حرب المستعين والمعتز: فتنة قسمت الدولة العباسية
في أحد الأيام، شهدت الدولة العباسية صراعًا دايمًا بين المستعين بالله والمعتز بالله، ووصل الأمر إلى تقليدهما من جانب أنصارهما كخليفين للمسلمين في وقت واحد، وكان لكل منهما عاصمته.
جذور الصراع: ولاية العهد في الأبناء الثلاثة
لا يمكن فصل الصراع على السلطة بين أحمد بن محمد المعتصم الملقب بالمستعين، ومحمد بن جعفر المتوكل الملقب بالمعتز عن معطياته التاريخية التي أفضت إليه، والتي يرجع جذورها إلى عهد المتوكل جعفر بن المعتصم، وتحديدًا عام 235هـ/ 850م، عندما جعل ولاية عهده في أبنائه الثلاثة، وهم: محمد بولاية العهد الأولى، ولقَّبه بالمنتصر بالله، وكان عمره 13 عامًا و9 أشهر، وابنه الزبير محمد بولاية العهد الثانية، ولقَّبه بالمعتز بالله، وكان عمره سنتان و9 أشهر، وابنه إبراهيم بولاية العهد الثالثة، ولقبه بالمؤيد بالله، وكان عمره 7 سنوات.
ويذكر مضر عدنان طلفاح في دراسته «بيعة الخليفة العباسي المتوكل على الله لأبنائه الثلاثة بولاية العهد في عام 235هـ / 850م. دراسة في أسبابها وغاياتها ونتائجها»، أن المتوكل هدف من ذلك إلى ضمان الخلافة لأبنائه وحصرها في نسله وإقصاء أمراء بقية فروع البيت العباسي، واتخاذها وسيلة لضرب النفوذ الإداري والأمني والمالي والعسكري لقادة الجيش الأتراك، وهم الذين استعان بهم من قبل المعتصم بالله لتوطيد خلافته، ثم تعاظم دورهم بعدما منحهم صلاحيات واسعة في مختلف القطاعات.
غير أن هذه البيعة كان لها أثر سلبي على تأجيج الصراع الأسري العباسي، حيث انقلب المتوكل على ابنه الأكبر فيما بعد، وطلب منه التنازل عن ولاية العهد الأولى لأخيه المعتز، لكنه رفض، وكان ذلك بمثابة الثغرة التي استغلها الأتراك للتحالف مع ولي العهد الأول المنتصر بالله لقتل الخليفة المتوكل، سعيًا لوقف سياساته وإجراءاته الهادفة إلى التخلص منهم، وحتى يضمنوا هيمنتهم المباشرة على مؤسسة الخلافة وإدارة شئون الدولة ومقدراتها، وفي نفس الوقت يضمن المنتصر ما ارتآه حقًّا له بتولي الخلافة بعد والده.
وبالفعل، تحقق ما خطط له الطرفان، فقُتل الخليفة المتوكل في شوال 247هـ/ 861م، ثم بُويع المنتصر في الخلافة، ليبادر فورًا بإلقاء القبض على أخويه وليي العهد المعتز والمؤيد، لضمان عدم تحرك القوات العسكرية التابعة لهما، خاصة المعتز، ضده، كما ذكر «طلفاح».
المنتصر بالله: مخطط لم يكتمل
تولى المنتصر بالله الخلافة في اليوم الذي قُتل فيه أبوه، وذلك في شوال سنة 247هـ / ديسمبر 861م، وعمره 26 عامًا، وحاول التصدي للنفوذ التركي بكل حزم، وصار يسب الأتراك ويقول: «هؤلاء قتلة الخلفاء»، حسبما روى محمد حسن العيدروس في كتابه «التاريخ السياسي والحضاري للدولة العباسية».
ورغم أن المنتصر بالله كان وافر العقل، قوي الشخصية، إلا أن الأتراك احتالوا على قتله في ربيع 248هـ/ يونيو 862م، أي بعد حكم دام 6 أشهر فقط.
المستعين: خليفة الضرورة
عقب وفاة المنتصر بالله اجتمع الأتراك بزعامة قائدهم «بغا»، وقرروا عدم تولية أحد من أولاد المتوكل الخلافة، خوفًا من انتقامه منهم، وبايعوا أحمد بن المعتصم الملقب بالمستعين بالله.
