عن «الرسوم المسيئة» لأم كلثوم
يحكي المخرج الكبير يوسف شاهين عن لقائه الأول بأم كلثوم، يقول انها طلبت منه أن يصور أغنيتها القادمة، كانت أغنية طوف وشوف، استمع لها شاهين وأخبرها:
يستكمل شاهين الحوار بأنه طلب منها أن تحكي له عن حياتها والمواقف التي مرت بها، ومن المعروف أن شاهين كان يعتزم إخراج فيلم عن حياتها ومن بطولتها، ما الذي جذب شاهين ليفكر في مثل هذا الأمر؟
هل رأى الحب سكارى؟
عام 1967 وبعد هزيمة النكسة، تقف أم كلثوم على مسرح في فرنسا، تطرب مستمعيها بأغنية الأطلال، يندفع أحد المستمعين إلى خشبة المسرح ويتشبث بقدميها عازمًا على تقبيلهما، ومع مقاومة أم كلثوم ومحاولتها لتخليص قدميها من قبضتيه، سقطت على المسرح، لكنها وهي صاحبة السبعين عامًا تنهض بأسرع ما يمكن وتكمل الغناء، تشير إلى الشاب الذي اقتحم المسرح «هل رأى الحب سكارى بيننا».
هذا المشهد بأكمله لم يستطع «فاروق إبراهيم» المصور الخاص بأم كلثوم تجاوزه، سجل الموقف كاملًا ونشرت صحيفة الأخبار تلك الصور في صفحتها الأولى. فوجئت أم كلثوم بنشر الصور وغضبت من مصوّرها، لأنها رأت أن البعض قد ينظر إلى سقوطها كأنه سقوط للبلاد نفسها خصوصًا بعد هزيمة النكسة. حكى فاروق إبراهيم أيضًا أنه حاول كثيرًا الاعتذار لأم كلثوم واستلزم الكثير من الوقت حتى تقبل اعتذاره.
في رواية أخرى حكاها كريم فاروق إبراهيم أن والده حين صوّر سقوط أم كلثوم أرسل الصور فورًا إلى مصر لتظهر على الصفحة الأولى في الجريدة، وحين رأتها أم كلثوم وسألت فاروق أخبرها أن المصور اليهودي ربما فعل ذلك، وحين علمت بأن فاروق نفسه صاحب الصور الحقيقي غضبت وقاطعت فاروق، وبعد محاولات عديدة منه في التودد لها قبلت اعتذاره وقالت له «الراجل لو كدب يعمل أي حاجة» وكان العقاب ألا يناديها مجددًا باسم سومه.
للصبر حدود يا موجي
كان محمد الموجي أول ملحن تستعين به أم كلثوم غير رياض السنباطي وزكريا أحمد، وقعا عقدًا لأغنيتين يقوم الموجي بتلحينهما خلال شهر واحد، لكن الموجي تأخر على تسليم اللحنين حتّى 6 أشهر، رفعت أم كلثوم قضيّة على الموجي وتوجه إلى المحكمة، واعترف أمام القاضي بتأخير اللحن، أمره القاضي بأن يخرج اللحن، رد الموجي «افتح راسي وخرّج اللحن»، ورد القاضي «عندك حق يا موجي هحفظ القضية وانت حر مع أم كلثوم».
اتفق الموجي وأم كلثوم على أن ينجز اللحن وهو ما حدث، لكن الست اعترضت على تلحين مقطع «متصبرنيش ما خلاص أنا فاض بيا ومليت» وطلبت منه إعادة تلحينه، رفض الموجي واعتكف في منزله حتى توسط عبده صالح والحفناوي وأقنعاه بالرجوع إليها، غنّت أم كلثوم لحن الموجي ونجحت الأغنية نجاحًا عظيمًا.
القصبجي والحب الأفلاطوني
تعرف القصبجي على أم كلثوم في أوائل العشرينيات، أعجب بصوتها وأدائها المتميز، تعلمت منه المقامات والعود وشكلا معًا ثنائيًا غنائيا متميزًا وصل إلى الذروة في (رق الحبيب).
تعاون القصبجي مع أسمهان وليلى مراد، لكن أم كلثوم رفضت هذا التعاون وأرادت احتكار القصبجي ولكن القصبجي رفض، في نفس الوقت الذي بدأت فيه التعاون مع رياض السنباطي، كسى الفتور علاقة القصبجي بأم كلثوم، وصل هذا الفتور إلى قمته بعد فيلم (عايدة) الذي فشل جماهيريًا، وأحالت أم كلثوم هذا الفشل إلى ألحان القصبجي التي رأت أنها تجاوزها الزمن ولم تعد كالسابق، ابتعدت عن ملحنها الأول، حتى قرّر هو اعتزال التلحين.
