عبد الوهاب المسيري: انتفاضة فلسطين كنموذج معرفي
تمتلئ المكتبة العربية بدراسات كثيرة، وكتب ومقالات حول: القضية الفلسطينية. ويدور معظمها حول التاريخ العربي المعاصر ونشأة الصراع العربي الإسرائيلي وتطوره والكفاح الفلسطيني وقوى المقاومة الفلسطينية. والدوائر المختلفة للقضية داخليًا وإقليميًا/ عربيًا، ودوليًا، ومسارات التسوية والتوازنات الدولية. ومنذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى صدر العديد من الأبحاث حول يوميات الانتفاضة، وأثرها في الكيان الصهيوني. كما برز اهتمام متزايد بالأوضاع في ظل السلطة الفلسطينية ومستقبل مفاوضات السلام وأزمة التسوية الراهنة. كل هذه الأدبيات ركزت على القضية والشعب، وهي وحدات تحليلية هامة لكنها من ناحية لا تعبر بدقة عن الإنساني/ الشخصي/ الفردي، ولا ترتفع إلى الفلسفي النظري/ المعرفي.
وبمهارة فريدة استطاع د. «عبد الوهاب المسيري» في كتابات ودراسات متنوعة في الأدب والشعر والفلسفة والنظرية المعرفية أن يجمع هذه الخيوط كلها ليرسم لنا صورة مركبة لفلسطين. فلسطين الطفل والمرأة والرجل، فلسطين الشاعر والأديب، فلسطين الرؤية الثرية للكون والحياة.
وإذا كان الدكتور المسيري قد انشغل لما يزيد عن العقدين بدراسة الجماعات والتواريخ اليهودية، وكذلك تحليل الأيديولوجية الصهيونية، فإن هذا كان أيضًا محاولة لرسم صور الآخر، اليهودي الذي يواجه الفلسطيني في نضاله، وهذا الآخر ليس شخصًا مجردًا، ولكنه أيضًا طفل ورجل وامرأة، وأدب وشعر ورؤية -مقابلة ومتنافرة- للكون والحياة. ففلسطين جزء من تشكيل حضاري، والدولة الصهيونية أيضًا جزء من تشكيل اجتماعي وحضاري، هو أوروبا القرن التاسع عشر وتجربتها الرأسمالية وأدواتها الإمبريالية.
لقد تلمس المسيري مبكرًا طبيعة الإبداع الفلسطيني، هذه الروح النابضة التي ترتبط بالأرض لتدافع عن الوطن، لكنها لا تغرق في الأرض/ المادة لتصبح رؤية قومية ضيقة، بل تجعل الأرض مساحة لاسترجاع الحق المسلوب والدفاع عن ماضٍ وتراث هو أساس هوية للحاضر واستشراف للمستقبل.
يقرأ المسيري ويحلل شعر «توفيق زياد» و«محمود درويش» و«سميح القاسم» وغيرهم، ويرصد هذه الصورة التي تعبر عن مقاومة وصمود الإنسان الفلسطيني، وهو حين يعالج هذه النصوص كأستاذ متخصص في الأدب قبل أن يكون باحثًا في الصهيونية أو مؤلفًا لكتابات موسوعية في مجالات نظرية ومنهاجية شتى، حين يعالج المسيري-أستاذ الأدب والشعر- النص الشعري الفلسطيني فإنه يرصد جماليات هذا الشعر الذي صاغته المحن، ولا يرى في الشكل الفني المتمرد أو البنى اللفظية المتآكلة أحيانًا سوى محاولة واعية للشاعر لإبراز هذا الدور المحارب الفروسي للشعر والشاعر بدلًا من تكريس الوقت لتجميل البنى اللفظية أو الانفصال عن الحياة.
ولأن هذه التجارب الإبداعية بالدرجة الأولى تجارب إنسانية تتجاوز الخصوصية الفلسطينية فإن المسيري يحرص على نقلها ويترجمها للإنجليزية كي تصل بلسان آخر إلى بشر آخرين.
النموذج الانتفاضي
وحين تندلع الانتفاضة الفلسطينية يجد المسيري نفسه مستوعبًا تمامًا في أحداثها، ومستوعبًا تمامًا لأهمية هذه اللحظة التاريخية في الجهاد الفلسطيني؛ مما يدعوه إلى ترك مشروعه البحثي الأساسي وهو «موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية» ليكتب دراسة فريدة عن الانتفاضة. وبدلًا من أن يرصد يومياتها بشكل معلوماتي آخر، يستنطق المسيري المعلومات والبيانات والتفاصيل اليومية الصغيرة لتتحدث بلسان إنساني متألق، ثم يجرد منها رؤية معرفية تكمن وراء كل تفاصيلها، هي رؤية للكون والحياة. وبذلك يتجلى من التفاصيل الدقيقة نموذج إدراكي ومعرفي لم يكن ليدركه إلا عالم عربي منشغل مع آخرين بتأسيس علوم إنسانية عربية أكثر قدرة على تفسير الواقع وتحريكه من النماذج المستوردة جاهزة التصنيع؛ لذا كانت الانتفاضة بالنسبة للمسيري لحظة تاريخية نادرة كدارس للظاهرة الإنسانية في العالم العربي، ورأى فيها النموذج المعرفي الذي يبلوره وقد تحول إلى حدث يومي.
