عبد الوهاب مطاوع: «صوت من السماء»
لا بد أن قرَّاء بريد الجمعة يعرفون هذه المقدمة التي كان عبد الوهاب مطاوع -رحمه الله- يفتتح بها إجاباته على الرسائل التي تأتيه في باب بريد الجمعة بجريدة الأهرام.
في الذكرى السادسة عشرة لوفاة الكاتب عبد الوهاب مطاوع، والذي رحل عن عالمنا صباح الجمعة الموافق 6 أغسطس/آب من عام 2004 وعمره 63 عامًا، تساءلتُ وأنا أقرأ له: لماذا لا يعرفه كثيرٌ من الناس؟
في المرحلة الثانوية -تقريبًا- كان كتاب «أعطِ الصباح فرصة» أولى قراءاتي له. ثم قرأتُ الكتاب أكثر من مرة، وكان بداية تعرفي إلى عالم عبد الوهاب الإنساني الجميل، الذي كان له أثره الأكبر في حياتي. هذا المقال محاولةٌ للتعريف بقلمه وكتاباته وباب بريد الجمعة ودعوةٌ لقراءته.
وُلد الكاتب المصري عبد الوهاب مطاوع في قرية دسوق التابعة لمحافظة كفر الشيخ عام 1940، وسجَّل بعض ذكريات طفولته في كتابه «حكايات شارعنا»، وكذلك سجَّل بعضًا من سيرته وتأملاته وأفكاره في الحياة في كتابي «ساعات من العمر» و«سائح في دنيا الله».
تسلَّم عبد الوهاب مطاوع باب بريد الجمعة عام 1980، وهو الصحافي الذي بدأ بممارسة العمل الصحافي منذ أن كان في السابعة عشرة من عمره وهو طالب بكلية الآداب في جامعة القاهرة، في حين التحق معظم أصدقائه بكليات جامعة الإسكندرية الأقرب لمدينتهم بالوجه البحري، وسافر هو إلى القاهرة، لأنها كانت الجامعة الوحيدة التي تُدرِّس الصحافة في ذلك الوقت. وبريد الجمعة بابٌ أسبوعي يرسل فيه القرَّاء مشاكلهم ويرد عليهم الكاتب بما يراه مناسبًا لحل مشكلاتهم ناصحًا ومُعاتبًا ولائمًا حينًا آخر.
بريد الجمعة
تميَّز عبد الوهاب مطاوع في ردوده بقلم أدبي جميل، مستشهدًا بالقرآن الكريم والحديث النبوي والشعر وكتابات الحكماء والأدباء الكبار الذين كان يقرأ لهم بانتظام. ورغم أن المشاكل التي كانت تصل إلى البريد هي مشاكلُ من المجتمع المصري، فإن القارئ لا يكاد يشعر بخصوصيتها لأنها تنطق عن آلام الإنسان ومشاكله عامةً وتكاد تتمثل قصصها في مجتمعه.
أمّا عن فكرة جمع هذه المشاكل والردود عليها، فيقول في مقدمة أول كتاب نُشِرت فيه هذه الرسائل، «أصدقاء على الورق»:
«أرض الأحزان» و«العصافير الخرساء» و«العيون الحمراء»، هذه العناوين المميزة التي كان يختارها الكاتب عناوينَ لكتبه، وغالبًا ما تكون إحدى عناوين قصص الكتاب، إذْ تُمثِّل بصدق ما في الكتاب، وتدفع القارئ إلى قراءة الكتاب بمشاعر إنسانية. وبلغ عدد الكتب التي تضمنت بعض القصص المختارة أكثر من خمسة وعشرين كتابًا (تعدك دائمًا برحلة ممتعة مُشجية مليئة بالحكمة!).
