رحلة إلى جزيرة اللؤلؤ وسلطنة عُمان
كانت صحبتي للشيخ «خميس بن راشد العدوي» منذ سنوات خلت صحبة معرفية مفيدة، قبل سنوات خلت كنّا نجلس في القاهرة نتناقش في مسائل الدين، ويحدثني عن كتاباته الجديدة وآرائه الجريئة، كانت أفكاره في ذلك الوقت غريبة في وطنه هو وجماعة من الأساتذة المفكرين، بعد سنوات لبيت دعوته وزرت السلطنة التي رأيت فيها الآثار المصرية البديعة أكثر مما أراه في مصر، فما من شخص التقيته هناك إلا ويحب هذا البلد ويتحدث عنه وعن أساتذة ساهموا في بنائه وتثقيف أبنائه.
وجدت ما كان يطرحه العدوي وأصدقاؤه قد أثمر وتجسد في الكتابة الفكرية، فكتّاب عدة يناقشون أفكارًا دينية في هدوء ودون أن يعلم بهم أحد في محيطنا العربي، ولا أزال أذكر حديث «أحمد النوفلي» المتواضع الهادئ الذي كتب أكثر من كتاب عن (أقانيم اللامعقول) يظهر لقارئه مدى اطلاعه الواسع وإلمامه بالتراث الإسلامي والفكر الحديث، حديث الوحي يمكن أن تقرأ عنه في كتابات «أركون» و«نصر أبي زيد» و«هشام جعيط» و«المسعودي» و«قويعة» وغيرهم ممن اشتهرت كتاباتهم وذاعت اليوم، لكنك لن تتابع ما يصدر في عُمان إلا لو كنت متصلًا بهذا الفضاء المعرفي الناشط، ومن أسف أن أغلب المتواصلين مع الفضاء العماني مُحبّون قلة، لذا يندر أن تجد قراءة ناقدة أو مقدمة لهذا الفكر.
يحب «زكريا المحرمي» وطنه عُمان ويرى فيه نموذج التسامح والرقي المتجسد واقعًا، والضارب بجذوره في تاريخ السلطنة من قديم، ورغم كونه طبيبًا إلا أنه يمنح قدرًا كبيرًا من اهتمامه لمسائل الفكر والدين، ويطرح الكثير من الموضوعات المحفزة للتفكير، ويلتف حوله الكثير من المتابعين يقرأون ويناقشون. ومن الغريب لمن لا يعرف هذا البلد أن تجد واعظًا أو خطيبًا في مسجد يتحدث عن تاريخية القرآن، أو تناقض المرويات المنسوبة للرسول أو غيرها من الأمور التي يصعب أن تجد خطيبًا اليوم في مصر لديه إلمام ولو بسيط بها.
فارق لافتٌ للنظر في حديث هؤلاء عن الفكر والفن والدين، اعتدنا اليوم أن الفنان في بلادنا يعيش في فوضى، وإن تحدث في الفكر فهو رافض لكل المسلمات، ومخالف للجماهير الغفيرة، وإلا كيف يتميز عن غيره؟!، هؤلاء الكرام يتحدثون في أدق تفاصيل الدين بشكل يصعب أن تصنفه العين التي اعتادت على التصنيف ضمن طائفة المؤمنين، ولكن حينما يرفع المؤذن الآذان يذهب للصلاة!، فالتفكير لا يمنع من ممارسة الإنسان لطقوس تشبع داخله كما ينشط السؤال عقله.
حدثتني السيدة «عالمة الموسوي» في البحرين عن اهتمامها بالشعر والفن والتصوف، وأهدتني لوحتين أحسنت تجسيد الرومي ومؤدبه الروحي شمس تبريزي فيهما، في بيتها تحدثت مع زوجها -الذي ذكرني بأهل عُمان في هدوئه- عن الموسيقى والتصوف، والاهتمام بالتصوف في وقتنا الحالي. كانت رؤيته تحمل الكثير من الصواب عن زيف كثير من الصور، ومفارقة حياة البعض لما يطرحونه من أفكار، فالمتحدث عن التصوف ليس صوفيًا في حياته، وبعض الشعراء لا يعزفون من ألحان الوحي إلا ترنيمة الغرانيق.
