«أبلة فضيلة» وحكاية جيل من «الحلوين»
حبايبي الحلوين، بنت من البنات في وقت من الأوقات كان اسمها فضيلة، فضيلة كانت طفلة من الطبقة العليا في ثلاثينيات القرن الماضي، كانت تتعلم في مدرسة حكومية عريقة، وكان زملاؤها جميعًا أبناء أشخاص مرموقين في المجتمع، فمثلاً كانت إحدى زميلاتها هي الملكة ناريمان، وكانت صديقتها المقربة فاتن حمامة، ثم كبرت فضيلة ودخلت كلية الحقوق، وكان زملاؤها أيضًا أشخاصًا مرموقين، ففي دفعتها تخرّج الدكتور أسامة الباز والدكتور فتحي سرور وغيرهم، وكانت فضيلة لا تحب المحاماة، ولكنها كانت فتاة مطيعة تسمع كلام ماما وبابا اللذان كانا يريدان لابنتهما أن تكون محامية كبيرة، فالتحقت بالعمل كمحامية في مكتب حامد باشا زكي وزير المواصلات وقتها. وقد كانت فضيلة تتمتع بطيبة قلب شديدة جعلتها تحاول الإصلاح بين طرفي قضية في أول يوم عمل لها، فكافأها القدر على أخلاقها الحسنة، وطردها حامد باشا من مكتبه وأخبرها أنها لا تصلح للمحاماة، وحققت فضيلة حلمها بالعمل في الإذاعة؛ لتصبح «أبلة فضيلة».
وتوتة توتة، غنوة وحدوتة
في تمام التاسعة كل يوم لمدة ستين عامًا، كان يصدح صوت كورال أطفال هاتفًا أن «يا ولاد يا ولاااااااااد.. تعالوا تعااااااالوا.. علشان نسمع أبلة فضيلة راح تحكيلنا حكاية جميلة»، ثم يدخل الصوت الدافئ ليقول «حبايبي الحلوين»، ثم تبدأ في حكاية الحدوتة التي تدور غالبًا في عوالم مشابهة للأساطير ولكن مع تفاصيل عصرية – بمقاييس ذلك العصر طبعًا – لتعلم الأطفال حكمة أو سلوكًا مهذبًا أو تعرفهم بصفة حميدة. كانت حواديت أبلة فضيلة كلها مسلية خاصة لأطفال لا يعرفون سوى الأشياء الحقيقية، ولا يعرفون ما هي أفلام الكارتون، ولا ما هو الإنترنت، كان الصوت المبتسم الذي يخرج من الراديو يفتح لهم عوالم سحرية يهدهدهم بكلمات حانية لا غلظة فيها ولا وعظ مباشر، فكان الجيل الذي تربى على حواديت «أبلة فضيلة» جيلاً – ببساطة – سعيدًا.
كان حظ «فضيلة توفيق» يحالفها دائمًا، فهي التي كرهت مهنة المحاماة وانتقلت لتعمل في الإذاعة. كانت تحلم بالعمل كمقدمة برامج أطفال، ولكن في هذا الوقت لم يكن التنوع سمة من سمات العصر، فكان «محمد محمود شعبان»، والمشهور بـ«بابا شارو»، هو المسئول الوحيد عن برامج الأطفال ولم يكن لها فرصة أن تحقق ما تحلم به، فعملت في البداية كمذيعة ربط، وقارئة للنشرة الإخبارية، ثم تم افتتاح التليفزيون فانتقل «بابا شارو» للعمل به، وأصبح مكان مذيع برامج الأطفال شاغرًا، فعملت هي مكانه في برنامج «حديث الأطفال»، ثم تطور الأمر لتقدم برنامجها الخاص «غنوة وحدوتة» والذي استمر حتى كبر الأطفال الذين كانوا لا يعرفون سوى الراديو، ثم تعلق جيل التليفزيون أيضًا بصوتها الحاني، حتى وصل الأمر لأحفاد الجيل الأول الذي بدأ مع «أبلة فضيلة» رحلتها الإذاعية، ولمدة ستين عامًا، كانت أبلة فضيلة هي ساحرة الراديو الأولى.
صغار، كبار
كانت «أبلة فضيلة» من الجيل الذي يؤمن أن الطفل يجب أن يكون متعلمًا ومهذبًا ومثقفًا أيضًا، وكان المجتمع كله وقتها يعرف قيمة تلك المفاهيم، فكان برنامجها خليطًا من كل تلك القيم، فلم تكن أبدًا وسيلة لتسلية الأطفال الصغار فقط، بل كانت تستضيف وراء المايكروفون أشخاصًا يمكنهم أن يساعدوها في زرع قيم راقية في عقول الأطفال التي كانت حريصة عليهم منذ يومها الأول في البرنامج، من هذه القيم مثلاً أنها رفضت أن تكون «ماما فضيلة» ليس لصغر سنها وقتها، ولكن لأنها ترى أن الأم لا يمكن تعويضها ويجب أن يفهم الأطفال ذلك جيدًا، فاختارت لقب «أبلة»، ثم استمر هذا الحرص خلال برنامجها الذي استضافت فيه شخصيات هامة ليحاورها الأطفال التي كانت تراهم مهمين أيضًا حتى أنها كانت تتركهم يحاورون ضيوفها الكبار، وكان من هؤلاء الضيوف مثلاً «نجيب محفوظ»، و«أنيس منصور»، والدكتور «فاروق الباز»، والموسيقار «محمد عبد الوهاب»، و«عبد الحليم حافظ» وغيرهم كثيرون.
لم تكن «أبلة فضيلة» مجرد مذيعة راديو عادية، كانت ساحرة حقيقية يمكنها أن تخلق عالماً كاملاً بصوتها فقط، صوتها الذي ظل أيقونة الطفولة التي يجب أن تكون سعيدة. فعندما استضافتها فرقة موسيقية شابة منذ بضعة سنوات في حفل غنائي في «ساقية الصاوي» صعدت على المسرح لتمسك بالمايكروفون وتقف أمام شباب تربوا على صوتها لتشكرهم على تكريمها مفتتحة كلامها لهم بـ«حبايبي الحلوين»، وسط فرحة طفولية غامرة، أعادت طوال القامة هؤلاء لزمن كانوا فيه فعلاً «حلوين».
«أبلة فضيلة» لا تموت
منذ بضعة أيام تصدرت صفحات السوشيال ميديا إشاعة عن وفاة «أبلة فضيلة»، خبر بدا صادمًا لجيل أحب صوتها وحواديتها الدافئة، ولكنه على صدمته خبر عادي ومنتظر ويتكرر كل يوم، ولكن عندما صرحت شقيقتها الفنانة «محسنة توفيق» أن الخبر كاذب، انتبه الجميع أن أبلة فضيلة لن تموت بالمعنى المفهوم، ربما ترحل في يوم قريبًا كان أو بعيدًا ولكن سيظل صوتها المبهج موجودًا وحواديتها القديمة سوف تبقى شاهدًا على عصر كان فيه الأطفال يفرحون بسماع أسمائهم تخرج من سماعات الراديو الصغيرة، زمن كانت فيه التاسعة صباحًا ميعادًا ملائمًا جدًا لاستيقاظ الصغار، حتى وإن تغير الزمن وأصبحت الغنوة والحدوتة ليست أشياءً جذابة لجيل لم يجد من يناديه بحبايبي الحلوين.