كثيرًا ما بكيت وأنا أقرأ قصص بريد الجمعة، كقصة «شجرة الصبر» (من كتاب «العيون الحمراء»)، وقصة «الاتفاق الصامت» (من كتاب «هو وهي والآخرون»)، وتعاطفت مع أصحاب القصص، ووجدتني أفكر في حلولٍ لهم قبل أن أقرأ رد عبد الوهاب مطاوع، ثم أتفق معه في كثيرٍ من الأحيان وأختلف في أخرى. وفي بعض المرات أتخذ موقفًا عنيفًا وأقول لو كنتُ مكان عبد الوهاب لقلت كذا وكذا. ولكن عبد الوهاب ما كان يقول رأيه إلا بعد تفكير عميق وقراءةٍ لمشكلة القارئ من جميع الزوايا، فأوافقه في رده الأقرب للمنطق والعقل.
«وما أعجب ما أقرأ أحيانًا في رسائل البريد؟»
وعلى تنوع الرسائل التي كانت تأتيه وعجبها وبساطتها أحيانًا -إن دلّ التعبير- فقد كان لا يستنكف أن يرد على القارئ ويطيّب خاطره ويبرد عليه حرّ همه وألمه، مثل السيدة التي شكت إليه من زوجها الذي يناديها بـ «أم منخار»، أو الرجل الذي أرسل يشكو من بكائه كلما غلبته مشاعره!
ويقول في كتابه «صوت من السماء»:
وقد كان مكتبه -رحمه الله- مقصدًا للمهمومين والمكروبين، وكان يوم الاثنين هو اليوم الذي يستقبل فيه قرّاء بريد الجمعة ويستمع لمشاكلهم. بل كان أحيانًا يتدخل شخصيًّا بطلبٍ من القُراء بالاتصال الشخصي والمساعدة الشخصية في حل مشاكلهم.
وفي منهجه الذي يتخذه في الرد على رسائل بريد الجمعة يقول، في كتابه «وحدي مع الآخرين»:
بريد الجمعة والقرّاء
لم يقتصر باب بريد الجمعة على كتابة النصائح والحلول، بل كان يتجاوز ذلك إلى المساعدة المالية وفرص التوظيف. ففي رده على رسالة الشاب اليتيم الذي أرسل إليه يشكو من عدم وجود منزل يعيش به بعد وفاة أمه وزواج إخوته وطرد أخيه له يقول:
ولا يشهد كثيرٌ من الناس أثر أعمالهم في حياتهم، وقد قُدِّرت جهود كثيرٍ من الكُتّاب والأدباء بعد وفاتهم، إلّا أن عبد الوهاب كان من المحظوظين الذين لمسوا أثر كتاباتهم في حياتهم. ولعلّ من الجميل أن أعرض بعضًا من الرسائل التي وصلته يشكره فيها القرّاء على رده ومشورته.
تقول إحدى القارئات (ورد في كتاب «صوت من السماء»):
وتقول أخرى (ورد في كتاب «أصدقاء على الورق»):
وكتب إليه آخر يشعر أن عليه دينًا لبريد الجمعة (ورد في كتاب «بعد مغيب القمر»):
في مقطع فيديو مُسجل لـ عبد الوهاب على يوتيوب قال:
وقد فعل!
فإن كنت لم تقرأ بعد لعبد الوهاب مطاوع، فإني أرجو أن تكون هذه المقالة بداية قراءتك وانضمامك لمحبي بريد الجمعة. وفي الحقيقة فأنا أغبطك أيضًا، لأنك ستنهل من هذا المعين العذب، وتستظل بظل هذه القصص كلما حزنت وسئمت وسقتك الحياة من مُرِّها. وكما قالت الكاتبة بثينة العيسى: «إذا أردنا أن نفهم شخصًا، فنحنُ نسأل عادةً؛ ما هي حكايته؟» و«نحن نريد الحكاية دائمًا، لأننا نريد أن نفهم. ليس الآخرَ وحسب، بل أنفسنا أيضًا». قد تقودك هذه القصص إلى معرفة نفسك.