بدأت الدنيا تظلم من حولها، فصرخت بأعلى صوت باسم زوجها، ثم سقطت على الأرض.
لعبة التوازنات في أجسامنا
تقوم حياتنا كلها على متضادات. الليل والنهار، الأرض والسماء، الفراغ والشغل، الجد والهزل … إلخ حتى أن العلماء يتحدثون عن أن الكون بأكمله مصنوع من مادة، ومضاد المادة (anti-mutter)، والتفاعل والتوازن بينهما هو سر الحياة واستمراريتها.
ويتجلى هذا التوازن الرائع في تركيبة وعمل أجسامنا الأصلية. فهناك مثلا جهاز عصبي يتحكم في أوقات الراحة والنوم (parasympathetic)، وآخر يتكامل معه يختص بالطوارئ والانفعال (sympathetic). هناك خلايا مناعية لمكافحة العدوى وهناك خلايا لتهدئة رد الفعل المناعي فلا يضر أكثر مما يفيد. هناك ما يسرع نبض القلب عند الحاجة، وهناك ما يُهدِّئُهْ … إلخ.
وفي فسيولوجيا الدم ما يقاس على ما سبق. الدم هو جهاز حيوي للغاية، وأي تغير جوهري في كميته أو لزوجته أو محتوياته له ثمن كبير على حياة الإنسان. ولا داعي للخوض كثيرا في الكلام الإنشائي المكرر عن سائل الحياة الأحمر الذي يحمل الأكسجين والمغذيات لكل خلية في الجسم ويأخذ منها فضلاتها وثاني أكسيد الكربون للتخلص منه… إلخ ما كان في كتاب العلوم للصف الرابع الابتدائي.
سنركز هنا على التوازن الخطير في دمائنا في منظومة التجلط (coagulation pathways).
عنق الزجاجة
مرت دقائق عصيبة وهم ينهبون الأرض نهبا متجهين إلى مستشفى الطوارئ ومعهم المسكينة التي لم تكدْ تهنأ بمولودها. ما زالت أنفاسها تتلاحق كأنما تتصعَّد في السماء. وصلوا أخيرًا ليجدوا ازدحاما غير طبيعي في مدخل الاستقبال. كانت الأجواء مُلبَّدَة بالتوتر والقلق، وعدة سيارات إسعاف تهز الكون والقلوب بنواقيسها المرعبة. اندفع زوجها خارجا من السيارة يهيم بحثا عن طبيب وسط هذه الفوضى. أخيرا وجد أحد ذوي البالطو الأبيض، وحاول أن يشرح له، لكن لم يمهلْه الأخير جزءًا من الثانية حتى قال له في ضجر واضح «هنا استقبال الجراحة والحوادث، خدها استقبال الصدر أو القلب». كتم انفعاله واندفع نحو البوابة يسأل عن مكان استقبال القلب فدلَّهُ أحد أفراد الأمن في رتابة آلية باردة. لا يدري لم اختار القلب. لكنها تقول أن ألمًا شديدًا في جانب صدرها الأيسر … أليس هذا مكان القلبِ من قلبي؟!. كتم دموعه بصعوبة شديدة، وخلال دقيقتين كان في استقبال القلب.
كان الازدحام والفوضى أقل نسبيًا لحسن حظه، انتظر 15 دقيقة كانت أطول مما مرَّ من سنيّ عمره حتى جاء دورهم وقابلهم طبيب يبدو عليه أنه لم يذُق النوم منذ القرن الماضي وأدخلهم إلى غرفة الكشف.
كانت حالتها الظاهرة في قمة السوء، وبدا كأنها في عالم آخر، قام الطبيب متثاقلا من كرسيه ليقوم بجس نبضها عند المعصم (radial pulse)، وهنا بدأت يقظة مفاجئة في الظهور على وجهه. وأخذ يقيس الضغط ويستمع إلي أنفاسها في اهتمام شديد، ثم قام بفحص جسمها سريعا، وتوقف كثيرًا عند ساقها اليسري التي بدت أكبر وأكثر توردًا وسخونة من اليمنى. ثم اندفع في توتر تجاهه ..«ما الذي حدث لها؟ وأوجز فلا وقت لدينا».. لم يكد الزوج يذكر قصة الولادة القيصرية من أسبوعين .. حتى صاح الطبيب .. «إلى العناية المركزة فورًا» ….. وكانت صاعقة على الزوج والأهل.
