عن الدعوة والحب
قبل ثلاثة أعوام، زُرت مولانا «وحيد الدين خان» في منزله بدلهي، وحاورته بشأن انتقاداته العنيفة للإسلام السياسي، وناقشته في مفاهيم: الدولة والخلافة، وفي طبيعة السلطة السياسية في المجتمع المسلم، وهي مساحة من فكره لا يعرف جمهرة الإسلاميين العرب عنها شيئًا؛ إذ لم تُترجَم أكثر كتبه للعربية، ناهيك عن الحجاب الثقافي الذي نسجه كتابه الأشهر في العربية: «الإسلام يتحدّى».
حقيقة الأمر أني لم أزره استقصاءً لأفكاره، التي اطلعت عليها من قبل، وساهمت بقدرٍ في تطوير أفكاري النقدية للحركة الإسلامية، ولتصورات الإسلاميين السياسية. بل زُرتهُ لأستكشف مفهومه لـ«الحب» الذي يُصدِّره في مواجهة الآخر غير المسلم، بمذهب يُقارِبُ مذهب «فتح الله گـولن» في المسألة، ويتلاقى معه في مساحاتٍ شاسعةٍ من الإيمان بالحوار بين الأديان والثقافات،… إلخ، وإن اختلف عن گـولن بعدم ارتباطه -ظاهرًا- بمصالح ومنافع اقتصادية تُعيد تشكيل رؤيته لحسابها.
زُرته وأنا أعرف أن الرجل يُخالِفُ الإسلاميين في شبه القارة الهندية في الكثير (ومنهم ابنه؛ أستاذنا الدكتور ظفر الإسلام خان «الأزهري»، أحد وجوه الإسلاميين البارزة في الهند)، حتى عاداه المؤدلجون (وعلى رأسهم تلاميذ الأستاذ المودودي) وشنَّعوا عليه وسبّوه سبًا مُقذعًا، لكنه احتفظ برباطة جأشه في مواجهة تلاميذ «شيخه»، الذين صاروا يعتبرونه خارجًا على الصف!
الحقيقة أني ظللت لفترةٍ لا بأس بها أتعامل مع مفهوم «الحب» عند أكثر هذا الجيل، ومن تتلمذ عليهم؛ باعتباره انبطاحًا محضًا وسيولة أيديولوجية، بل وعمالة للأجنبي. وظللت غافلًا عن الجزء الأكبر في هذه «العاطفة» بسبب مؤثرات أيديولوجية: سلفية وصوفية!
وقد يسر الله لي هذه الزيارة في ظروفٍ نفسية استطعت معها «فهم» طبيعة هذه العاطفة، أو بعبارة أدق: تذوقها؛ لمعرفة أبعادها ومآلاتها المعرفية بعيدًا عن التشويش الأيديولوجي، فقد زُرته وأنا غارقٌ في الحب، بل مُستلبٌ تمامًا!
جليّ أن الحديث المباشِر مع مولانا في هكذا موضوع كان خيارًا مُحرجًا للغاية، بل هو في حقيقة الأمر أمرٌ مشوّش، فلا يُمكن أن تسأل «مُحبًا» عن الحب، و«تفهم» ما سيقول، إلا إن كنت مُحبًا أنت الآخر. وحتى في هذه الحال، فمن الأفضل ألا تسأله؛ لأنه غالبًا لن يُحسِن التعبير بشكلٍ «منطقي» مفهوم، ومن ثم يجدر بك أن تشهد تجليات هذا الحب، وطرق التعبير عنه، لتدرك وحدك أبعاده في طيات الحوار وثنايا السلوك.
وقد كان فاتحة ذلك ما قاله لي أهم تلامذته الهندوس المتحولين إلى الإسلام، وهو شابٌ في مثل عمري يعمل نائبًا لمدير بنك (ناجح بالمعايير الرأسمالية)؛ قال لي: «لو لم يحبني مولانا، ويصبر على تعصبي وأسئلتي، ويحتمل بُغضي الموروث ونفوري اللاعقلاني من الإسلام وازدرائي للمسلمين؛ في سبيل هدايتي، لربما ظللت إلى اليوم هندوسيًا أعبد أوثانًا. بل لو لم يحب مولانا الهندوس ويرغب في هدايتهم، لما هدى الله به الكثيرين إلى الإسلام». وقد كان بعض هؤلاء الشباب المتحولين إلى الإسلام حاضرًا في مجلس مولانا الصغير.
ما زالت تلك الكلمات ترن في قلبي وعقلي منذ سمعتها. صحيح أني أخالف الصوفية في الحب المطلق للإنسانية بغير تعيين، فأنا أرى الحب عاطفة خاصة لا تكون إلا لمعيَّن، ولو كان غائبًا. أما حب الخير للمسلمين والهداية لغيرهم على العموم فممكنٌ ومطلوب، وأُبغض ما يراه السلفيون من أن الحب (العمل القلبي) يدور مع الولاء والبراء، ويُبسَط ويُقبَض مع العقيدة النظرية التي يُمتحن عليها دين الناس؛ إذ القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، ولهذا أفصِل بين الحب بما هو عاطفة لا نتحكم فيها، ومآلاته من أفعال نستطيع التحكم فيها غالبًا، وربطها بموالاتنا زيدًا أو التبرؤ من عمرو. فقد تحب أحدًا ولا تواليه، كما يحب المسلم زوجه الكتابية ويتبرأ من اعتقادها. وقد تكون أبعد الناس عن حب أحد المسلمين لما سببهُ لك من أذى، لكنك تواليه ما التزم جادة الحق كما فعل عمر الفاروق.
