دستور موحد لدولة مهترئة: هل يرى النور؟
في خطوة قد لا تتجاوز التعقيدات الحالية، انتهت «الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور» في ليبيا من وضع مسودة دستور جديد، ليكون بمثابة اللبنة الأولى في إعادة بناء الدولة وتشكيل نظام سياسي جديد خلفًا لنظام معمر القذافي، الذي ظل جاثمًا على صدور الليبيين لأربعين عامًا بلا نظام سياسي واضح أو دستور، لكن يبدو أن بلدًا كليبيا لن يحسم الأمر فيه مجرد دستور ونصوص تشريعية، فالدول العربية حاليًا لا يسري فيها هذا، إنما قعقعة السلاح والانقلابات والقوى الخارجية هي من ترسم مستقبل الأنظمة الآن.
كيف وصل الليبيون إلى دستورهم الثاني؟
انتخبت الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور في اقتراعٍ عام في فبراير/شباط 2014، لتتولى صياغة أول دستور ديمقراطي منذ انقلاب القذافي في 1969، ويعتبر أيضًا ثاني دستور للبلاد منذ سقوط دستور الملكية، الذي وُضع عام 1951، وروعي في تشكيل الهيئة التوازنات الجغرافية لتشمل 60 عضوًا عن ثلاثة أقاليم رئيسية هي طرابلس-فزان-برقة، وكان من المفترض أن تقدم الهيئة مشروع الدستور خلال ستين يومًا من اجتماعها الأول في أبريل/نيسان 2014، لكن لم يحدث ذلك بسبب اضطراب الأوضاع.
وفي ظل تلك الظروف أعلنت الهئية يوم 29 يوليو/تموز الماضي انتهاءها من مسودة الدستور والمكونة من 197 مادة، وقدمتها إلى مجلس النواب (طبرق)، الذي لم يحدد موقفه منها بعد، كما تسلمها رئيس حكومة الوفاق الوطني فائز السراج والذي رحب بها ودعا إلى الموافقة عليها من قبل البرلمان من أجل طرحها للاستفتاء الشعبي، فيما لم تحدد حكومة الإنقاذ موقفها منها بعد.
وهذه ليست أول مسودة تعلنها الهيئة، التي وافق عليها 43 عضوًا من أصل 44 حضروا جلسة التصويت النهائية من أصل 60 عضوا، فسبق أن أقرت الهيئة في أبريل/نيسان 2016، مسودة دستور بموافقة 34 عضوًا من أصل 44 حضروا الجلسة، لكنها لم تطرح للاستفتاء حيث كشف عدد المصوتين عليها حجم الخلاف حولها وسط مقاطعة من ممثلي المنطقتين الغربية والجنوبية، وهذا يعني رفض أقاليم بأكلمها لهذا المخرج السياسي الذي لابد أن يكون بالتوافق لا بالمغالبة.
وجاءت مسودة الشهر الماضي أيضًا وسط حالة من استمرار الانقسامات، فحكومة الوفاق، التي انبثقت عن اتفاق الصخيرات في ديسمبر/كانون الأول 2015 لم تحظ حتى الآن باعتراف مجلس النواب رغم أنها معترف بها من قبل المجتمع الدولي، وهي كذلك على الأرض ضعيفة ولا تملك فرض نفسها فميزان القوى يميل الآن لصالح قائد الجيش الوطني خليفة حفتر والمدعوم من الحكومة المؤقتة بطبرق.
وسبق هذا التصويت اجتماع حفتر والسراج معًا في باريس يوم 25 يوليو/تموز الماضي، للمرة الثانية بعد لقائهما من قبل في أبوظبي مايو/أيار الماضي،واتفق الجانبان على وقف لإطلاق النار وتوفير الظروف المناسبة لإجراء الانتخابات، وتفادي اللجوء إلى القوة المسلحة في جميع المسائل الخارجة عن نطاق مكافحة الإرهاب، بجانب نزع السلاح وتسريح المقاتلين الآخرين وإعادة دمجهم في الحياة المدنية.