تحدثت مع عالمة عن التصوف في أمريكا عبر معرفتي به قراءة، بعد أن حدثتني عنه من خلال معايشة ومشاركة حقيقية، واتفقنا على أن الاهتمام بالتصوف في الغرب يختلف كثيرًا عن بلادنا العربية، فالطريقة التي كانت موضع نقاشنا تعود إلى الموسيقار الهندي «عنايت خان» الذي اتخذ التصوف طريقًا ومسلكًا وكانت تجربته محل عناية من الدارسين في الغرب، وصارت طريقته من الطرق التي تحظى بالقبول عند قطاع عريض في أمريكا ولندن.
جدير بالذكر أن أول إشارة لتعاليم «عنايت خان» كنت قد تابعت أعماله من خلالها كانت في كتاب يتحدث عن (الإسلام في أمريكا) تُرجم في المركز القومي للترجمة بمصر، ثم رحت أتتبع ما كتبه ونُقل إلى العربية، ومن اللطيف أن ينقل كتابه تعاليم المتصوفين عن اللغة الروسية!. كان الكتاب دسمًا للغاية فيما يفتحه من عوالم لقارئه، لكن أكثر شيء لافت للنظر أن تتعرف على تجربة حقيقية لموسيقار يسلك طريق التصوف ويكتب عن فلسفته وأفكاره بشكل يجعل شخصًا في قامة «رينيه غينون» «الشيخ عبد الواحد يحيى» يستفيد من كتاباته.
أليست الموسيقى مزمارًا من مزامير الشيطان؟!، لا يزال البعض يساجل في هذه المسألة ويكتب ويعارض من قال بإباحة الموسيقى. الأمر مختلف تمامًا مع الصوفية!، ثمّة طرق كثيرة توصل إلى الله، أما أنا فقد اخترتُ طريق الرقص والموسيقى، من الصعب على العوام والملتزمين بظاهر الشريعة قبول هذه المقولة من مولانا جلال الدين الرومي، ومهما شُرح لهم أن السماع سرٌ من أسرار الحق لا يُحدّ بعزف آلة أو تجسده رقصة لنا يقبل ذلك. والإسلام المنطلق من ظاهر الشرع لا يجيز الاستماع إلى الموسيقى كسبيل للحصول على النشوة الروحية، لذا فإن حكايات مثل الحكاية التالية وإن عبّرت عن محبة مولانا للسماع فإنها لن تحظى بالقبول اليوم: بعد ظهيرة أحد الأيام كان أحد الموسيقيين يعزف على الكمان، وكان حضرة مولانا يستمع باستمتاع كبير. دخل أحد الأصدقاء فقال: «كُفّ عن هذا؛ فإن المؤذن يؤذن لصلاة العصر». قال جلال الدين: لا؛ فإن هذا أيضًا صلاة العصر، كل منهما يتحدث إلى الله، وهو يريد الأول ظاهريًا لخدمته والثاني لحبه ومعرفته.
اطلع «عنايت خان» على تعاليم الرومي، وتجسد ذلك في كتابه المعنون بـ (يد الشعر: خمسة شعراء متصوفة من فارس)، فقد خصص فصلاً فيه للحديث عن مولانا جلال الدين الرومي، الذي كان موضوعًا لمحاضراتنا في البحرين تحدثنا فيها صحبة مجموعة من المحبين عن رحلة التصوف من بلخ إلى قونيه، وكيف منح لقاء «شمس تبريزي» بالرومي ولادة جديدة بدّلت حياته وقلبتها رأسًا على عقب، وأنتج بعدها آلاف الكلمات الشعرية والنثرية، وأضحى عَلمًا صوفيًا في عصره وحتى اليوم، وضرب به المثل كرسول للعشق لا تنتهي رسالته.