وإذا كنت أرى أن مفهوم الحب عند الصوفية والتعبير اللغوي عنه هو أهم أسباب أزمتهم، وإذا كنت ما زلت أرى في حب مولانا وحيد الدين خان للهندوس «بعضًا» من تسليمه للأمر الواقع ولتغلبهم وتسلطهم؛ إلا أني لا أستطيع منع نفسي من الإعجاب الشديد بقدرته تلك؛ إذ يلزم لهذا النوع من الحب طاقة نفسية ضخمة، وقدر هائل من النضج النفسي والروحي، أن تُحب من يرفضك طمعًا بأن يهديه الله خيرًا على يديك. إنها عاطفة من مشكاة النبوة، من هدي النبي الذي رفض هلاك قومه عسى أن يخرج الله منهم أو من أصلابهم من يقول لا إله إلا الله.
لقد جربتُ شعورًا مُشابهًا مع بعض المسلمين مخيبي الرجاء، وهو ما جعلني أعرف قيمة ما يفعله مولانا؛ لكن تجربته مع الوثنيين أمر جد شاق. فقد وجدت في نفسي نفورًا منهم واشمئزازًا عجيبًا يجعلني أبعد الناس طُرًا عن دعوتهم إلى الإسلام، إذ لا يمكن أن تدعو أحدًا لخيرٍ هُديت إليه وأنت تستعلي بنفسك على نفسه، وإن وجب أن تستعلي بتصوراتك على تصوراته، لا بذاتك الإنسانية على ذاته الإنسانية. فإن خالق النفس واحد، وهاديها واحد، وما استعلاؤك إلا بما هداك إليه خالقكما على ما انتكس إليه الوثني من أوهام ما أنزل الله بها من سلطان.
إن هذا الاستعلاء الممقوت بالنفس، الذي وجدته في نفسي تجاه الهندوس في آخر زيارة لشبه القارة، يختلف تمامًا عن زيارتي الأولى قبلها بخمسة أعوام، حين زُرت معابدهم وبيوتهم واطلعت على معيشتهم برحابة صدر لا تكلف فيها. أما في الزيارة التي لقيت فيها مولانا فقد كنت لا أطيق النظر إلى معابدهم، وإن وقعت عيناي عليها قدرًا ضاق صدري كأني أصعّد في السماء.
واليوم، يبدو لي أني أعرف في نفسي الفارق بين قلبي في الأولى وفي الأخيرة. ففي الأولى كنت قادرًا على إتيان ما يأتيه مولانا، وإن كنت أقل تقديرًا له وأكثر استخفافًا به. كان لا يزال بي قُدرة على العطاء العاطفي والنفسي والروحي، أما في الثانية فقد كنت مُستنزفًا عاطفيًا وروحيًا ونفسيًا بالكامل، لدرجة تقديري لما يفعله مولانا مع الهندوس وقُدرتي على تذوقه، وعجزي عن إتيانه!.
لقد علمني هذا الدرس أن الدعوة إلى الله تحتاج طاقة نفسية وروحية هائلة، طاقة صرتُ أفتقدها كلما تقدم بي العمر. ليست طاقة لتحتمِل غير المسلم وتحسن معاملته فحسب، بل لتحب الخير له، وتحب هدايته كما تحب الهداية لنفسك. فما بالك بالمسلم المخيَّب أو المسلم الضال؟!.
لقد أدركت من هذا الدرس كم كانت مهمة النبي وصحبه في دعوة قومهم جد شاقة، بل وكم كانت مهمتهم في دعوة سائر الأجناس عملًا لا يطيق الاضطلاع به إلا أولو العزم الشديد، والعلاقة الوثيقة بالله سبحانه.
لقد أدركت أني مهما كان اختلافي مع تصورات مولانا وحيد الدين خان السياسية، فإن الإنصاف يقتضي تقدير دوره الدعوي الضخم، والإعجاب بطاقته النفسية الهائلة، برغم بلوغه من العمر أرذله. إن الدور الذي يمارسه مولانا مع عوام الهندوس يختلف تمامًا عن الدور «المشابِه» ظاهريًا، والذي يلعبه الدعاة الجدد مع أبناء الطبقات المترفة في مصر وغيرها. إن ما يمارسه مولانا دعوة بأدوات حقيقية، وإن تشوّش المحتوى بعض الشيء. أما ما يجترحه الدعاة الجدد فهو هراء طبقي لا دعوة إسلامية، تشوه في التصورات وقصور في الأدوات.
لقد تعلمتُ أن الداعية إلى الله ليس ملاكًا، وأن التفاضُل بين الدعاة نسبي، وأن خيرهم من تواضع لله، واحتمل من الأذى في سبيل الله ما يشيب لهوله الولدان، ولم يتمعّر وجهه إلا لله.
لقد تعلمت أن الداعية مُبتلى بطبيعة مهمته، وأنه يجوز عليه الخطأ قبل الصواب. لقد تعلمت أن الداعية لا يُربت على شهوات الناس، وإن ربت على ضعفهم الإنساني وجبر كسورهم.
لقد تعلمت أن الدعوة إلى الله هي أشق مهمة يمكن أن يضطلع بها مخلوق، وربما لهذا رفضت السماوات والأرض والجبال هذه الأمانة وأبين أن يحملنها وحملناها نحن بجهالتنا.
لقد تعلمت أن الدعوة إلى الله يلزمها قدرٌ هائل من الحب، لا تستطيع كل الأرواح تحمّله، إلا أن يُمدّها الله بمددٍ من عنده. فاللهم منك التكليف ومنك المعونة.