وقد وضع المسيري يده على النموذجين المعرفيين المتصارعين في فلسطين المحتلة. ما أسماه: نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي، وهو نموذج يسمح بوجود ثغرات بين الأسباب والنتائج وبين الجزء والآخر. فأجزاؤه ليست متلاحمة مع بعضها البعض، وهو نموذج يعرف الثنائيات الفضفاضة والانقطاع ويدور في إطار السببية الفضفاضة، ولذا فلا يسقط في الواحدية أو التلاحم العضوي. ورغم استقلال الأجزاء عن الكل وعن بعضها البعض إلا أنها ليست مفتتة ذريًا، فهي في علاقة تكاملية بحيث يمكنها أن تنسق فيما بينها وأن تتفاعل. ولذا فهو نموذج يعرف الاتساق والاستمرار والتكامل، ومع هذا يبقى لكل جزء من أجزائه استقلاله وكينونته وشخصيته وهويته. فالأجزاء مترابطة دون أن تكون متلاحمة عضويًا، والكل ينظم الأجزاء دون أن يبتلعها، ودون أن تذوب هي فيه، ودون أن تُرد في كليتها إليه، والسبب له علاقة بالنتيجة ولكنها ليست علاقة مباشرة صلبة.
ويضع نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي مقابل نموذج التلاحم العضوي وتتسم عناصره بأنها جميعًا متماسكة متلاحمة، بحيث لا يستطيع عنصر أن يستقل عن الكل، ولا يتمتع بمساحة يتحرك فيها بشيء من الاستقلال (وهذا هو النموذج السائد في الأوساط الثورية في العالم العربي، بل وفي العالم الحديث بأسره، وهو النموذج المهيمن على الدول المركزية القومية وعلى منظومة الحداثة الغربية).
النموذج الانتفاضي عند د. عبد الوهاب المسيري
نموذج التلاحم العضوي هو ثمرة حقيقية لمنظومة الحداثة الغربية المبنية على القطيعة المعرفية والفعلية مع الماضي، والبدء من الواقع المادي المباشر ومحاولة السيطرة على عناصره. والتغيير يعني رفض الماضي والبدء من نقطة الصفر الافتراضية. أما نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي فهو نموذج يحاول أن ينسلخ عن الحداثة الغربية ليستلهم التراث ويولد منه حداثة جديدة ونظمًا في الإدارة وتحريك الكتلة البشرية بأسرها.
وهذا أمر متوقع تمامًا، فالنموذج الانتفاضي نموذج استرجاعي: أن تصبح إسرائيل فلسطين مرة أخرى، وأن تزال آثار العدوان الاستعماري الغربي الصهيوني الذي نجح في مواجهتنا بآلاته الحديثة وقصم ظهرنا، فلا بد إذن من استدراجه إلى أرضنا حيث يمكننا أن نحاوره حسب قواعدنا ونستلهم تراثنا. ولذا فالانتفاضة كانت شكلًا من أشكال العودة عن الحداثة «Demodernaization»، وبعث أشكال تقليدية من التكامل الاجتماعي والإنتاج (الأسرة كوحدة أساسية، الزراعة التقليدية، المخبز الريفي، العودة لشجرة الزيتون كمصدر للحياة وللرموز) ليزداد التكامل الفضفاض والتراحم في المجتمع. ويلاحظ أن القرى التي لم تحقق مستوى عاليًا من التحديث هي أكثر القرى صلابة في النضال، إذ إن بنيتها التحتية التقليدية تضمن لها مقدرة أعلى على الاستمرار بسبب عدم تبعيتها.
وكلمة «انتفاضة» تبلور النموذج الانتفاضي بشكل يبعث على الدهشة، فهو دال يكاد ينطبق انطباقًا كاملًا على مدلوله بكل خصوصيته ونتوءاته ومنحنياته، وهو مصطلح يعود للمعجمين اللفظي والحضاري العربي الإسلامي. والكلمة مشتقة من فعل «نفض»، مثل «نفض الثوب»، يعني «حرّكه ليزول عنه الغبار أو نحوه».
