فيلم «A Streetcar Named Desire»: فراشة أكلتها الرغبة
«بلانش دوبوا» هي الشخصية الرئيسية في مسرحية «عربة اسمها الرغبة – A Streetcar Named Desire» للمسرحي الأمريكي «تنيسي ويليامز» والتي يعتبرها النقاد واحدة من أكثر المسرحيات تأثيرًا في القرن العشرين. بعد العرض الأول للمسرحية على مسرح باريمور، نيويورك في عام 1947.
أصبحت المسرحية مصدرًا لعدة اقتباسات سينمائية أولها وأفضلها حتى الآن هي نسخة «اليا كازان» عام 1951. والتي قدمت فيها «فيفيان لي» في دور «بلانش دوبوا» واحدًا من أفضل الأداءات النسائية التي شهدتها شاشة السينما. وهي النسخة التي سنعتمد عليها في كتابة «بورتريه سينمائي» لهذة الشخصية الأيقونية.
وأقصد بكتابة بورتريه سينمائي محاولة فهم كيف تعمل اللغة السينمائية، كيف يمكن من خلالها تقديم شخصية ما عبر الضوء والظل، كيف يأسر الشريط السينمائي ملامحها الداخلية والخارجية، كيف تتجسد جراحها وأحلامها عبر شريطي الصوت والصورة.
ضربة الفرشاة الأولى: ملمح العزلة والتيه
محطة قطار نيو أورلينز، وصول القطار الذي يحمل «بلانش/فيفيان لي» للإقامة مع أختها «ستيلا/كيم هنتر»، وزوجها «ستانلي كوالسكي/مارلون براندو». ظهورها الأول يمثل ضربة الفرشاة الأولى في رسم شخصيتها والتي تمنحها طابع العزلة والتيه.
تدخل بلانش إلى مقدمة الكادر عبر سحابة كثيقة من البخار تمنح اللقطة طابعًا حلميًا رغم واقعية الديكور السينمائي، ويظهرها وحيدة في مقدمة الكادر بعيدًا عن الشخصيات التي تعبر في خلفية الكادر. بثيابها الشفافة وأناقتها الزائدة تبدو غريبة عن المشهد كما لو كانت آتية من عالم آخر. نظرات الضياع المحفورة في حدقتيها والتي تجعل كل من يلتقي بها يبادر بسؤالها: «هل لي بمساعدتك سيدتي؟ سيدتي هل أنت تائهة؟». كل من يرى بلانش يعرف أنها تائهة.
ضربة الفرشاة الثانية: الهرب من الضوء
يكتب «تنيسي وليامز» في تقديمه لشخصية بلانش في نصه المسرحي: «يجب أن يتحاشى جمالها الرقيق الضوء الساطع، ثمة شيء ما في سلوكها المتردد، كما في ثوبها يوحي بالفراشة». كما يكتب «إليا كازان» على هامش النص المصور أن العمود الفقري لشخصية بلانش هو بحثها اليائس عن حماية. هكذا فإن ويليامز وكازان يتفقان على أن الضوء هو عدو بلانش الأول، لذلك فالإضاءة في كل مشاهد الفيلم التي تظهر بها بلانش هي إضاءة خافتة تصل للعتمة في بعض الأحيان.
أول لقاء يجمع بلانش بستيلا في صالة البولينج يجلسان معًا إلى طاولة لاحتساء شراب، فورًا تبعد بلانش بيدها المصباح القريب منها، حركة عفوية تمامًا من فرط تعودها عليها. تجلب فانوسًا ورقيًا لتحيط به مصباح غرفتها. فراشة ويليامز الجريحة تتخفى من الضوء فهشاشتها لا تتحمل الضوء العاري لمصباح. مواعيدها الغرامية مع «ميتش/كارل مالدن» تتم بعد الغروب وفي أماكن ذات إضاءة شاعرية.
حين تعبر عن احتياجها لميتش تقول له: «حمدت الرب عليك، بدوت لطيفًا مثل شق في ذلك العالم القاسي يمكنني الاختباء به». بينما حين تصف حب حبيبها الأول فإنها تقول: «كان ضوءًا يعمي العيون». حب كهذا لم يعد بإمكانها احتماله فكل ما تشتهيه الآن شقًا تختبئ به. واللطف صفتها المفضلة إنها صفة دافئة وخافته ليست باشتعال الحب ولا وهجه، إنها قفاز ناعم تستريح بها يد محترقة، إنها الظلال التي تلوذ بها عيون أنهكها الضوء.