ولم يمضِ وقت كبير حتى دب الخلاف بين زعماء الأتراك على النفوذ، فلم يرضَ القائدان العسكريان التركيان «وصيف» و«بغا» باستئثار التركي «أتامش» بالسلطة والنفوذ، فدبرا له مؤامرة ونجحا في قتله عام 249هـ/ 863م. وحتى ينفردان بالسلطة من دون بقية الزعماء الأتراك اتفقا على قتل قائد عسكري آخر كان ذا نفوذ هو «باغر»، في الوقت الذي كان فيه هو الآخر يدبر لقتل «بغا» و«وصيف» والخليفة المستعين بالله.
وحالف الحظ «وصيف» و«بغا» ونجحا في قتل «باغر»، فهاج أصحابه هياجًا شديدًا وهددوا بالانتقام من قتله، فلم يكن من مجال أمام «بغا» و«وصيف» إلا أن صحبا المستعين بالله، وفروا من سامراء عاصمة الخلافة آنذاك وحيث كان يقيم، إلى بغداد عام 251هـ/ 865م، وأنزلا الخليفة بدار محمد بن عبد الله بن طاهر صاحب شرطة بغداد.
ويروي «العيدروس» أن فريقًا من الأتراك أصحاب «باغر» لحقوا بالخليفة إلى بغداد واعتذروا له عما بدر منهم، وطلبوا منه العودة إلى سامراء، فامتنع المستعين عن تلبية رغبتهم، فانصرفوا غاضبين، وأجمعوا على مبايعة ابن عمه المعتز بالله بن المتوكل، الذي كان محبوسًا مع أخيه المؤيد، فأخرجوهما وبايعوا المعتز بالخلافة، وجعلوا لأخيه ولاية العهد.
وبانقسام زعماء الأتراك انقسمت الدولة العباسية بين سامراء وبها المعتز الذي ولاه الأتراك أصحاب «باغر» بدلًا من المستعين، وبغداد وفيها المستعين ويشد أزره «بغا» و«وصيف» ومن معهما، ثم كانت الحرب بين الطرفين عام 251هـ/ 865م.
ويذكر أحمد بن محمد بن يعقوب بن مسكويه في كتابه «تجارب الأمم وتعاقب الهمم» أن المستعين أمر محمد بن عبد الله بتحصين بغداد، فأدار حولها سورين، ورتب على كل باب قائدًا وجماعة من أصحابه وغير أصحابه، وأمر بحفر الخنادق حول السورين، وإقامة مظلات يأوي إليها الفرسان في الحر والمطر، وبلغت نفقة كل هذه التجهيزات ثلاثمائة ألف دينار وثلاثين ألف دينار.
وجعل ابن عبد الله على أحد أبواب السور، وهو باب الشماسية، خمس شداخات (موانع) بعرض الطريق، فيها عوارض وألواح ومسامير طويلة ظاهرة، وعلى باب آخر خمسة مجانيق كبارًا، وفيها واحد سمَّوه «الغضبان»، وست عرادات (آلة عسكرية يرمى بها الحجارة والمنجنيق). كما جعل لكل باب من أبوابها دهليزًا عليها سقائف تسع مائة فارس ومائة راجل، ولكل منجنيق وعرَّادة رجالًا مرتبين يمدون حباله، وراميًا يرمي إذا كان هناك قتال. ورغم هذه التجهيزات انتهت الحرب بخلع المستعين وقتله وتولية المعتز سنة 252هـ / 866م.
عوامل إدارة الصراع
وخلال فترة الحرب بين المستعين والمعتز لعبت معطيات سياسية وعسكرية أدوارًا في إدارة الصراع بينهما. يذكر شادن محمد الوحش في دراسته «محاولات خروج الخلفاء العباسيين من العاصمة بغداد لاختيار عواصم أخرى، وأثر ذلك على قوة الدولة من 132هـ / 749م إلى 334هـ / 945م»، أن وصول الضرائب والأموال إلى العاصمة يعد مظهرًا من مظاهر السيادة، لذا كانت أهم خطوة في حرب المستعين والمعتز هي حصول كل طرف على هذه الأموال وقطعها عن الطرف الآخر.
فقد كتب المستعين إلى عمال الخراج بكل بلدة وموضع أن يوجهوا ما يحملون من الأموال إلى السلطان ببغداد، ولا يحملون إلى سامراء شيئًا منها، لأن من كانت تُحمل إليه الأموال والضرائب يقوى مركزه كخليفة خاصة في فترة الفتن، أو في حال وجود خليفتين للمسلمين، كما هو الحال زمن الخليفتين المستعين والمعتز.
لكن الحال تغير عندما خسر المستعين المعركة وانتصر المعتز واستقرت البيعة له، إذ دان أهل بغداد وقُدمت الأموال له من كل جانب، بحسب «الوحش».