والكلمة على المستوى الدلالي المباشر تشير إلى حركة خلاقة تولد الجديد من القديم (النظافة)، وهي توحي في الوقت نفسه بعدم تجذر هذا الذي سيزول- الغبار الذي علا الثوب- أو الاستعمار الصهيوني الذي حط على أرض فلسطين. ويقال أيضًا: نفض المكان أي نظر جميع ما فيه حتى يعرفه (وهذه حيلة معروفة لدى شباب الانتفاضة). ويقول أيضًا: نفض الطريق أي طهره من اللصوص. والنفضة هي جماعة يبعثون في الأرض متجسسين لينظروا هل فيها عدو أو خوف. وتحمل الكلمة أيضًا معاني الخصوبة فيقال: «نفض الكرم» أي «تفتحت عناقيده». ويقال: «نفضت المرأة» أي «كثر أولادها». والمرأة «النفوض» هي «المرأة كثيرة الأولاد» (مثل المرأة الفلسطينية)، وهناك تعبيرات مثل «نفض عنه الكسل» و«نفض عنه الهم»، وكذلك «انتفض واقفًا».
والكلمة بدلالتها وإيحاءاتها تفترض وجود قوة ما كامنة، كانت ساكنة ثم تحركت، وأن مصادر الحركة ليست من خارج النسق، وإنما من داخله. وهذا البعد يجعل كلمة «انتفاضة» (لا ثورة) مصطلحًا أكثر دقة في وصف ما يحدث، فالثورة تفيد الانقطاع (الثورة الفرنسية والثورة البلشفية) أما الانتفاضة فتفيد أن الكامن قد أصبح ظاهرًا، وأنه وصل ما انقطع ولم يقطع ما اتصل.
ونحن نذهب إلى أن الحجر في حالة الانتفاضة ليس مجرد سلاح استخدمه المنتفضون بكفاءة عالية، وإنما هو بلورة كاملة لنموذج التكامل الفضفاض غير العضوي. فاستخدام الحجر كفاءة توصل إليها الإنسان منذ أن بدأ التاريخ البشري، والحجر موجود بكثرة داخل معجمنا الحضاري، فهو إحدى المفردات الأساسية في التراث العربي الإسلامي، فالحصان يشبه في معلقة «امرئ القيس» بأنه «جلمود صخر حطه السيل من عل». ونحن نعرف كذلك آية الطير الأبابيل التي رمت الغزاة «بحجارة من سجيل»، وعقوبة الزنى هي «الرجم». ويستعيذ المسلمون بالله من الشيطان «الرجيم»، ويقضون حياتهم يحلمون بإقامة شعائر الحج، ومن أهمها «رجم» إبليس وتحية «الحجر» الأسود (وربما تقبيله). وتقف الكعبة نفسها «حجرًا» ضخمًا مكعب الشكل يشير إلى ما لا نهاية، إلى الإمكانيات والوعود والجنة. ويزخر شعر المقاومة الفلسطينية قبل الانتفاضة وبعدها بإشارات لا تعد ولا تحصى للأرض والجبال والحجارة.
وثمة سمات مشتركة أخرى بين نموذج الانتفاضة، نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي، والنماذج الإدراكية السائدة في المجتمعات التقليدية. فعلى سبيل المثال لجأت الانتفاضة، التي تحاول أن تحرك الكتلة البشرية بأسرها، إلى البحث عن رقعة الإجماع الشعبي بين الفلسطينيين (الثوابت الإنسانية) مثل التمسك بالأرض والدفاع عن حق تقرير المصير، ولم تشغل بالها بالأطروحات الثورية النقية الدقيقة. وهذا التوجه للثوابت قد لا يكون رشيدًا من منظور علمي مادي ولكنه رشيد تمامًا من الناحية الإنسانية والتعبوية. والانتفاضة في هذا لا تختلف كثيرًا عن المجتمعات التقليدية التي تتسم بقدر عال من التماسك بسبب الإيمان بالثوابت، ومن محاولة إدارة الأمور من خلال الإجماع لا الصراع (والإدارة من خلال الإجماع لا من خلال تصعيد المنافسة وهو أسلوب في الإدارة تبنوه في اليابان بنجاح كبير، وبدأوا يكتشفون أهميته وجدواه في الغرب).
ويمكن أن نرى النزعة الانتفاضية نحو الاستفادة من خبرات المجتمع التقليدي من موقفها مما يسمى «الموضة». والموضة -كما نعلم نحن عرب الخارج- اختراع غربي شيطاني، الهدف منه أن نغير ملابسنا وأذواقنا (وهويتنا) مرتين كل عام، وأن نبدد طاقتنا الجسدية والروحية والمالية دائمًا. ولكن في زمان الانتفاضة، وفي مكانها؛ تتغير الأمور وتصبح الموضة ليس السعي للحصول على آخر ما اقترحه القرد الأعظم في باريس، وإنما أن نلبس ثيابًا من صنع المصانع الفلسطينية وبالتالي نضرب العدو ونساند الصناعة المحلية، فيزداد المنتفضون عزة واعتدادًا بالنفس. كما أن اتباع الموضة الانتفاضية يعني أن الجميع سيرتدي الزي نفسه تقريبًا فيصعب على العدو أن يميز بين الفلسطينيين، ومن ثم تصبح عملية المطاردة شبه مستحيلة (وهذا يشبه من بعض الوجوه الثورة الجزائرية حين أصبح كل الذكور يسمون محمدًا وكل الإناث فاطمة، بحيث يغرق العدو في البحر الإنساني). بل إن كل متجر ملابس أصبح مكانًا لتغيير الزي، ولذا إذا دلف أحد المنتفضين إلى هذا المتجر فإن صاحبه يتصرف بتلقائية متعمدة، ويساعد المطارد على تغيير ملابسه، ليخرج وينظم للبحر الإنساني.