خصصنا جملة من حديثنا عن حقيقة شمس تبريزي، وكما تنازع أهل إيران وأفغانستان وتركيا على ميراث الرومي يريد كل منهم أن يكون الرومي ابنًا لحضارته، كذلك فعلت بعض الفرق والمذاهب مع شمس تبريزي، فهو شيعي عند البعض، وإسماعيلي عند البعض، وقلندري وملامتي عند آخرين، فكان لا بد أن نتحدث عن شمس من خلال مقاله لا ما يُكتب عنه في عالم الأدب والرواية، ولأن أثمار الرومي تعهدها بالسقاية شمس تبريزي فخصصنا جزءًا من وقت إحدى المحاضرات لقراءة بعض غزليات شمس، وقد لاقت القراءة ترحابًا وإصغاء جميلاً من الحضور.
كان «أحمد رضي» الشاعر البحريني أحد قرّاء غزليات شمس في محاضراتنا، صحبني أحمد وقتًا ليس بالقصير، زرنا فيه متحف البحرين وحضرنا معًا مسرحية مغربية، لم تحظَ لديه بالقبول، وإن كانت لهجة الممثلة في أداء النص العربي آسرة بالنسبة لي. حكاية الرجل العجوز الذي يتجوز بالصغيرة أو ينتهك طفولتها ليست من الشائع في الخليج كما يقول أحمد، كما أنها مكررة بشكل ممجوج. حدثت أحمد عن أن ذلك شائع في بلادنا وفي المغرب كذلك، حتى أنني عبّرت عن هذا الزواج بالشراء (يشتري الثري العجوز طفلةً يلعب بها وقتًا بعد موافقة الأهل الفقراء)، وتذكرت وقتها «باسل رمسيس» الذي ناقش هذه القضية في فيلم (سُكّر برّا).
يود الشاعر البحريني مثلنا عالمًا أرحب من الأيديولوجيا، وسماءً تظلّ الجميع، ونشاطًا مستمرًا تستطيع البذرة الآدمية أن تحيا بعيدًا عن العنصرية والإقصاء. كان لحديث أحمد طعمٌ مرٌ رغم ابتسامته الدائمة، ورجوت لو كان في الوقت متسع أن نتحدث أكثر وأن نزور أماكن كثيرة تمثل البحرين القديمة.
كنت سعيدًا للغاية بصحبة أحمد ونحن نزور (بيت القرآن) مخطوطات كثيرة للقرآن الكريم، بعضها يعود تاريخه للقرن الثاني الهجري حتى نصل إلى أقدم المطبوعات للمصحف، نسخٌ فارسية وتركية وهندية، هي الدالة على براعة الفنان المسلم واحتفائه بهذا النص المقدس، وعدم هوسه كاليوم بالحرام والحلال، استثمار هذا النص واضح في طريقة رسم المصحف، بعض النسخ الهندية تجسد لقاء الحضارات دون عناء المناقشات هل تلتقي الحضارات أو تتصادم.
كيف يكتبُ خطّاطٌ هذه النسخة الصغيرة؟، كان سؤال أحمد. لعله استخدم عدسة مكبرة!، حبة أرز مكتوبٌ عليها آية قرانية بخط بديع تراها عبر المكبرة، ونصف حبة حمّص كذلك، و«مارتن لوثر» يشرف على إصدار نسخة من القرآن، ونسخة ألمانية وفرنسية ولاتينية تحتاج أن يقرأها مسلم اليوم!.
كان حرصي على زيارة بيت القرآن عظيمًا لأن «أنّا ماري شيمل» في زيارتها للبحرين أثنت على هذا البيت، ولا يزال هذا البيت يحتاج إلى عناية وتنشيط أكبر، فكما أخبرني «إبراهيم بشمي» عضو مجلس الشورى بالبحرين أن نشاط المكان توقف منذ فترة، ويحتاج إلى من يجدده، ولحديثنا بقية عن هذه الزيارة لمن يتابع.
(1) صدّرت أنّا ماري شيمل ـ عاشقة الإسلام والتصوف التي ارتحلت شرقًا وغربًا في بلاد الإسلام ـ رحلتها إلى الكويت والبحرين بتلك الأبيات التي رددها باول فليمنج قبل رحلته إلى بلاد فارس، لمزيد من التفصيل عن هذه الرحلة وغيرها من رحلاتها، راجع: أنّا ماري شيمل، الشرق والغرب، حياتي الغرب شرقية، ترجمة عبد السلام حيدر، نشرة المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2004.