عبود من غزة: أن يُحاكي الواقع سينما بينيني
أن تؤطر الفُكاهة إبادة جماعية
في عام 1997 قدم المُخرج الإيطالي «روبيرتو بينيني» فيلمه الشهير life is beautiful الذي أثار الجدل فور صدوره، لأنه قدم مُعالجة كوميدية لحدث غير اعتيادي في حساسيته الإنسانية والسياسية…. الهولوكوست!
في حكاية «روبيرتو» يُقاد الأب الإيطالي الظريف «غويدو» مع طفله إلى مُعسكر إبادة نازي، لا يُجيد «غويدو» المُهرج المُسالم شيئًا من نزعات القتال أو المُساومة، لا يمتلك في جعبته من فنون النجاة سوى حس دُعابته.
لذلك يُحول بخيال كوميدي روع المُعتقل إلى لعبة مُثيرة، يُقدمها لطفله، فيها السجان هو مُهندس المُغامرة اللطيف الذي يصطنع القسوة مثل معلمة المدرسة الصارمة لكنه طيب ومُهمته أن يُقدم تحديات يومية إلى المسجونين، وكل يوم عليهم الفوز بنقاط، لأنشطة بسيطة مثل تحمل الجوع، والعمل في أجواء مأساوية، لينال الفائز في النهاية جائزة يسيل لها اللعاب وهي دبابة عملاقة له وحده.
في البداية يراه زملاؤه مجنونًا، ثم يشاركونه خياله، يُذهل السجناء عن مصيرهم وينسجون عباءة خيالية من الإيهام الجماعي تحمي الطفل من رؤية الحقيقة.
يموت السجناء واحدًا تلو الآخر، ولا يُفسد أحد في طريقه للمحرقة فقاعة الخيال، ولا يخدش أحد بيأسه وهو يقترب من غرفة الغاز جمالية اللعبة.
يُكثف «بينيني» رسالة الفيلم بأكملها في تلك الصورة عندما يصطدم الأب خلال سيره بجبل من الجُثث العفنة لزملائه، ترتسم على ملامحه إمارات الفزع والروع لكنه يحتضن طفله الذي ينام على كتفه وهو ينظر مُطمئنًا للاتجاه الآخر.
في لقطة واحدة ينظر الأب إلى المحرقة وينظر الابن في الاتجاه الآخر نحو سجن يراه كساحة لعب، تُقدم اللقطة جوهر الأبوة كاملًا، أن ينوب الكبار عن أطفالهم في مواجهة الشر، وبينما يُحدق الهلاك في أعينهم وجهًا لوجه، يُذهلون عن مشهدية مصيرهم بطمأنة أطفالهم أن كل شيء سيكون على ما يرام، تعمل الأبوة كسد منيع ولو كاذب بين أطفالنا وقسوة العالم.
رغم النجاح الساحق للفيلم الذي انتزع ثلاث جوائز أوسكار دفعة واحدة. قوبل «روبرتو» بعاصفة من الاستياء في بعض الأوساط اليهودية التي وصفت فيلمه بأنه تجسيد تافه للمحرقة، يُفرغها من مأساويتها، ويبتذلها لتكون أقصوصة كوميدية لا أكثر.
الفكاهة في زمن الهولوكوست
قال «روبرتو» إنه حكاء، والحكاء صياد مُهمته إقتناص الجمالية أو الشعرية التي يطويها الحدث، ولو كانت الكوميديا الأداة الأمثل لذلك الصيد عليه أن يستخدمها كقالب لحكايته.
قال بسخرية، يُمكنكم أن تعتبروا الفيلم حلمًا، ألم يحلم المحكوم عليهم بالإعدام دومًا قبل هلاكهم بالحُرية ولو في طيف مزحة؟ مما يدفعنا للتساؤل هل يُمكن تخيل مشهد لأشخاص في قلب محرقة، تفصلهم دقائق من مصرعهم، يروضون الحدث الثقيل ويُعيدون تدويره في صورة فكاهية؟!
رغم ما تنطوي عليه تصريحات «بينيني» من رؤية شعرية وسينمائية للعالم يصعب تخيل استحضارها في المأساة إلا أنه تبعًا لدراسة الباحثة «ويتني كاربنتر» بعنوان «فحص الفُكاهة في زمن الهولوكوست» فقد تناقل الناجين من الهولوكوست حكايات لا تنتهي عن دُعابات ألفوها على بُعد أميال من مداخن غرف الغاز، ومسرحيات هزلية قاموا فيها بتقليد مشية هتلر ولكنته، وحركات الحراس.