نموذج التلاحم العضوي (شأنه شأن نموذج الحداثة المادية الغربية) مبني على النمو المستمر والمتصاعد وتعظيم متراكمة الطاقة واستهلاكها وتبديدها، بل وأحيانًا تبديد المادة ذاتها حتى يصل النموذج إلى الذروة، وهي نقطة الاشتعال (نهاية التاريخ). فهذا النموذج يذهب إلى أن تراكم الظروف الموضوعية وتصاعد التناقضات واحتدامها، سيولد حتمًا وعيًا ثوريًا، وهذا سيؤدي بدوره إلى اندلاع الثورة.
وعملية التراكم والنمو التي تتم، هي عملية عالمية تحدث في كل المجتمعات حسب النمط نفسه. فنمط التراكم والتناقض واحد، ومن هنا الاهتمام المفرط بالظروف الموضوعية العامة لا بالظروف الفريدة المحلية. والنماذج التراكمية ترى أن التصعيد الثوري لابد أن يأخذ شكلًا تصعيدًا رأسيًا لا أفقيًا، بمعنى حتمية أن يكون هناك تزايد دائم في احتدام التناقضات، وفي تصاعد درجة الحرارة حتى تصل إلى درجة الاحتراق. ولذا أصبح الفكر الثوري مشغولًا بتهيئة الظروف الموضوعية لنشوب الثورة.
أما نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي فيحتاج إلى قدر من الطاقة ولكنه لا يتجه نحو تعظيم متراكماتها واستهلاكها، إنما يركز على استخدامها مع الحفاظ عليها وعلى مصادرها (كما هو الحال في المجتمعات التقليدية). وهو نموذج يفضل التوازن على الصراع، ولذا فهو نموذج يجمع بين الطاقة الإنسانية (التقاط الحجر وإلقائه) والطاقة الطبيعية (الحجر نفسه).
ولأن النموذج الانتفاضي لا يتجه نحو النمو المستمر فهو لا يحاول أن يصل إلى الذروة، ولذا فهو يتوهج أحيانًا ويخبو أحيانًا أخرى، ولكنه لا ينطفئ أبدًا ولا يشتعل أبدًا. وقد درب أهل الضفة والقطاع أنفسهم تمامًا حتى أصبح في وسعهم أن ينجزوا في ساعتين أو ثلاث ما لا يستطيع غيرهم إنجازه إلا في يومين أو ثلاثة، وهذا يتطلب تدريب كل أفراد الجماعة على الحركة المنسقة وعلى توزيع الأدوار والوظائف توزيعًا دقيقًا. وقد أدى هذا إلى زيادة مقدرة الفلسطينيين على القيام بهذا العدد الهائل من الإضرابات والاحتجاجات دون أن يحترقوا.
وقيادة الانتفاضة بقبولها فكرة السماح بفتح المحلات وغيرها من الخدمات لعدة ساعات تبين أنها مدركة لضرورة تحريك كل أجزاء الجماعة الإنسانية وبشكل مستمر، ومن ثم لابد أن تلبي حاجاتهم الإنسانية كبشر، لابد أن يأكلوا ويشربوا ويفرحوا ويحزنوا. ولكنهم كبشر أيضًا يحققون إنسانيتهم من خلال انتفاضتهم فلا يسقطون في رتابة الزمان اليومية، ولا في آليته المبتذلة، إذ إنهم بعد عودتهم من عند البقال يضعون ما اشتروا من بضائع في زاوية الدار ثم يعانقون النجوم ويرشقون عدوهم بالحجارة. لقد ابتدع الفلسطينيون زمانًا فلسطينيًا للمكان الفلسطيني_ هذا إذن هو الإنسان في زمن الانتفاضة، هذا هو الإنسان الذي أفلت من قبضة الزمن الرديء، وقد أنجز ذلك لا بتحطيم الزمان نفسه (كبروميثيوس أو العنقاء كما يقول شعراء الحداثة). وإنما بالعمل من خلاله وتقبله كمعطى، وبزيادة الخبرة اليومية، ومن خلال التكاتف والتعاطف والتراحم. وماذا يستطيع العدو مهما بلغت كفاءته أن يفعل في مجابهة هذا؟
ومن الأمثلة الأخرى على التصعيد الأفقي أن المنتفضين لاحظوا أن جنود العدو كانوا يتعرفون على راشقي الحجارة عن طريق التراب العالق بأيديهم. فقام المنتفضون بتجنيد الصغار ليحملوا فوطة مبللة يغسل راشق الحجارة يده بعد فراغه من فعله البطولي. واستخدام الوزنة الحديدية بدلًا من الحجر، هو مثال ثالث على التصعيد الأفقي. والوزنة بالنسبة للحجر كالمدفعية الثقيلة بالنسبة للبندقية، فاستخدامها شكل من أشكال التصعيد ولا شك، ولكن مع هذا تظل الوزنة تنويعًا على الحجر. ويبدو أن إخفاء الوزنة أمرًا أسهل بكثير من إخفاء كمية من الحجارة، كما أنه يفترض إمكانية تجنيد كل عناصر الجماعة. ولنتخيل شعور الطفل الذي يحمل الفوطة المبللة ومدى إحساسه بالكرامة حينما يعود إلى منزله ليحكي لأمه وأبيه ما يفعل فتزداد درجة التماسك والتراحم في الجماعة الفلسطينية.