ويبدو أن هذا الاجتماع سهّل تمرير مسودة الدستور الجديدة لتنفيذ ما اتُفق عليه في باريس، لكن ليبيا ليست السراج وحفتر، فهناك أطراف أخرى فاعلة على الأرض لا يمكن تجاهلها وخاصة حكومة الإنقاذ والقوات التابعة لها، فالمعضلة ليست اتفاقيات أو وثائق وإنما موازين القوى على الأرض إلى جانب الأطراف الخارجية التي بات بإمكانها أن تحدد مستقبل وطبيعة النظام السياسي الليبي.
نصوص مثالية يمزقها صوت الرصاص
وضعت مسودة الدستور 12 بابًا، الباب الأول جاء في 30 مادة تناولت شكل الدولة ومقوماتها، واعُترف فيه بتعدد اللغات الليبية، منها الأمازيغية والتارقية والتبوية بجانب العربية، كما اعتبر الشريعة الإسلامية مصدر التشريع، أما الباب الثاني، فجاء في 36 مادة تتعلق بالحقوق والحريات، فنص على حرية الرأي والصحافة، وحرية تكوين الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني إلى جانب حرية التظاهر السلمي وغيرها.
بينما جاء الباب الثالث والأهم ليحدد «نظام الحكم» في 53 مادة، ويرسم طبيعة النظام السياسي ويقارب توازنات القوى سواء على أساس المناطق أو النفوذ، فبالنسبة للسلطة التشريعية سيمثلها مجلس الشورى والمكون من غرفتين، مجلسي الشيوخ والنواب، ويكون انتخابهم بالاقتراع الحر السري المباشر، واشترط أن يكون العضو مسلمًا ليبيًا، وألا يحمل أي جنسية أخرى، وألا يقل عمره عن 40 عامًا.
ولم تحدد المسودة عدد أعضاء مجلس النواب وتركتها وفقًا لاعتبارات السكان والجغرافيا، لكنها حددت أعضاء الشيوخ بـ 78 عضوًا وقسمت البلاد لثلاث مناطق الغربية (طرابلس) ويمثلها 32 عضوًا، والشرقية (برقة) ويمثلها 26 عضوًا، أما الجنوبية (فزان) فيمثلها 20 عضوًا مع مراعاة تمثيل المكونات الثقافية والعرقية.
ولن يكون لمجلس الشيوخ صلاحيات واسعة، فهو مختص بمراجعة مشاريع القوانين المحالة له من النواب، وطلب الاستيضاح في بعض القضايا، لكن سيكون له دورٌ مهم وهو الموافقة على ترشيحات النواب بشأن بعض المناصب، وهم أعضاء المحكمة الدستورية ومحافظ المصرف المركزي ونائبه ورؤساء وأعضاء الهيئات الدستورية المستقلة.
أما فيما يخص السلطة التنفيذية فقد أنيطت برئيس الجمهورية والحكومة، ويشترط في الرئيس أن يكون ليبيًا مسلمًا ولأبوين ليبيين مسلمين، وألا يكون قد حصل على أي جنسية أخرى ما لم يكن سبق أن تنازل عنها قبل سنة من تاريخ فتح باب الترشح، وألا يكون تزوج من أجنبية، وستكون مدة الرئاسة 5 سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، وشمل منصب الرئيس صلاحيات واسعة ليجعل من ليبيا نظاما رئاسيًا.
ووضعت السلطة القضائية في باب منفصل وهو الباب الرابع، المكون من 18 مادة ونص على استقلالها فلا تخضع لغير نصوص القانون، ووضع باب منفصل وهو الخامس للمحكمة الدستورية في 9 مواد وهي هيئة مستحدثة لم تكن موجودة من قبل وتتكون من 12 عضوا يختار المجلس الأعلى للقضاء نصفهم، ورئيس الجمهورية 3 وكذلك مجلس النواب، وتختص بالرقابة على دستورية القوانين.