عن الجلطات التي تحيي وتميت
أودع الله في دمائنا منظومة رائعة متوازنة للحفاظ على جريانه ووصوله إلى كل خلية في أجسامنا. والدورة الدموية ابتداء من القلب مرورا بالأورطى والشرايين الكبري والأوردة العظمي وصولًا إلى أصغر شعيرة دموية تحت مجهرية هي وحدة مغلقة مترابطة. عندما يجرح أحدنا وتسيل دماؤه، تحتك صفائحنا الدموية (platelets) – وهي خلايا فائقة الصغر يتواجد منها في المتوسط 300 ألف لكل مل من الدم ! – بمكان الإصابة، فتبدأ تفاعلًا متسلسلًا، تحفيز للصفائح وتجمعات للمزيد منها، والتصاق، وحشد وتفعيل لعوامل التجلط التي يصنعها الكبد ويودعها في كل شبر من دمائنا .. مظاهرة دموية تنتهي بتكون جلطة متماسكة تغلق الوعاء الدموي المفتوح وتوقف النزيف. لولا هذه المنظومة لظل الدم يتسرب عبر الجرح من المنظومة الدموية حتى آخر قطرة… إلى هنا والأمور طبيعية. ومع التئام الجرح داخليًا – وخارجيًا بالطبع – يكون قد تم التخلص من الجلطة بعد أن أتمت دورها على أكمل وجه. ويتم إعادة الاستقرار إلى نصابه في المنظومة.
لكن تأتي الكوارث عندما تغير بعض العوامل – وراثية ومكتسبة – من الطبيعة المتناسقة المتوازنة لهذه المنظومة. يحلو للبعض أن يلخصوا هذه الكوارث في ما يسمى «مثلث فيرشاو Virchaw triad». فيتم تفعيل المنظومة السابقة داخل الأوعية الدموية، فتقوم بسدها وينقطع سريان الدم. وبدلا من حماية حدود الدورة الدموية، يتم تمزيق أواصرها، وإيذاء أهم مناطق الجسم بحرمانها من أكسير حياتها.
أولا:
عوامل تتلف النسيج الطلائي المبطن للأوعية الدموية والذي يمتاز بنعومته وتناسقه «endothelial dysfunction»، مما يتسبب في احتكاك الصفائح الدموية بالأجزاء التالفة، فيبدأ التفاعل المتسلسل داخل الوعاء كما يحدث في حالة الجرح الخارجي.
عوامل وراثية غير مفهومة قد تكون السبب، لكن هناك أمراض كارتفاع ضغط الدم، والسكر، وأمراض المناعة الذاتية التي تستهدف جدران الأوعية (vasculitis) لها علاقة جوهرية بهذه المشكلة.
ثانيا:
تغيرات في طبيعة محتويات الدم تميل كفة التجلط «Hypercoagulability»، كزيادة شديدة في كمية الصفائح الدموية (essential thrombocytosis) أو كرات الدم الحمراء (primary polycythemia)، وتغيرات في طبيعة عوامل التلجط الجوهرية كعامل التجلط الخامس (factor V leiden)، أو أجسام مناعية ذاتية تحفز آليات التجلط كما يحدث مع مرض الذئبة الحمراء SLE خاصة نمط منه يسمى «anti-phospholipid syndrome». أمراض المناعة الذاتية إجمالا تزيد فرص التجلط. وكذلك مختلف أنواع السرطانات الخبيثة وجد الباحثون لها علاقة مباشرة ومؤكدة بالتجلط.
العوامل السابقة وأكثر منها لا دخل للإنسان في حدوثها غالبًا. لكن هناك عوامل نحن نسببها بقصد أو غير قصدا. فمثلًا العمليات الجراحية تسبب توترًا في بيئة الجسم يزيد فرص التجلط. الحمل كذلك يغير من هرمونية الجسم واتزانه فيزيد كثيرًا فرص التجلط.
ثالثا:
ركود الدم (Stasis). دائما في حياتنا السريان هو الحياة، والركود هو الموت. وهذا العامل خصيصا يزيد فيه دور المكتسب عن الوراثي. فكل ما يسبب نقص في حركة الجسم يسبب ركود الدم، فتزداد التفاعلات بين مكوناته ويحدث التجلط المرضي. وهنا تبرز العمليات الجراحية إلى الواجهة خاصة الصعبة منها والتي تتطلب من المريض راحة إجبارية طويلة كعمليات العظام والكسور أو جراحات المخ والأعصاب ..الخ. كذلك للسمنة المفرطة والحمل والولادة مكانة خاصة في هذا الإطار.
وغالبا ما تتكون جلطات الركود في أوردة الجسم (veins) أكثر من الشرايين (arteries)، وذلك لنقص المحتوى العضلي في جدران الأوردة، مما يسهل ركود الدم داخل الوريد في حالة سكون الجسم إلى عدم الحركة، إذ لا يوجد انقباض عضلي في جدران الأوردة يقلب الدم ويقلل احتمالات تجلطه.
قد يحمل الشخص في دمه كل ما سبق أو نقطة منه، حتى تأتي لحظة مناسبة تندلع فيها الشرارة (راحة زائدة في السرير prolonged immobilization حيث أن الحركة تزيد من سريان الدم وتقلل ركوده، إذ تعمل عضلات الأطراف كأنها قلوب طرفية تدفع الدم في أرجاء الجسم // رحلة طويلة متواصلة على مقعد طائرة أو أتوبيس … إلخ // جفاف نتيجة التعرق الشديد من التعرض للحرارة، مما يسبب زيادة لزوجة الدم، ونقص الجزء المائي الذي يحفز السريان // تعاطي أدوية تزيد فرص التجلط كمعظم حبوب منع الحمل … إلخ).