ثمة مؤشرات أخرى على زيادة كفاءة الجماعة الفلسطينية في الانتفاضة. فعلى سبيل المثال عنما بدأت الانتفاضة كان بعض راشقي الحجارة يلجأون إلى مدارس البنات للهرب من المطاردين الإسرائيليين، فكانت البنات يصرخن بسبب فجائية الموقف، ولكن تعلم الجميع كيف يعزف لحن الانتفاضة المستمر. ولذا فحينما كان أحد المنتفضين يدخل مدرسة البنات فإن الجميع كن يتحركن بتلقائية متعمدة ويختفي المنتفض. وقد يظهر المنتفض فجأة أمام مكتب إحدى الموظفات وبالتلقائية المتعمدة نفسها تعطيه شهادة حسن سلوك لأخته التي حضر من أجلها، وليغوص العدو في هذا البحر الإنساني، إذ لا توجد آلة واحدة قادرة على مساعدته في اجتيازه.
ويتطلب نموذج التلاحم العضوي حدًا أقصى من التنظيم والترشيد الكامل في إطار القانون العام والتطبيق الصارم له، فيتم التنسيق الكامل بين الأجزاء المختلفة. ولذا لا بد أن تكون كل العناصر متجانسة، ولا بد أن تذعن للقانون العام والسلطة المركزية وتتسم بالخضوع للأطروحات الثورية العلمية الدقيقة.
أما في حالة نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي، فإن الترشيد الكامل لا يكون ضروريًا، بل قد يكون على العكس ضارًا، إذ إن الترشيد يعني تطبيق قانون واحد على الجميع، أو مجموعة من القواعد المختلفة ينظمها قانون واحد، وهذا يتعارض مع تنوع الأجزاء وتفاوت السرعات. ونموذج التكامل غير العضوي قد لا يعمل بنفس المستوى من الكفاءة ولا على نفس القدرة من السرعة التي يعمل بها نموذج التكامل العضوي، ولكنه قادر على أن يعمل بسرعات متفاوتة في الوقت نفسه بسبب عدم وجود تنسيق صارم بين الأجزاء المختلفة (إذ يحتفظ كل بشخصيته إلى حد ما). وهو بسبب مساميته وليونته يتمتع بإمكانية الحركة إلى الأمام أو إلى الخلف أو إلى اليمين أو إلى اليسار. بل ويمكن أن تتحرك بعض أجزائه إلى الأمام وتتحرك بعض أجزائه الأخرى إلى الخلف، حسب الظروف. ويمكن أن تتحرك بعض أجزائه بينما تتوقف الأجزاء الأخرى، ولذا فمقدرته على تعبئة الجماهير، رغم عدم تجانسها، عالية.
وهذا ما فعلته الانتفاضة من خلال تجنيدها للكتلة البشرية (من كل الأعمار والطبقات والانتماءات الإثنية والدينية) في الأراضي المحتلة وتحريكها جميعًا في وقت واحد، في فترات مختلفة، وحسب مقدرة كل قطاع داخل هذه الكتلة على الحركة. ولم تكن الحركة دائمة متجانسة، وإنما كانت متقطعة غير متجانسة.
وقد تركت الانتفاضة بسبب عدم التزامها بقانون مجرد واحد مجالًا واسعًا للإبداع الشخصي وحولت الارتجال إلى شكل مهم من أشكال النضال الإبداعي الذي يمكن استيعابه داخل التخطيط المركزي الفضفاض. والنضال بالحجر لا يتطلب درجة عالية من الترشيد ومن ثم لا توجد ضرورات لدورات توعية أو حلقات تدريب ولا درجات عالية من التنوير والتسييس.
كذلك فإن نموذج التلاحم العضوي، بسبب تماسكه العضوي وصلابته وافتقاده إلى المسامية والفضفاضية قادر على الحركة في ظروف مثالية وحسب، وفي اتجاه واحد إلى الأمام. ولكنه بسبب هذا نجده غير قادر على التوقف، وفي الوقت نفسه مهددًا بالتوقف الكامل إن لم تتوفر له الظروف المثالية؛ أي ظروف التحكم الكامل والتجانس الكامل والترشيد الكامل.
