عبد الباسط الساروت: من حراسة المرمى إلى حراسة الثورة
يهدم عبد الباسط الحائط، يصنع ثقوبًا يصوب منها سلاحه على قوات الأسد تارةً، وتارةً أخرى ليمر من خلالها إلى بنايات مجاورة، هروبًا من قناصة قوات النظام.
تمر أشعة الشمس من خلال ثقوب الحوائط على سلاح من النوع آر بي جي، يمسك به عبد الباسط في حزن وهو يفكر في رفاقه الذين لقوا حتفهم بينما يغفو قليلًا، ليصحو مرةً أخرى على صوت رصاص قريب. ربما لم يولد لهذه الأفعال، ربما ولد ليعيش حياة الطفل السعيد والمراهقة الطائشة بين مهارته في صد الكرات والاختلاط بأصدقائه.
بعد سبع سنوات وثمانية أشهر تقريبًا ربما تختلف وجهات النظر تجاه الثورة السورية، وعلى الأرجح سنتفق على فشلها وتحولها إلى حرب أهلية لم يخرج منها غير دماء صغارها وبيوتها مهدومة، ومع كل تلك المؤتمرات والمباني العالية وقرارات البِدل السوداء والإدانات، كانت هناك الكثير من القصص التي لن تجد سواها إلا في الأفلام والأحداث شديدة العنف والصدق كالثورة السورية، يمكنك أن تذكر أيضًا مشاهدتك أفلامًا لقصص تاريخية مؤثرة يظهر بطلها شجاع، محبوب، صغير السن، جريء، خفيف الروح، وكعادة المعاناة يولد من رحمها الجمال الصافي الممزوج بالألم.
من حارس نادي «الكرامة» إلى بلبل الثورة إلى حارسها
يُحمل النجم الصاعد المحبوب في شوارع حي البياضة – الذي نشأ فيه – على أكتاف المتظاهرين إلى المنصة. تقترب ذكرى ميلاد الشاب عبد الباسط الساروت في الأول من يناير مواليد سنة 1992، كان عبد الباسط يُعد ثاني أفضل حارس مرمى في قارة آسيا، وحارس المرمى الأساسي في منتخب سوريا للشباب وحارس نادي الكرامة، كان طريقه ممهدًا ليكون حارس المنتخب الأول والاحتراف في نادي أوروبي، لكنه قرر التخلي عن ذلك الحلم في مقابل الوقوف بجوار أهل بلدته أمام ميليشيات الأسد، ربما زادت شهرته عندما شارك في الاحتجاجات الأسبوعية حيث أعاد اكتشاف موهبة أخرى وهي تأليف الأغاني وغنائها التي مست ثوار سوريا، ويمكنك لمس موهبته عند استماعك لأنشودة «جنة جنة جنة يا وطنّا» بصوته الصادق، فلقب بـ«بلبل الثورة ومنشدها».
يبث الساروت فيديو على صفحات التواصل الاجتماعي، يؤكد فيه سلمية وتعددية الثورة، وأنها ليست ثورة قاصرة على فئة معينة، يثبت ذلك فيخرج مع الفنانة فدوى سليمان في عدة مظاهرات وهي من الطائفة العلوية. وينفي اتهامات النظام له بتحويل بلدته إلى «إمارة سلفية» بتمويل سعودي وبالأخص من الأمير بندر بن سلطان عبد العزيز آل سعود، والحقيقة أننا سوف نلاحظ في النهاية أن ما آلت إليه الأحداث تدل على أنه واحد من عشرات الثوار الذين لم تكن لهم أجندات معينة، كان سببها الأساسي كحال شعوب الربيع العربي الكرامة والحرية ومحو الفساد لا أكثر، وكانت ردود الأفعال في غاية من التكاتف كتبرع سيدة بذهبها أو حتى طفلة بعيديّتها.
كان ذلك بعد إعلان اتحاد الكرة السوري فصل اللاعب عبد الباسط من الاتحاد ومنعه من لعب الكرة مرة أخرى في لفتة ساخرة من الساروت قائلًا: «شكرًا للاتحاد لأني كنت منتظر يرجعوني على النادي».
من السلمية إلى الكفاح المسلح
على خطى الاحتلال الأجنبي رصد النظام جائرة لمن يسلمه قدرها 2 مليون ليرة سورية، فيطالب الشاب محبوه بحمايته من استهداف النظام له كما عُرض عليه أن يذهب إلى القصر الجمهوري ثم إلى قناة الدنيا السورية التابعة للنظام ليسجل تراجعه عن ثورته في المقابل سيعود إلى تدريباته ورياضته المفضلة.
لم يسطتع النظام احتواء عبد الباسط سواء بالترهيب أو بالترغيب فكان لابد من كسر شوكته باستهداف منزله بالبياضة، يتمكن ساروت وعائلته من الهرب لكن يلقى شقيقه الأكبر وليد وأولاد خالته وعدد من الشبان حتفهم بينما رفضوا تسليم أنفسهم.