عاصمتان للخلافة
ومنذ بداية هذه الأحداث حتى نهايتها كان لعواصم الخلافة موقف من هذه الحالة التي سيطر عليها ضعف الدولة العباسية، فعند قتل المتوكل ومن بعده المنتصر حدثت في بغداد فتنة سنة 249هـ / 863م، حيث كره العامة جماعة الأمراء الذين تغلبوا على أمر الخلافة وقتلوا المتوكل، كما استضعفوا المنتصر والمستعين بعده.
وبحسب «الوحش»، كان هناك موقف سياسي لسكان العاصمة مما حصل لخلفائهم ومحاولة تأثيرهم في مجرى الأحداث، وهو الأمر الذي دفع أهل سامراء إلى تقليد أهل بغداد، كما كان لأهل سامراء الموقف نفسه، فقد نهض أهلها إلى السجن وأخرجوا من فيه أيضًا كما فعل أهل بغداد.
وكان وجود عاصمتين للخلافة في ذلك الوقت مثارًا لمزيد من الفتنة، فعندما اتجه الخليفة المستعين عبر حراقة (سفينة حربية) من سامراء إلى بغداد اضطربت الأمور بسبب خروجه إليها، وفي هذه السنة وقعت فتنة شنعاء بين جند بغداد وجند سامراء على بيعة المعتز، فدعا أهل سامراء إلى بيعة المعتز، واستقر أمر أهل بغداد على المستعين.
وترتب على مبايعة أهل سامراء للمعتز استحواذه على حواصل بيت المال بها، فإذا بها خمسمائة ألف دينار، وفي خزانة أم المستعين ألف ألف دينار، وفي حواصل العباس ابن المستعين ستمائة ألف دينار، وفي الوقت نفسه أمر المستعين محمد بن طاهر أن يحصن بغداد ويعمل على إقامة سورين وخندق، ومن ثم كشفت هذه الفتنة وجه الدولة وأموالها حيث اقتسم الناس الخلفاء والعواصم فيما بينهم.
نهاية المستعين والمعتز
ويذكر محمود شاكر في الجزء الثاني من كتابه «الدولة العباسية» أن المعتز أرسل أخاه المؤيد لقتال المستعين، وجرى القتال بين أهل بغداد بإمرة محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين، وأهل سامراء بإمرة المؤيد، وطالت الحرب حتى أقنع محمد بن عبد الله الخليفة المستعين بأن يخلع نفسه ويملي شروطه، فوافق المستعين واستسلم في محرم سنة 252هـ / 866م، وكتب شروطه وبايع للمعتز، وبايعت بغداد أيضًا.
وطلب المستعين أن ينتقل إلى مكة ويستقر بها، فلم يوافق المعتز وأنصاره على ذلك، فطلب الانتقال إلى البصرة، وقوبل ذلك بالرفض أيضًا، فانتقل بعدها إلى واسط، وبعد تسعة أشهر أرسل إليه المعتز من قتله، وكان ذلك سنة 252هـ / 866م.
على كلٍّ، بويع المعتز بالخلافة بعد خلع المستعين، وكان عمره تسع عشرة سنة، ولم يلِ الخلافة قبله أحد أصغر منه، وكانت مدة خلافته أربع سنوات وستة أشهر وثلاثة وعشرين يومًا، وتوفي وعمره أربع وعشرون سنة.
ولم يكن للمعتز مفر في محاباة الجند الأتراك الذين أجلسوه على العرش، لكن في الوقت نفسه كان يحاول تدبير الحيل للتخلص منهم؛ لأنهم تأصلوا في الدولة وكثروا في العاصمة والولايات وكثرت أرزاقهم، وكان إذا تأخر عطاؤهم يثيرون المشاغبات ويقضون مضاجع الدولة.
ويروي «شاكر» أن قادة الأتراك جاءوا للمعتز في إحدى المرات لمطالبته بأرزاقهم، فلم يجدوا عنده ما يعطيهم، فأخرجوه وأهانوه وخلعوه من السلطة، وألزموه بالبيعة لابن عمه المهتدي بالله محمد بن الواثق.
وكان المهتدي قد أبعده المعتز من سامراء إلى بغداد حتى لا يثير قلاقل ضده، فأحضره الأتراك من بغداد إلى دار الخلافة بسامراء، فسلَّم المعتز إليه الخلافة وبايعه في رجب 255هـ/ 869م، ثم أخذ القادة المعتز بعد خمسة أيام من خلعه وعذَّبوه حتى مات في أوائل شهر شعبان من نفس العام.