قد لا يتسم نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي بمقدرته على الحركة السريعة ولكنه يعوض هذا بمقدرته الفائقة على التحرك والاستمرار تحت معظم الظروف، وعلى الاستمرار بعد الانقطاع، وهذا ما حققته الانتفاضة، فهي أول حركة عصيان مدني نشط في التاريخ. لقد استمرت الانتفاضة وأنهكت العدو تمامًا، حتى أن التفكير الإستراتيجي الإسرائيلي توصل إلى اقتناع مفاده أنه لن يمكن القضاء على الانتفاضة إلا عن طريق الالتفاف حولها، ومن هنا مدريد ثم أوسلو.
لقد استمرت ست سنوات ويمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، لأنها في هذه الفترة شيدت كل المؤسسات البديلة لإدارة المجتمع؛ أي أن الانتفاضة بهذا المعنى كانت انتصارًا لفكرة المجتمع الأهلي مقابل الدولة المركزية. واندلاع الانتفاضة الثانية دليل آخر على مقدرة النموذج الانتفاضي على الاستمرار بعد التوقف وعلى التأرجح بعد الراحة.
ويتسم نموذج التكامل العضوي بالثنائية الصلبة، فالمركز قوي أما الأطراف فضعيفة، ولذا فالتنظيم يتسم بالهرمية الصلبة، نخبة طليعية مسلحة بالنظرية الثورية تتمتع بوعي ثوري عالٍ، وجماهير تابعة ينظمها الحزب الثوري (طليعة الطبقة العاملة!) ويقودها إلى أرض الميعاد. ولذا لا يمكن تخيل الثورة بدون النظرية الثورية أو الحزب الثوري: ثمة حاجة إلى مركز قوي فعال، لا يستطيع النموذج التحرك بدونه. ولكن، إن أصاب المركز خلل، تبعثرت الأطراف تمامًا وانتقل من الثنائية الصلبة إلى السيولة الشاملة وتحول الهرم المدبب إلى شيء مسطح لا مركز له ولا قوام.
أما في حالة النموذج الفضفاض غير العضوي، فإن المركز لا يكون بالضرورة أقوى من الأطراف، ولذا يكون التنظيم شبه هرمي، قمته ليست مدببة ولا حادة، والقيادة لا تمسك كل الأمور بيدها ولا تسبق الجماهير وإنما تسير في وسطها جنبًا إلى جنب، كما هو الحال في المجتمعات التقليدية التي لا تعطي أهمية مطلقة للنخبة أو الدولة، إذ تتم الإدارة من خلال عدد هائل من المؤسسات الأهلية والوسيطة (الأسرة، علاقات، القرابة، الأوقاف.. إلخ)، ومن خلال النصح والإرشاد وقدر من الإجماع. وإن حدث شيء للمركز فلن يؤثر كثيرًا في الأطراف إذ لا يختلف المركز عن الأطراف كثيرًا. والأطراف، شأنها شأن كل الأجزاء، لها شخصيتها المستقلة، أما وتيرة حركتها فينظمها المركز ولكنها مستقلة عنه ولها تموجاتها المختلفة.
هذا التماسك بين أفراد الجماعة يمكنها من الاستمرار في الأداء دون توجيه يومي من القيادة ودون رقابة حزبية صارمة (دون انضباط حزبي كما يقال في الخطاب الثوري) وهذه هي طريقة التنظيم في الانتفاضة، فالنضال بالحجر لا يتطلب عملية تنظيم مركزية أو قيادة قوية، فرغم وجود القيادة المركزية إلا أن الأطراف ظلت قوية. فحينما يتم القبض على أحد القادة فإن الجماعة تبذل قصارى جهدها لإثبات أنه ليس بالقائد الفعلي وذلك عن طريق الاستمرار في النضال وتصعيده. ومن هنا يصبح القبض على القائد عنصرًا يزيد من التلاحم والتماسك والتراحم بدلًا من أن يكون عنصر تآكل وتراجع. بل إنه في كثير من الأحيان ، ونتيجة تحسن الأداء، كان العدو يستنتج أنه لم يتم إلقاء القبض على القائد الحقيقي ويعود للبحث عنه.
ومن المفارقات، أن تماسك الجماعة وفعالية كل أفرادها جعلها أكثر قدرة على اختيار العناصر القيادية الأكثر كفاءة، لأنه إذا كان الجميع يعرف الجميع وإذا كان الطفل والشاب والعجوز يتكاتفون، فمن خلال الممارسة اليومية تسهل معرفة العناصر الأكثر حركية وانتفاضًا فتصعد لمرتبة القيادة. فالتماسك هنا لم يجعل القيادة مهمة، ولكنه ضمن في الوقت نفسه وصول العناصر البشرية الأكثر إبداعًا وانتفاضًا إلى مركز القيادة!