بين الموت والحياة
«لازم أكون صريح معاكم، الحالة عندها هبوط حاد في الدورة الدموية وضغط الدم غير مسموع، ونقص شديد في أكسجين الدم، وأشعة الإيكو العاجلة – موجات صوتية على القلب – أظهرت ما كنا نشك فيه. جلطة كبيرة في الشريان الرئوي الرئيسي pulmonary embolism) سببت اتساعًا وفشلًا حاد في وظائف الجانب الأيمن من القلب وارتجاعًا شديدًا في الصمام الثلاثي، وعايزين موافقتكم على استخدام مذيب الجلطة «fibrinolytic» بجرعة مكثفة وسريعة لمحاولة إذابتها. وعشان أكمل صراحتي معاكم، المذيب خطير وله آثار جانبية شديدة زي الحساسية المفرطة أو نزيف المخ. والتأخر في إعطائه خطر على حياتها، وحتى لو نجت، هتطلع بمشاكل مزمنة في القلب والشريان الرئوي هتعجِّزها»
وقًَّع الزوج المكلوم بدموعه قبل قلمه على وثيقة الموافقة على الموت المحتمل بدلًا من الموت العاجل. وكان في حالة من الشرود والذهول لم يجربها في حياته.
مرت 5 ساعات كاملة وهو مُتسَمِّر على باب العناية يتلصص أي خبر من الداخل. هنا خرج الطبيب فجأة، وناداه. هرول الجميع وقلوبهم تسبقهم للاستماع : «الحمد لله نقدر نقول حدث ذوبان ولو جزئي للجلطة، وبدأ ضغطها يرفع، ونفسها بقى أحسن. الشريان الرئوي ده بيعدي منه دم الجسم كله كل دقيقة، فكونها لسه بيننا لغاية دلوقت معجزة». لم يشعر الزوج بنفسه إلا وهو يحتضن الطبيب! الذي بدا عليه مزيج من التأثر والارتباك: «هدخلكم تطمنوا عليها، لكن واحد واحد، ونص دقيقة بالضبط، عايزينها ترتاح». سأله والدها: «إزاي شابة سليمة لا عندها سكر ولا ضغط ولا قلب يجيلها جلطة كبيرة كده يا دكتور؟ احنا عيلتنا الحمد لله كلهم ما حصلهمش حاجة من كده لا كبار ولا صغار؟!».
أخذ الطبيب نفسًا عميقًا ثم قال: «الراحة الزايدة بعد أي عملية خطر جدًا، والقيصرية بالذات عشان الحمل بيزود عوامل تجلط الدم، وبتعمل ركود في الدم فتحصل جلطات في أوردة الساق الكبيرة (Deep vein thrombosis DVT)، ومع أول حركة كبيرة بعدها، تتفتت الجلطات ديه وتطلع على الشريان الرئوي ومنه على الرئة اللي بتصفيها لو صغيرة، لكن لو جلطة كبيرة ممكن تقفل الشريان الرئوي أو فرع مهم منه، وده اللي حصل للمريضة بتاعتكم. ثم أردف قائلًا: «المفروض في العمليات الخطيرة اللي بتحتاج راحة إجبارية بعدها، المريض بياخد جرعة وقائية محسوبة من مضادات التجلط عشان نمنع القصة ديه، وبننصحه يتحرك أول ما الجراح يسمحله علطول».
عمر جديد
بعد 6 أيام، كانت المريضة تغادر المستشفى وكأنها خلقت خلقًا آخر. أو كأنها أخرى غير التي كانت في البرزخ منذ أقل من أسبوع. كافة التحاليل والأشعات الخاصة بالأمراض الوراثية والمناعية وكذلك الأورام جاءت سلبية لحسن الحظ. وأشعة الأيكو قبل الخروج أظهرت تحسنًا كبيرًا في وظائف الجانب الأيمن من القلب.
كانت تعلميات الطبيب صارمة؛ لا بد من الحفاظ على معدل سيولة الدم 2-3 أمثال الطبيعي لمدة 3 أشهر على الأقل، وذلك بالمواظبة على تعاطي الأقراص المضادة للتجلط يوميًا، ومتابعة تحليل نسبة السيولة INR أسبوعيا لتعديل الجرعة حسب نتيجة التحليل. ولا بد من شرب كمية وافرة من السوائل، وتجنب الحركات العنيفة والإصابات وقاية من النزيف.
كان تشكر الله من أعماق قلبها أن كتب لها عمرًا جديدًا مع زوجها الحبيب وابنها الذي لم تكد تهنأ به. ودعته سبحانه أن يتم عليها الشفاء الكامل، وأن تطوي هذه الصفحة القاسية ولا تعود إليها أبدًا أبدًا.