ضربة الفرشاة الثالثة: أقنعة الوهم المهترئة
المخرج الأمريكي «وودي آلن»
المسرح يستدعي الأقنعة. بلانش لا حيلة لها للنجاة سوى بالتخفي لذلك تحاول أن تخبئ ضعفها، جمالها الآفل تحت أقنعة شتى لكنها أقنعة مهترئة تظهر ما تحتها، لا تصمد حتى أمام ضوء عار لمصباح منزلي. تسقط الأقنعة تباعًا حتى لا تجد جراحها مكانًا تلوذ به سوى العتمة الكاملة/الجنون.
هذا التوتر والعداء الذي يمكن أن نلحظه من أول لحظة بين ستانلي وبلانش هو تجسيد للصراع بين الوهم والواقع، وهو الصراع المحسوم للواقع منذ البداية. غلالة رقيقة من جمال ذابل لن تصمد أبدًا أمام ضوء النهار الساطع. الواقع حاضر دائمًا في المشهد مهما حاولت بلانش الاختباء منه.
يحقق كازان ذلك عبر المكان. هناك نوع من السيولة في المكان؛ فالبيت والشارع الخارجي فضاء واحد مفتوح لا تختفي ضوضاؤه ولا ظلال أضوائه حتى في المشاهد الداخلية. الواقع سيجدك أينما كنت. في مشهد قرب النهاية بينما كانت تريد بلانش أن تختفي تمامًا تحت تأثير انكشاف ماضيها المشوه وضياع أملها في ميتش، تقوم بإغلاق كافة النوافذ وإطفاء كل الأضواء.
يتحول البيت إلى كيان شفاف حيث تظل أضواء الشارع تتراقص عبر جدرانه كشياطين مهددة لا يمكنك الإفلات منها. تمثل بلانش كل ما هو جميل، ونقي، ورقيق ومتحضر، بينما يمثل كوالسكي كل ما هو بدائي، وحيواني وخشن ووقح. الصراع بينهما قائم داخلنا وحولنا ومستمر إلى الأبد.
ضربة الفرشاة الرابعة: صوت الظلام
شريط الصوت هنا يحمل زخمًا تعبيريًا هائلًا، فحضور الماضي المظلم لبلانش مرتبط بالصوت المتمثل في الموسيقى التي كانت تعزف ليلة انتحار حبيبها الأول وصوت الرصاصة التي سلمته للموت. يزداد حضور هذا الصوت وكثافته كلما اقتربنا من النهاية، كلما بدت أصابعها تفلت آخر ما تلامسه من ضوء شاحب، حين يبدو الظلام التام وشيكًا.
الحضور الكثيف للصوت مع اللقطات القريبة التي تشكل أغلب لقطات الفيلم، يخلق جوًا خانقًا ويظهر الشخصيات حبيسة قدرها الخاص كما لو كان المخرج يحاصر شخصياته بالصوت وبحركة الكاميرا. قرب النهاية أيضًا يضيف النص صوتًا جديدًا ينذر بانهيارها الوشيك في قبضة الجنون، صوت امرأة تتشح بالسواد تمامًا تبيع وردًا من أجل الموتى.
يربط الفيلم – على نهج فرويد – الرغبة بالموت. تاريخها الجنسي الحافل هو محاولتها للهروب من الموت، محاولة لسد الخواء الناتج عن غياب الحب أو موت الحب. محاولة لانهاك جسدها لإخماد صوت الألم النفسي الناتج عن مشاعر الذنب التي تحملها نفسها جراء انتحار زوجها الأول. الرغبة بالنسبة لها كما تقول هي نقيض الموت طالما هي مرغوبة فهي حية، أما وقد ترجلت في بداية الفيلم من عربة اسمها الرغبة فإن ما تبقى من حياتها هو نزول نحو الظلمة الكاملة.
قدمت «فيفيان لي» أداء مذهلًا لشخصية «بلانش دوبوا» منحها جائزة الأوسكار الثانية. فيفيان مثلما يكتب «مارلون براندو» في مذكراته: كانت بكل الطرق هي بلانش. من المرات القليلة التي يزول الفاصل فيها بين الشخصية والممثل. ففيان عانت طويلًا من مرض عقلي صار الآن يسمى «الاضطراب الوجداني ثنائي القطب»، تترنح فيه الشخصية تحت تقلبات مزاج عنيف يتأرجح بين الهوس والاكتئاب العميق.
في نوبات الهوس تبدو الشخصية مشحونة بجنسانية هائلة تجعلها تمارس الجنس مع من هم غرباء تمام عنها، وهو أيضًا مع ما يتماثل مع شخصية بلانش. دور بلانش كان محطمًا لفيفيان على المستوى النفسي، كان أشبة ببروفة لما ستختبره حقيقة في قادم أيامها. بلانش مرثية حزينة لكل ما هو جميل وشاعري ومفقود إلى الأبد.