عبد الرحيم كمال: الكاتب الذي أنقذ دراما الصعيد
عبد الرحيم كمال، مؤلف درامي وصاحب العديد من المؤلفات المهمة في العشر سنين الأخيرة، بدأ حياته في المعهد العالي للسينما قسم السيناريو، ثم بعد ذلك اتجه في البداية للأدب، فنُشرت له رواية ومجموعتان قصصيتان، اتجه بعد ذلك للسينما، وكانت أولى تجاربه كسيناريست مع أشرف عبد الباقي في فيلم «على جنب يا اسطى»، وتحدث هذا الفيلم عن سائق تاكس يمر عليه مختلف أنواع الزبائن، ومن خلالهم يتم عرض نماذج من المجتمع المصري، لم يلقَ الفيلم النجاح التجاري اللائق، ولكنه ترك أثرًا طيبًا ومردودًا نقديًا جيدًا. ثم اتجه بعد ذلك لكتابة المسلسلات، وهنا كانت نقلة جديدة في حياة كمال المهنية.
يمتاز أسلوب كمال عن غيره من كُتّاب السيناريو بشاعرية كلماته وعذوبتها، فكمال مغرم باللغة الأدبية، فتشعر كأن شخصياته تقول أشعارًا عامية وليس حوارًا تقليديًا، بحكم ولادته في محافظة سوهاج، ينحاز عبد الرحيم كمال للمسلسلات الصعيدية، فيها يحول الأدب الكلاسيكي العالمي لقصة تدور في قرية صعيدية، ويحكي عن المتصوفة، ويقتبس من التاريخ ما يحلو له، يحول كل ذلك لنماذج إنسانية وشخصيات ثرية. ومن مميزات كمال تكراره للماورائيات في أعماله، فدائمًا هناك شيء خارق، أو مرعب، أو معجزة ما تتم، كما حدث في «الخواجة عبد القادر» وكما يطل علينا هذا العام في «ونوس»، في الفقرات القادمة نستعرض بعض من أعمال السيناريت الأديب عبد الرحيم كمال.
الرحايا: حجر القلوب
الرحى مكونة من حجرين أحدهما يدور على الآخر، توضع البذور في فتحة منتصف الحجر الأعلى، فتجد البذور نفسها وسط حجرين، لحظات وتتحول لدقيق، كانت الرحى تستخدم قبل المطاحن الضخمة، وربما ما زالت تستعمل في بعض المناطق الفقيرة من صعيد مصر. فماذا لو القلب بين حجري الرحى؟ عنوان المسلسل معبر عن قصته، فلم يسمَّ باسم بطله (محمد أبو دياب). ولا باسم القرية الصعيدية، بل تم استبدال كل ذلك بهذا التشبيه الإنساني البليغ. خرج المسلسل عن مألوف الدراما الصعيدية، لم نرَ البطل الذي يحارب أشرار قريته، أو لم يكن البطل هو الشرير بذاته، الذي يتاجر في الممنوع، بل رأينا صراع الأب ورغبات وخطايا أولاده، وقلبه المخطوف لفقدان ولده، واكتشافه التدريجي لمن خطف قلبه، فمن خطف قلبه هم فلذات كبده، أصبح جسده يأكل بعضه ويأكل روحه، ويزيد من كل ذلك صراع الزوجات، وخوفه على الابن الأصغر، الذي أحبه محبة الجد وليس الأب.
ويمزج كمال بين الدراما الإنسانية والأسطورة الصعيدية فلم تخلُ لحظة في الصعيد من أسطورة، ولاريوجد أرض فارغة إلا وتوجس الناس منها، ويقترن عواء الذئاب برؤية الشيطان، فشخصية «بدرا» الحقودة التي أدت دورها «سوسن بدر»، جمعت بين الحقد الإنساني والماورائية، فهي المرأة التي هجرها زوجها مسافرًا ثم عاد إليها بولد صغير، وعندما حاولت الانتقام منه تدخل أبو دياب وقام برميها في وادي الذئاب، ومن وسط الذئاب خرجت كالشيطان، لاريأكل ولاريشرب، واهن الجسد، سريع الحركة، لم يرعبها سوى ملائكية وسماحة الولد الصغير الذي لم يخشَ منها بل أشفق عليها، الحقد ضد الصفاء، والحب ضد الضغينة، والقوة التي تحتوي الضعف، هذه المتضادات التي جمعها كمال في الرحايا.