كيف طور الفلسطينيون سلاح الـ«بطيخة» كهوية تغيظ العدو وتجعله أضحوكة أمام العالم؟
وقد اهتم المنتفضون، انطلاقًا من نزعتهم التراثية، أيما اهتمام بالأغاني الشعبية والتراث الشعبي في نضالهم واحتجاجهم، ولكن إبداعهم التراثي وصل ذروته وعبر النموذج الانتفاضي، نموذج التكامل الفضفاض، عن نفسه خير تعبير فيما سميته «حيلة البطيخة». فمن المعروف أن قوات الاحتلال الصهيوني كانت تُحرم على الفلسطينيين أن يرفعوا العلم الفلسطيني وتجرم هذا الفعل. ولذا بدلًا من المواجهة المباشرة كان الفلسطينيون، عند مرور القوات الصهيونية، يقومون بقطع بطيخة نصفين ثم يرفعون أحد النصفين، وكل لبيب بالإشارة يفهم. فألوان البطيخة المقطوعة حمراء وقشرتها خضراء وبيضاء وبذرتها سوداء، هي ألوان العلم الفلسطيني.
ولعل عملية قطع البطيخة ذاتها تذكر الجندي الصهيوني بأشياء أخرى يخافها. إن قطع البطيخة المتينة أكثر عمقًا في مدلوله من مجرد رفع العلم المجرد. وهو سلاح مبتكر تمامًا يوجد عند الفكهاني في أي وقت، وليس بإمكان العدو مصادرته وإن فعل يصبح أضحوكة أمام العالم. وهو سلاح اقتصادي تمامًا يمكن تدويره (بالإنجليزي: ريسياكلنج recycling)! يستطيع المناضل أن يأكله بعد أن يناضل به، ويستطيع الجميع استخدام سلاح البطيخة من سن السابعة إلى سن السابعة والسبعين. وهو أيضًا سلاح يستفز العدو دون إعطائه فرصة للبطش. وهو في نهاية الأمر تعبير عن الهوية: حلبة الصراع الحقيقية. والبطيخ سلاح شعبي مائة في المائة، ولا أعتقد أن من يأكل الهامبورجر كثيرًا ويسمع الديسكو طويلًا قادر على أن يستخدم البطيخة كعلم فلسطين، والأغنية كنظرية ثورية، والحجر كسلاح.
هذا هو نحو الانتفاضة وهذه هي قواعدها، وما أشكال الإبداع الانتفاضية الأخرى إلا تنويعات أو جُمَل ثم توليدها على هذا النحو. فسلاح إشعال النار في الغابات يتسم (تمامًا كالحجر) بأن لا يحتاج لسلاح مستورد، ولا لمستوى تنظيمي عال ويحقق درجة عالية من إمكانية البقاء. ويمكن تحسين هذا السلاح من داخل النسق التقليدي، إذ يقوم المنتفضون بسرقة حمام من مزارع الإسرائيليين ثم يزودونه بفيلينية تشعل الحرائق ويطلقونه ليعود -كما تملي عليه غريزته- إلى منطقة سكناه، وفي الطريق يشعل الحرائق!
ولعل حادثة الحافلة التي بثت الرعب في نفوس المستوطنين شكل آخر من النضال الانتفاضي الذي يعبر عن نموذج التكامل الفضفاض، إذ قام أحد الانتفاضيين وبيديه العاريتين دفع سائق الحافلة فسقط الجميع في الوادي وتناثرت أشلاء العدو، فهي فعل تم بمبادرة شخصية وجهد إبداعي فردي، ولذا لم تتمكن الاستخبارات من ضربه، وهو مع هذا جزء ينسجم تمامًا مع الكل (الانتفاضة) ويخدم أهدافه!
وقد تركت الانتفاضة أعمق الأثر في أطراف الصراع، أما بالنسبة للفلسطينيين والعرب فقد نزعت الانتفاضة عنصر الخوف من القلوب، وأثبتت أن بالإمكان إلحاق الهزيمة بالعدو الذي كان يظن أنه لا يقهر، هذا لو نفضنا عن أنفسنا التبعية الإدراكية وتعاملنا مع واقعنا من خلال نماذجنا الخاصة بنا، بل أن بوسعنا -لو شئنا- أن نولد من الانتفاضة -باعتبارها نموذجًا معرفيًا- نماذج جديدة مختلفة عن النماذج (العضوية التراكمية) السائدة، فالانتفاضة اكتشفت شيئًا ما داخل الإنسان العربي وحركته، وهو الأمر الذي لم تنجزه أية حركة فكرية أو سياسية أخرى من قبل.
أما على الصعيد الدولي فقد أسقطت الانتفاضة قناع إسرائيل الديمقراطي وأصبح من العسير الحديث عن التراث اليهودي المسيحي والتقاليد الليبرالية وما شابه من ديباجات طريفة أحرزت شيوعًا في العالم الغربي بين البسطاء ورجال الصحافة والإعلام.