بينما اختص الباب السادس بالحكم المحلي، وجاء في 12 مادة ونص على أساس اللامركزية الموسعة، وجاء الباب السابع في 11 مادة ليُنظم ويحدد عمل الهيئات الدستورية المستقلة مثل المفوضية الوطنية العليا للانتخابات وديوان المحاسبة، والمجلس الوطني لحماية حقوق الإنسان، بينما حدد الباب الثامن النظام المالي في 6 مواد، والباب التاسع نظم في 9 مواد الثروات الطبيعية وكيفية توزيعها بشكل عادل، وجاء الباب العاشر في 5 مواد ليحدد عمل الجيش والشرطة، لكنه لم يكشف عن طبيعة الميليشيات والقوى الحالية وكيفية التعامل معها وهذا هو المهم.
وأخيرًا تناول البابان الحادي عشر والثاني عشر الأحكام الانتقالية والأحكام العامة التي حددت كيفية انتخاب أعضاء مجلس الشورى ورئيس الجمهورية.
هل ترجح كفة المؤيدين أم المعارضين؟
رحب السراج على الفور بمسودة الدستور، الذي تسلم منه نسخة، وطالب أعضاء الهيئة التأسيسية بالتواصل مع مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة لوضع قانون الاستفتاء من أجل طرحه في استفتاء شعبي، وهذا يعتبر موقف المجتمع الدولي والدول الداعمة للسراج لأنها تريد وضع شرعية جديدة تتجاوز شرعية توازن القوى على الأرض، كما حاولت من قبل باتفاق الصخيرات لكنه لم ينجح حتى الآن.
ورحبت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، أيضا بإقرار المسودة،معتبرة إياها منعطفًا مهما نحو إجراء استفتاء للشعب الليبي للبت في دستور جديد، وقد ينجح اللبناني غسان سلامة المبعوث الأممي الجديد في تقريب وجهات النظر بين الفرقاء الليبيين وقد تكون البداية بالتوافق على الدستور، الذي سيشكل إطارا للتفاوض بجانب اتفاق الصخيرات، الذي ما زال يواجه اعتراضات جمة.
وفي موقف لافت رفضت لجنة الإفتاء بالحكومة المؤقتة (حفتر) المسودة لأنها احتوت على مواد تخالف الشريعة الإسلامية؛ فمثلًا اعترضت في نص المسودة على حرية الفكر والتعبير دون قيد شرعي، ورفضت أيضًا حرية تكوين الأحزاب لأنها سبب الفرقة والاختلاف والتنازع، كما رأت أن حرية تكوين منظمات المجتمع المدني دون قيود شرعية سيؤدي لإنشاء منظمات مخالفة للدين، بل اعتبرت حرية التظاهر دخيلة على الإسلام، وأن التظاهر جر الليبيين وغيرهم من مواطني الدول للفوضى وسفك الدماء.
وإلى جانب ذلك رفضت قطاعات أخرى ومنهم المجلس الأعلى لأمازيغ ليبيا مؤكدًا أنهم لم يشاركوا في صياغته منذ البداية وهددوا بإصدار دستور خاص بهم، كما رفض ممثلا مكون التبو بالهيئة التأسيسية المسودة، وبالمثل أعلن حكماء وأعيان ومشايخ مدينة البيضاء رفضهم لهذه الخطوة.
وهذه الاعتراضات قد لا تكون ذا تأثير يذكر إن تم التوافق بين السراج وحفتر، مع احتواء حكومة الإنقاذ، وهذا صعب حاليًا لإصرار حفتر على الحسم عسكريًا، فهو يحاصر الآن مدينة درنة وهو ما انتقدته حكومتا الوفاق والإنقاذ، وبالتالي ما زالت فوهات البنادق هي التي تحدد ملامح التسوية، لا كلمات الدستور.