أحب القصبجي الست حبًا كبيرًا وظهر ذلك في خطاباته إلى أم كلثوم أثناء مرضها، وارتضى بأن يتحوّل من قائد الفرقة إلى عوّاد يجلس وراءها. وحكى الناقد طارق الشناوي في كتابه (أنا والعذاب وأم كلثوم) أن القصبجي حين علم بزواج الست من محمود الشريف ذهب إليه بمسدسه وهدده حتى ينهي علاقته بها. وفي مارس 1966 رحل القصبجي تاركًا مكانه شاغرًا خلف أم كلثوم التي احتفظت بكرسيه خاليًا إلا من العود، وبقيت الفرقة بدون عازف حتى عام 1969، وحين سئلت أم كلثوم عن الكرسي الخالي، قالت القصبجي رحل بجسده فقط، لكن روحه ظلت بجوارها.
وسام الكمال
نظم القصر الملكي حفل زفاف للأميرة فوزية ابنة الملك فؤاد الأول والملكة نازلي، والأمير محمد رضا بهلوي (شاه إيران فيما بعد)، وطلبت الملكة نازلي من أم كلثوم أن تحيي حفل الزفاف بل وتقوم بزفة العروس، رفضت أم كلثوم زفة العروس وبعد تدخل الوسطاء رضخت أم كلثوم وكلفت بيرم بكتابة (مبروك لسموك وسموه)، وقرّرت ارتداء فستان أسود، علمت الملكة بهذا الأمر وأمرتها بتغيير لونه فقامت بتغيير لون بطانة الفستان من الأسود إلى اللون الزهري، وكانت تلك أول مرة يبطن فيها فستان أسود بلون آخر.
بعد إحيائها لحفل في نادي الجزيرة، منح الملك فاروق وسام الكمال إلى أم كلثوم ذلك الذي يُمنح إلى الأميرات وزوجات الوزراء، بدأ الهجوم على أم كلثوم، حتى أعلنت إحدى الأميرات أنها سوف تعيد وسامها إلى الملك فاروق، شعرت أم كلثوم بالإهانة حتى تواصلت معها صفية زغلول وأخبرتها أنها تشعر بالشرف لأنهما يحملان ذات الوسام.
شرف ولا مقلب!
يقول حليم في مقال كتبه في مجلة الموعد اللبنانية إنه التقى أم كلثوم عام 1958 في منزل الدكتور زكي سويدان، والتقى بها مرات كثيرة بعد ذلك، لكن ذكرياته تتوقف عند عام 1964 حين اشترك معها في إحياء حفلات عيد الثورة في نادي ضباط القوات المسلحة في الزمالك، وحينها قررت أم كلثوم أن تغني وصلتين بينما يختم حليم الحفلة بعدها. ذهب إليها حليم لتسمح له بالغناء بين وصلتيها ورفضت لأنها أرادت الانتهاء لتستريح، انتهت أم كلثوم وصعد هو إلى المسرح وقال:«استاذ عبد الوهاب والست أم كلثوم أصروا أن أنا اختم الحفلة، ده شرف كبير، معرفش هو شرف ولا مقلب». غضبت أم كلثوم وذكر حليم أنه وكان لابد من أن يصالحها «ذهبت إليها في فيلتها بالزمالك لأجدها لا تزال واخدة على خاطرها، وقلت لها: أنا آسف أرجو ألا يكون تصرفي بالكلمة التي قلتها بحسن نية قد أغضبك».
لترد الست: «أنا غاضبة فعلًا، لم يكن من اللائق أن تقول مثل هذه الكلمة أمام ميكرفونات الإذاعة وكاميرات التلفزيون». فقال حليم: «اووووو أنا لم أخطئ، بل بالعكس كنت أمجدك وفي النهاية أنا مثل شقيقك الصغير»، لترد الست: «إخرس أنت فاكر نفسك صغير، إنت عجوز»، ثم ابتسمت.