أما بالنسبة للصهاينة فعمق أثر الانتفاضة في التجمع الصهيوني يفوق الوصف. فالانتفاضة عمقت جوانب أزمة المجتمع الصهيوني سواء في المجالين الاقتصادي أو السياسي. وتعميق الأزمة الاقتصادية والسياسية، ومن ثم ازدادت طفيلية التجمع الصهيوني وازداد التفسخ الاجتماعي فيه.
ولكن الأهم من هذا، أن الانتفاضة زعزعت دور إسرائيل كوسيط، فالدولة الصهيونية كانت تطرح نفسها على أنها استثمار ليس ذا عائد اقتصادي كبير ولكنه ذو عائد إستراتيجي مرتفع (فهي حاملة طائرات أمريكية زهيدة التكاليف)، ولكن الانتفاضة بينت بما لا يقبل الشك أن الدولة الصهيونية مكلفة من النواحي الإعلامية والاقتصادية والسياسية، وأنها قد يمكنها القيام بعمليات إجهاضية (دور الفتوة) أو أن تضرب في العمق العربي، ولكنها غير قادرة على الاحتفاظ بالأمن والسلام الأمريكي من باكستان إلى المغرب، كما كانت تزعم.
ومع استمرار الانتفاضة وعجز المؤسسة الصهيونية عن إطفاء نورها ونيرانها، ومع تزايد تماسك المجاهدين الفلسطينيين اكتشف الصهاينة أن دورهم التقليدي كشرطي للمنطقة لم يعد ممكنًا، وأن محاولة ضرب الانتفاضة من خارجها لن تفلح، ومن هنا بدأت إسرائيل تطرح نفسها على أنها عدوة الأصولية الإسلامية ليمكنها دخول تحالف مع الحكومات العربية ضد الروح الجهادية، ومن هنا توقيع اتفاقيات السلام والإلحاح على ضرورة رفع المقاطعة العربية حتى تلعب إسرائيل دورًا اقتصاديًا يحل محل دورها العسكري القديم أو يكمله، بهذه الطريقة تحل الدولة الصهيونية أزمتها تجاه الدول الغربية الراعية لها وتكون قد توصلت إلى طريقة لضرب الانتفاضة من الداخل.
ولكن أهم آثار الانتفاضة بغض النظر عن نتائجها العملية والمباشرة أنها أصابت الحلم الصهيوني في مقتل، فالمستوطن الصهيوني الذي كان يستند وجوده وإحساسه بالأمن الداخلي إلى وهم الإيمان بأن العرب -في نهاية المطاف- سيرضخون ويقبلون الأمر الواقع، قد رأى المقهورين، وهم يهبون -فجأة من وجهة نظره- ويلقون الأحجار عليه في انتفاضة اشترك فيها الجميع حرفيًا، ولذا بدلًا من الأحلام الوردية المتركزة على البيت الفاخر الذي يوجد على أطرافه العمالة العربية الرخيصة، توجد كوابيس مظلمة يقف في وسطها طفل ممسك بحجر، ومن ثم بدأ يتساءل المستوطن الصهيوني -ولأول مرة- لا عن الخلل الذي يمكن إصلاحه، وإنما عن شرعية وجوده نفسها؛ وبهذا تكون الانتفاضة قد استعادت للصراع العربي- الإسرائيلي أبعاده الحقيقية.
ورغم كل المحاولات الحالية الرامية لتحويل قضية الصراع العربي- الإسرائيلي إلى قضية إجرائية متصلة بالممرات وفرق المطافئ وبضعة كيلو مترات، فإن اندلاع الانتفاضة يؤكد أن القضية أكثر شمولًا وعمقًا، وأن جهادنا ليس من أجل هذا الشيء أو ذلك، وإنما من أجل هوية هذه المنطقة ومن أجل قيمها ومستقبلها.
إن أبرز إسهامات المسيري أنه أدرك أن الانتفاضة ليست حركة عصيان مدني لتحرير فلسطين أو الشعب العربي، وإنما هي نموذج متكامل ورؤية للكون يمكن استخدامه في إدارة المجتمع العربي بطريقة تفجر الإمكانات الثورية والإبداعية لدى الجماهير. وهذا ما فشلت فيه كل من الحركات الثورية العربية وأعضاء النخب الحاكمة. فإنجاز الانتفاضة إنجاز لنا جميعًا نحن أبناء الشعب العربي والشعوب الإسلامية، وهو طريقة للجهاد ذات فاعلية عالية. ولعل عودة الانتفاضة ونشاطها بعد سكوتها، يعني أن نموذج الجهاد لا يموت، فهي قد تهدأ قليلًا لتراقب ما يحدث، لتعود حية شامخة، كالنجم الساطع في سمائنا التي لا يتلألأ فيها كثير من النجوم.