يقول أحد الناجين، إن الدُعابة لم تُغير إنشًا في المصير، لكنها غيرت الطريقة التي ينظر بها السُجناء للمشهد بأكمله، حتى اللحظة الأخيرة ارتسمت على ملامح الحراس يأسًا حانقًا، لأنهم سيطروا على كل شيء إلا وجدان المسجونين، كان السُجناء يحولون أي شيء لدُعابة، رؤوسهم الحليقة، أرقامهم، مصارعهم القادمة، لأنها الحيلة الأخيرة ليحتفظوا بتعقيدهم الإنساني أمام حارس قام بتدجين بيئتهم كاملة وحولهم إلى حيوانات بشرية، أو كما يقول المؤرخ «كونراد هيرس»:
رغم أسبقية الواقع على السينما وتأكيده لذكاء رؤيته، أن الكوميديا أحيانًا هي الجناح الوحيد الذي يُمكن أن يصل المرء عبره لقلب المأساة دون أن تحرقه وتُحيله رمادًا، يؤكد «بينيني» أنه لم يصنع فيلمًا وثائقيًا، ولم يقدم فكرته مُتحريًا الدقة عن واقع ضحايا المحرقة وشهادات الناجين.
لذلك تعمد المخرج أن يزخر فيلمه بالمُغالطات التاريخية حول الزمان والمكان الذي حول إيطاليا لمكان يستضيف معتقلات مثل الأوشفيتز، يُدافع «بينيني» عن تلك المغالطات كونها مقصودة لتجعل حكايته أصيلة في ذاتها لأن تقليد أي مأساة هو الابتذال الأكبر لها، إنما احترامها يكمن في تقديم تنويع أصيل عنها، يستمد روحها لا ينحت معالمها مثل مُقلد رخيص.
تلك الأصالة لا تجعل الفيلم حسب «بينيني» رواية سينمائية عن الهولوكوست إنما رواية إنسانية واسعة عن قُدرة الفكاهة الفريدة على إنقاذ الجوهر الإنساني في مواجهة الموت، رواية يُمكن استدعاؤها في أشد الأوقات ظلمة.
تذكرت كلمات «بينيني» واستدعيت حكايته في حرب «غزة» الأخيرة، التي تستعير كل مُفردات الهولوكوست، الحصار، نزع الأنسنة عن طيف من البشر، الإبادة المُمنهجة، عندما تناقلت وسائل التواصل مقاطع مصورة، لأب يُدرب ابنته على التصفيق الطفولي عندما يشتد صوت القصف، مُحولًا احتمالية هلاك يقترب إلى لعبة مُسلية، بينما يُشتت عامل إغاثة طفلة ترتعد بمدح خصلات شعرها التي أفسدها رُكام القصف، ومُصورة صحفية تمنح زيها الواقي وخوذتها لطفلة حزينة لكي تبتسم
تبدو الصور كلها بورتريهات واقعية لكنها لا تخلو من الشعرية، تنويعات عن لقطة «بينيني» وهو ينظر لهلاك وشيك بينما يحتضن طفله لينظر مُطمئنًا في الاتجاه الآخر. كل هؤلاء الأطفال تناسوا المأساة للحظات واستسلموا بتلذذ لمنطق تلك الألعاب التي مهما بلغت قسوتها، لن تقتلهم. ففي النهاية الكبار موجودون لحمايتهم ولا يُمكن أن يموت المرء في لعبة.
يعتمد «بينيني» في كثير من مواقف الفيلم على كوميديا التناقض بين السرد المحكي وخلفية الحدث، مثل المشهد الذي يتطوع فيه لترجمة تعليمات السجان الألمانية للسُجناء باللغة الإيطالية التي لا يفهمها الحُراس، يُحول البطل تعليمات الحارس الصارمة إلى تعليمات كوميدية بشأن اللعبة المُصطنعة بينه وبين ابنه. ينتاب السجناء مزيج من الاستغراب والرغبة في الضحك على جدية الحارس وغفلته الضمنية عن رجل بجواره يحوله إلى مزحة.