وفي رواية أخرى ذُكر أن الخلاف بينهما بسبب هذا الموقف ظل حتى عام 1970 في حفل خطبة ابنة السادات حين قبّل حليم يديها وقالت له: «عقلت ولا لسه؟»، رغم أن قصة تقبيل حليم ليد أم كلثوم تلك خالفها زين العابدين خيري في مقاله المنشور على بوابة الأهرام عن المصور فاروق إبراهيم، وقال إنها كانت في حفل زفاف عمر خورشيد، في أول لقاء مباشر بينهما بعد خلاف حفل عيد الثورة، استأذن حليم من الست بأن يرافقه فاروق إلى حفل تونس، فقالت له: «إشربه، ما هو الوحيد اللى بيداري لك الباروكة». وعندها رد حليم بأنها ليست باروكة، امتدت يدها لتشد شعره، فالتقطها عبد الحليم وجذبها إلى فمه ليقبلها وهنا عادت المياه إلى مجاريها حتى وفاتهما.
ليتها عاشت!
في مطلع الستينيات خافت أم كلثوم أن تشيخ ويتجاوزها الزمن، قررت أن تغني بروح أكثر شبابية، اعترض السنباطي وشب بينهما خلاف خصوصا بعد رفضه تلحين كلمات مبتذلة مثل (حب ايه) بل اعترض على لحن بليغ نفسه لأنه لا يليق بها، لكن أم كلثوم صالحته بعد ذلك وبقى بالقرب. طلبت أم كلثوم منه أن يلحن قصيدة الأطلال، التقيا لتحديد الأبيات التي ستغنيها الست، كانت الأمور تسير في وفاق، لكن نشب الاختلاف على لحن المقطع الأخير وغضب السنباطي لتدخلها في عمله، اعتزلها رياض ولم تتم المصالحة إلا بعد تدخل عبده صالح، خرجت الأطلال إلى النور في 1966 بالشكل الذي أراده السنباطي لتلقى شهرة ونجاحا كبيرين.
لكن الخلاف الحقيقي الذي نشب بينهما كان سببه الماديات، يقول السنباطي إنه كان يطلب منها في أحيان كثيرة أن يزيد ثمن ألحانه لكنها كانت ترفض، يتركها فترة قصيرة ثم يعود، لكن في إحدى المرات امتد الخلاف عامين. وفي 1955 لحن رياض أغنية ذكريات للمطربة شهرزاد خلال قطيعته مع أم كلثوم، وشارك في عزف المقدمة بنفسه أثناء تسجيل الأغنية، شعرت الست بالغيرة الفنية واتصلت بالسنباطي لتعيد المياه إلى مجاريها مرة أخرى.
حين رحلت، اعتزل السنباطي التلحين وترك العود حتى مات بالربو في 1981 واصفًا قصة حياته بأنها أم كلثوم.
هو صحيح الهوى غلّاب؟
بدأت علاقة الشيخ زكريا أحمد بأم كلثوم عام 1919 رفقة الشيخ أبو العلا محمد حين كانت تشدو في قريتها، وصف صوتها بأنه لا مثيل له. وظل الشيخ زكريا داعمًا قويًا لها ورفيقا لها في أعمال مختلفة. بدأ الخلاف يظهر بينهما في بدايات 1947 حين اكتشف الشيخ ضياع حقوقه المادية في أغاني أم كلثوم التي لحنها والتي تتم اذاعتها وتتقاضى أم كلثوم عنها مبالغ ضخمة، طالب الشيخ الست بالحصول على نسبة من إذاعة أغانيه لكن رفضت أم كلثوم وادعت أن لديها ما يثبت تنازله عن حقوق ألحانه، وحينها قرر الشيخ زكريا أن يلجأ إلى القضاء.
انتهت الأمور صباح يوم 25 يناير من عام 1960، حين ذهبا إلى المحكمة ووقفا أمام القاضي عبد الغفار حسني، الذي ترك أوراق القضية لساعات ظل فيها متحدثًا عن خسارة الفن المصري تعاون الثنائي، رق قلب الشيخ ورق قلب الست، وبدا الخلاف حينها كسحابة صيف، اتفقا على أن يلحن لها ثلاث أغنيات، لكن العمر لم يسعفه إلا في تقديم أغنية واحدة، كانت (هو صحيح الهوى غلاب؟) لتصبح الحكاية نفسها ربما أنسب إجابة لاستفهام الأغنية.
ماذا سيبقى بعد كل هذه الحكايات؟ بالتأكيد صوت أم كلثوم الذي صار الأيقونة الأهم في شوارع مصر والعادة التي بقيت رغم تغير الأحوال.