وقبل العرض كانت الأنظار متجهة لمسلسل «متخافوش» لنور الشريف، بل دارت الأقاويل على احتمال تأجيل «الرحايا» لصعوبة منافسته مع بقية المسلسلات، ولكن عندما عرض على الشاشات، أسر القلوب وكسب وُدَّ المشاهدين، وزاد من جمال المسلسل إخراج «حسني صالح»، الرؤية البصرية التي اعتمدت على الإضاءة الخافتة والألوان المتناسقة لتعطي صورة جمالية للمشاهد، ودقة اختيار الممثلين حتى لتشعر أنهم من أهل الصعيد.
شيخ العرب همام: تناول التاريخ كحكاية شعبية
وبعد حجر القلوب بدأ كمال مشروعًا آخرَ، وهو مسلسل «شيخ العرب همام»، وشيخ العرب مصطلح يطلق على قائد قبيلة هوارة، وهي قبيلة تنتشر في شمال إفريقيا، ورغم الاختلاف على أصولها، ولكن أغلب الأقاويل تذهب إلى أن أصلهم أمازيغي، و شيخ العرب همام شخصية تاريخية حقيقة، عُرف بالقوة وانصياع القبائل له، وكذلك السكان الأصليون، وذكر الدكتور لويس عوض في كتابه «تاريخ الفكر المصري الحديث»، أن الفرنسيين بعد ثورتهم ينظرون لشيخ العرب همام ودولته الوليدة، على أنها نموذج للحكم البرجوازي الجمهوري، ذات النمط الدكتاتوري.
أما عبد الرحيم كمال فقد انحاز للقصة الشعبية، فلم يركز على الأسس والأحداث التاريخية ولكن ركز على الصراعات الإنسانية، فهمام ذلك القائد العادل الحنون على قومه، الذي يدافع عن قبيلته ضد العدوان المملوكي، الذي يشغل كل تركيزه في رفعة شأن وكرامة أهل الصعيد. وكذلك مشكلته مع الإنجاب وزيجاته المتعددة. ومرارة غدر أقرب الأحباب، ركز كمال على كل هذه الجوانب على حساب الأحداث التاريخية.
وشيخ العرب همام هو التعاون الثاني مع المخرج حسني صالح، الذي وجده كمال خير منفذ ومعبر لحياة الصعيد، والتعاون الأول مع الفنان يحيى الفخراني، وإن لم يكن الأخير.
الخواجة عبد القادر: حلم في أروقة الحب والتصوف
وفي ثالث أعماله الدرامية، أطل علينا بمسلسل «الخواجة عبد القادر»، العمل الثاني مع الفنان يحيي الفخراني، والأول مع المخرج شادي الفخراني، وكان موعد عرض العمل هو الأنسب، فقد عُرض في وقت كانت هناك نظرة سلفية للتدين مسيطرة، وكان البعض مُسلمًا بها، فعرض المسلسل برؤية أخرى مليئة بالحب والتصوف.
الخواجة عبد القادر ذلك الرجل الغربي الذي عاني من السُكْرِ والحزن والاكتئاب، وأوشك على الانتحار في أثناء الحرب العالمية، ثم نُقل للسودان للعمل هناك، وهناك تعرف على شيخ سوداني، أنقذه من ويلات نفسه، وعرّفه على الإيمان الذي فقده، والحب المنزه عن الغرض، أحب عبد القادر اللهَ بعد غضبه، وسار في سكرة حبه.