تذكرت بتلك المشاهد التي يناقض فيها السرد خلفية الحدث، الزخم الذي خلقه صبي من غزة ظهر بمقاطع قصيرة تزامنت مع بدء أحداث السابع من أكتوبر، مُقدمًا نفسه وسط الركام والحُطام بالصيغة التالية:
أنا عبد الرحمن رأفت بطاح، توجيهي ثانوية عامة من شمال القطاع، مرحبًا بكم في استوديو عبود. حيث الأجواء عالمية والجو آيس كوفي ع الآخر
الفكاهة لا تنتمي للفردوس، بل الجحيم
يستيقظ «عبود» في الخامسة صباحًا لشراء الخُبز من مخبز هدم القصف واجهته بالكامل، وسط طابور يزيد قوامه على خمسين شخصًا، ثم يُخاطر بمسيرة تجاوز أربعة كيلومترات سيرًا على الأقدام وسط احتمالات الموت والاستهداف ليجلب قنينة مياه نظيفة لعائلته تروي عطش اليوم، لكنه وسط الكفاح لتأمين احتياجات البقاء تلك، يُقدم لرصيد المُخاطرة ساعة إضافية يمر فيها على محل يعمل بالطاقة الشمسية لشحن جواله 30% لو حالفه الحظ. فقط ما يكفي لتصوير مقطع ورفعه على مواقع التواصل
لا يختلف جدول «عبود» كثيرًا عن الكفاحات اليومية التي تخيلها «بينيني» لبطله «غويدو» وهو يختلس كسرة خُبز، وشربة ماء متنقلًا كصعلوك من مكان لآخر دون أن يستثير غضب الحُراس، لكنه عندما وجد فسحة مُختلسة من الزمن غفل فيها الحراس عنه، ذهب لإذاعة السجن ليُمرر رسالة غزل مطمئنة لزوجته التي تقطن في عنبر النساء المجاور. كانت الإذاعة الداخلية وسيط التواصل الوحيد في معسكر إبادة.
ما يجعل «عبود» أكثر سينمائية وفُكاهة وقسوة من سينما «بينيني» أنه لم ينتمِ بعد لعالم الكُبار، أنه لم يجاوز السابعة عشرة، وأنه لا يُروض بالفكاهة العالم لطفل يحميه إنما لكبار يعيشون عبر الفضاء الافتراضي في عوالم آمنة تؤطر العجز البعيد. يُمثل «عبود» مقلوب سينما «بينيني»، كوميديا أكثر سوداوية وخفة فيها الطفل يقوم بطمأنة الكبار وليس العكس.
في مقاطع «عبود» يُسمي سطح منزله المُتهالك استوديو عالميًا، بينما يحمل ميكروفونًا طفوليًا غير موصول بالكهرباء، واصفًا نفسه بالمُراسل الأسطوري. لا تحمل تلك الهالة إنكارًا عدميًا للواقع، يُشير عبود في مقاطعه إلى عمارته التي تبقت من شارع كامل تحول إلى رُكام.
كلما تعالت أصوات القصف وارتجت الأرض أسفله يُعلق ضاحكًا:
شوي ربع ساعة عشرة خمستاش دقيقة ونموت
بينما يُحاول الأب في سينما «بينيني» وعمال الإغاثة في مُستشفيات غزة خلق عباءة وهم من ألعاب خيالية لحماية الأطفال من واقع يقترب بهلاكه، لا يقوم عبود باللعبة نفسها مع الكُبار، إنما يُقدم أخبار الموت واحتمالاته بروح غير مُكترثة، بينما يُحول الموت أحلام وقصص ضحاياه إلى رقم بارد في إحصائية وسرد إخباري، يقوم عبود بتلذذ بقلب المعادلة، يسخر من الموت القادم ويروضه ثم يُحوله إلى خبر يُثير الضحك. فيفقد الموت القادم من صواريخ بعيدة هيبته المرجوة.
في حسابه على الإنستجرام يصف نفسه أنه الوريث الشرعي لشيرين أبو عاقلة، المُراسلة الفلسطينية الشهيرة التي استشهدت برصاص قناص إسرائيلي العام الماضي، يختار عبود أبطاله، ويُدرك نهايتهم، ولا يُحزنه ذلك، يقول ضاحكًا:
يُدرك عبود أنه جزء من صيرورة قد تنتهي للزوال في أي لحظة، واحتمالات الهلاك أضعاف احتمالات النجاة فيها، لكن تفتنه فكرة المٌراسل الذي يتحكم في سردية المشهد حتى لو كان المشهد ذاته يُحاصره ويفغر فاه لابتلاعه.
في سينما «بينيني» يوقن الطفل بقدوم دبابة كبيرة مكافأة له على فوزه، يُنهي «بينيني» الفيلم بقدوم دبابة الحلفاء الأمريكية لتحرير المُعتقل وإنقاذ الطفل، يوقن «عبود» في غزة أن الدبابة قادمة، وأن التسليح بنسبة كبيرة أمريكي، لكنه قادم لقتله لا لتحريره، مثل الطفل في حكاية «بينيني»
يُشبه عبود الأب «غويدو» الذي سيق في نهاية الفيلم لهلاكه وهو يرتدي زي امرأة مُضحك ليمنح طفله دُعابة أخيرة، بينما الطفل يغمز له من مخبأه، يتحكم «غويدو» في سرديته للنهاية حتى وهو بين يدي سجانه، ويفعل «عبود» الأمر ذاته. فالدعابة حاضرة حتى لو أتت النهاية في أي لحظة.