في الرابع عشر من ديسمبر/ كانون الأول 2011 تعرض لمحاولة اغتيال نجا منها بأعجوبة وأصيب في ساقه بعدة طلقات، وظهر في تسجيل وهو يعاود الذهاب إلى المظاهرة وساقه لم تتعاف بعد، وعلى أنغام فيروز في فيلم وثائقي لقناة أورينت تهتف الجموع «سلامات عبد الباسط سلامات» وهو محمول مرة أخرى على الأعناق لقيادة المظاهرة.
وبالتوازي مع محاولات النظام لهدم فكرة عبد الباسط الساروت، كان النظام يقتل شعبه بشكل فج وبأعداد ضخمة تحولت إلى مجازر كـ مجزرة الخالدية في فبراير/ شباط 2012 والتي أسفرت عن أكثر من 300 قتيل و حملة بابا عمرو وغيرها. كان لابد للثوار أن يحملوا السلاح دفاعًا عن تجمعاتهم أو منطقتهم من بطش ميليشيات النظام، ومع محاولة الثوار الحفاظ على أكبر مساحة من السلمية لإرهابهم من الدخول في نفق الحرب الأهلية المُظلم دفع النظام بهم وبالمنشقين من جيشه إليه. فأسس الساروت كتيبة «شهداء البياضة» مع إخوانه من نفس الحي لحماية المدينة بمساعدة أهلها مع بعض الأسلحة الخفيفة لمواجهة النظام.
فيلم «العودة إلى حمص»
يحكي فيلم «العودة إلى حمص» وهو فيلم تسجيلي من إخراج طلال ديركي عن الشابين عبد الباسط الساروت، الذي تحول إلى قائد ميداني لكتيبة شهداء البياضة، والصحفي أسامة الحمصي الذي له رأي مغاير تجاه الثورة المسلحة واختفائه بعد إلقاء القبض عليه من قبل النظام، وعن دورهما في دعم الثورة وكيفية التحول من السلمية إلى العنف المُبرر.
يسلط الفيلم الضوء على فترة حصار قوات النظام لمدينة حمص، ومحاولة الساروت وإخوانه فك الحصار من خلال أنفاق تؤدي إلى خارج الحصار لجلب الأكل والسلاح والمقاتلين، لكن وفي طريقه إلى كسر حصار قوات الأسد يصاب الساروت إصابة بالغة ويُقتل أخاه وعمه، ليتعافى الساروت ويحاول الرجوع إلى داخل الحصار مرة أخرى للوقوف بجانب إخوانه في تلك الأزمة.
تنجح القوات النظامية في مايو/ آيار 2014 بدعم روسي وإيراني في طرد المقاتلين، بينهم الساروت، من حمص إلى الشمال، حصد الفيلم العديد من الجوائز وذهب إلى عديد من المهرجانات العالمية.
بين الدولة الإسلامية وجبهة النصرة
مع تصاعد وتيرة الحرب الطائفية التي تبناها الأسد، صعدت الجماعات الجهادية السنية هي الأخرى إلى ساحات القتال مع ضعف الجيش السوري الحر الذي كان عبارة عن ضباط وجنود منشقين من الجيش النظامي مع الثوار الذين انضموا إليه، وبحلول عام 2013 أصبح الجيش السوري الحر مجرد مسمى مملوء من الداخل بكتائب وجبهات دينية سنية.
حاصر النظام مدينة حمص لأكثر من عام، وكانت تلك التجربة هي الأكثر قسوة على رجال الساروت، وبعد استشهاد أخيه الرابع عبد الله في محاولة فك الحصار، راودت الساروت فكرة قبول عرض الانضمام إلى مقاتلي الدولة الإسلامية مبررًا أن كل من حوله تخلوا عنه وتُرك هو وأهل حمص فريسة سهلة – يأتي ذلك تأكيدًا فيما قلناه سلفًا على أن الساروت لم تكن لديه أجندات دولية بعينها تدعمه.
يخرج الساروت في تسجيل له أواخر أغسطس/ آب 2015 ليؤكد عدم مبايعته لداعش ولا أي فصيل أو جبهة وأن هدفه الأساسي هو إسقاط نظام الأسد فقط، ومع ذلك لم يخفِ رغبته في التعاون مع داعش وجبهة النصرة.
لكنه يخرج إلى الدحديرة ليصطدم مقاتلوه بمقاتلين من جبهة النصرة رفضوا تسليم أنفسهم ويصدر أمر باعتقال الساروت – وهي الجبهة صاحبة الدور الأبرز في مواجهة النظام في الآونة الأخير كجزء من جيش الفتح – فيضطر للذهاب إلى تركيا ويرجع مرة أخرى ليمثل أمام المحكمة الشرعية التابعة لجيش الفتح وتثبت براءته ليعود مسيرته كقائد ميداني لكتيبة شهداء البياضة كجزء من جيش العزة الذي ما زال يحاول تنفس الصعداء رغم تضييق النظام وتابعيه عليهم في إدلب في الشمال السوري وإعادة تكوين فرق كروية للأحياء التي ما زالت محررة ومنتخب سوري حر هو حارسه وراعيه.
ما يزال عبد الباسط يقاوم ويغني هو ورفاقه تحت القصف من أجل الحرية حتى لحظة كتابة هذه الكلمات.