وفي شخصية الشيخ السوداني،قدم كمال نظرة جديدة للشخصية السودانية،التي قصرها كُتّاب الدراما قبله على شخصية السفرجي أو الخادم،أو كموضع سخرية، فقدّم الشيخ العالم والمساعد الطيب. وفي مصر تعرف على زينب، الفتاة التي تعاني من أخيها الذي يفرض سطوته عليها، أحبها عبد القادر وأحبته، ودائما وأبدًا يدخل عبد القادر بقلب محب، لا ينتوي شرًا، ولا يغضب، مسلم أمره لله، الذي يحبه ويثق أنه لن يخذله.
قدم كمال كلماتٍ بديعةٍ على لسانٍ بريءٍ، هذه اللغة الخلابة المفتقدة عادًة في الدراما، والحالة الروحية التي فقدها المصريون، فأجاد كمال وشادي ويحيى الفخراني إعادة تلك الحالة الروحية التي فُقدت. فلاقى المسلسل رضًى كبيرًا من المشاهديين، ورُفع لمكانة عالية في ذلك العام، وربما ستظل لسنوات سيرة المسلسل باقية. وبالإضافة للنجاحات السابقة، فقد أُكد نجاح ثنائية شادي الفخراني وعبد الرحيم كمال. وبطولة يحيي الفخراني، التي ستستمر إلى رمضان الحالي في مسلسل ونوس.
دهشة: أدب شكسبير في الدراما الصعيدية
وفي العام قبل الماضي، طور كمال تجربته مع الدراما الصعيدية، بدمج الأدب العالمي الكلاسيكي في أجواء الصعيد، فحول رواية الملك لير للكاتب الإنجليزي الأشهر وليم شكسبير لدراما صعيدية، فالباسل حمد الباشا هو أغنى رجال قرية «دهشة» وأكثرهم سيطرة وسطوة، أراد توزيع أمواله على بناته الثلاث وخص النسبة الأكبر من أمواله لبنته الصغرى، أراد ان يشعر بمدى حب بناته له، فطلب من كل واحدة التعبير عن مدي حبها له، أُغرق بالكلام المعسول من ابنتيه الكبرى والوسطى، أما ابنته الصغرى، قرة عينه وأكثرهم قربًا له، فلم ترد قول كلمة واحدة، رأت أن المدح في وقت توزيع المال نفاق، ورفضت الكلام ولو كلفها ذلك أن تعيش فقيرة محرومة من أموال أبيها طوال عمرها.
بعد توزيع كل أمواله على ابنتيه، رضخت كل بنت لطمع زوجها، وأهملت أبيها، وأصبح وجوده ثقيلًا عليهن، واستمرت دراما «دهشة» الشكسبيرية، ومرت بأحداث مأساوية كثيرة. وبرغم اقتباس النص من رواية الملك لير، ولكنك لن تشعر بتكلف في النص أو أخطاء الاقتباس المعتادة، ستشعر أن النص أصلي لكاتبه، وأن أحداثه تدور دائمًا في مصر وبالتحديد في الصعيد، حيث الرجل القوي الغني، الأخوة غير الأشقاء الحاقدين، خصوصًا وأن الباسل كان أفقرهم، الخداع والغدر، النفاق والرياء.
ربما لم يكرم مسلسل «دهشة» بنسب مشاهدة عالية ترفعه إلى مقدمة السباق الرمضاني، ولكنه كان من المسلسلات التي تصيب بالدهشة، من روعة النص وجمال اللغة، وقوة التمثيل خصوصًا من الفخراني وفتحي عبد الوهاب ويسرا اللوزي ونبيل الحلفاوي، والرؤية البصرية والإخراجية المناسبة للبيئة من شادي الفخراني، الذي أعلن أن وجوده كمخرج ليس مجاملة لأبيه ولكنه عن استحقاق.
في رمضان الحالي يدخل عبد الرحيم كمال في تجربة ثالثة مع يحيى وشادي الفخراني، هي مسلسل «ونوس»، ويبدو من الإعلان الترويجي، أن كمال خرج عن البيئة الصعيدية، ولكنه في نفس الوقت احتفظ ببعض الماورائية التي تميز مسلسلاته، فهل ستكون مراجعتنا للمسلسل تحمل الإشادة كما أشدنا بما سبق له من مسلسلات؟