صار جزء من الروتين اليومي لمُتابعة أخبار الحرب أن أستيقظ للاطمئنان أن «عبود» لم يزل حيًا، روتين وجدت آلافًا غيري يُشاركونني إياه على وسائط التواصل الاجتماعي، لا يتعلق الأمر برغبة إنسانية في نجاة صبي بريء من محرقة وحسب، إنما في المعنى الذي يحرسه عبود، وهو إمكانية خلق الفُكاهة كحيلة أخيرة للانتصار على شروط السجان والمحرقة، لا يجرؤ أحد على اختلاق دُعابة وهو خارج المشهد مشفقًا مُلتاعًا، ما يمنح دُعابة عبود أصالتها أنها دعابة لرجل يسكن في قلب المحرقة. رجل يُخبرنا أن الدعابة مُمكنة وأنها ملاك إنقاذ فريد من نوعه وسط الجحيم، رجل يفعلها ويبتسم، فلا نملك إلا أن نبتسم رغمًا عنا.
أن تُطل على الجحيم عبر عدسة رحيمة
خلال حرب «غزة» الأخيرة قُتل أكثر من أربعين صحفيًا فلسطينيًا، ومن لم يمت قام الاحتلال باستهداف أسرته لإخراسه مثل الصحفي «وائل الدحدوح».
في مشهد حزين يُغالب مراسل «تلفزيون فلسطين» دموعه حُزنًا على استشهاد زميله المراسل «محمد أبو حطب»، ثم يخلع زي الصحافة الأزرق، ليُخبر المذيعة أن هذا زي لا يحمي أصحابه إنما علامة على ظهورهم، علامة استهداف لكل من يجرؤ على مُشاركة إبادة علنية بالبث المُباشر لفضح المحتل أمام العالم
يُقدم «عبود» دُعابته الأكثر خفة للمشهد الأكثر ثٌقلًا عندما يظهر مُنتشيًا وهو يرتدي زي الصحافة الأزرق عينه، الزي الذي يوقن الجميع أنه بات نبوءة موت لمن يرتديه، لكنه ينتسب بخفة لنسل مُراسلين مثل «شيرين أبو عاقلة» التي تقول:
يُدرك «عبود» أنه جزء من صيرورة حزينة، لكنه يُجاوزها ويُحيلها لمزحة، فالقصة التي يُغطيها تحتاج لنفس طويل، وتحتاج لأبطال كُثر. وهو مُجرد عدسة مُختلفة رحيمة لحكاية حزينة.
يقول «بينيني» إنه من منظور الشاعر يُمكن أن تُمرر أي شيء دون أذى، تكمن شعرية «عبود» في الخفة التي تُحرر من يشاهده من ثقل عجزه ومن بؤس ما يراه. ربما هذا ما عناه «بينيني» بقدرة الكوميديا الفريدة على الولوج لقلب المأساة دون أن تحترق أجنحتها وتُحال إلى رماد.
يُجسد «عبود» المجاز بسخرية وهو يقف جوار صاروخ يصف وزنه بما يجاوز الطن لكنه لم ينفجر، لا يمنع عبود الصواريخ من السقوط والضحايا من الموت، لكن شيئًا فيما يفعله يجعل الصواريخ على كفاءتها، تقتل الأجساد ولا تقتل الروح.
في القصة اليونانية الشهيرة، لا أحد ينجو من النظر إلى «ميدوسا» اليونانية، التي تُحيل من ينظر لها إلى حجر، ينتصر عليها الفارس «برسيوس» عندما يشيح النظر عنها ويُتابع تحركاتها في انعكاس درعه حتى يقتلع رأسها.
يُقدم صبي صغير أخضر العود عدسة بديلة تُحررنا جميعًا من النظر للمأساة في عينيها، عدسة عاكسة يُمكن أن تعكس مخاوفنا وعجزنا بعيدًا فلا يتبقى سوى ابتسامة.
لا أعلم هل سينجو عبود أم لا؟ لا أعلم هل سيصير المُراسل خبرًا مثلما صارت «شيرين أبو عاقلة» وغيرها خبرًا؟ أعزي نفسي أن «شيرين» باتت أيقونة الصبر اليومية للجميع بجملتها الشهيرة «خلي المعنويات عالية».
لا أتمنى أن يصير عبود أيقونة بموته، لا أتمنى أن يموت صبي أخضر العود ليُعلم كبار عاجزين معنى، أتمنى نهاية تُشبه سينما «بينيني»، يحتفي فيها بنجاته، يُعزيني قول «بينيني»:
ألم يعود الناجين من المحرقة ليؤرخوا للأبد مزحتهم، وإن كان للفردوس نصيب منه، ربما يُمكن أن نتعزى بقول« مارك توين» أن الفكاهة تولد في الجحيم كحيلة دفاعية للنجاة، بينما في الفردوس لن يحتاج «عبود» الفكاهة ليمنحنا قارب نجاة.