فيلم «أغنية على الممر»: بعيدًا عن البيت قريبًا من نيران الصحراء
حينما دُعي المخرج المصري «علي عبد الخالق» إلى نسخة أولى من أحد مهرجانات السينما في بغداد، كان ضمن وفد مصري شمل 45 من الصحفيين والإعلاميين والمخرجين. وقتها، كان نشاط عبد الخالق اليساري سببًا في احتمالية اعتقاله، وحينما تسلَّم دعوى الحضور إلى بغداد، لم يكن يتوقع أن يُسمح له بالخروج من مصر.
بعدما سُمح لعبد الخالق بالسفر، وخلال أحد فعاليات المهرجان الصحفية، فوجئ بصوت في المايكروفون يقول إن على المخرج علي عبد الخالق مغادرة بغداد والعودة حالًا إلى القاهرة، لم يكن معه وقتها سوى عشرة دولارات، ولم يعرف ماذا يفعل، حتى فوجئ بأن التصريح كان مزحة من السياسي والمسرحي لُطفي الخولي.
بعد عرض فيلم «أغنية على الممر – 1972» عُقدت ندوة نظَّمها اتحاد طلاب جامعة القاهرة، حضرها علي عبد الخالق والممثل صلاح السعدني والناقد سامي السلاموني، فوجئ الثلاثي خلال الندوة بمدرج كبير مكدَّس بحوالي ألف طالب، لم تستمر الندوة، وخرج الطلاب الغاضبون للتظاهر، وكانت هذه بوادر انتفاضة الطلبة في 1972.
يعرض فيلم أغنية على الممر ضمن فعاليات الدورة 44 من مهرجان القاهرة السينمائي. في هذا المقال نتتبَّع تطور أفلام الحرب، وأين يقع أول أفلام علي عبد الخالق منها؟ وكيف يمكن للصمت والترقب أن يخلق تأثيرًا أقوى من قذيفة طائرة؟
سينما الحرب
رغم مواكبة مصر لنشوء السينما الأول، وظهور العرض الأول على الشاشة في 1897 في الإسكندرية، تأخرت السينما المصرية في مجاراة الحراك الأولي الذي تشكَّلت خلاله السينما، وهو الحرب، يعود ذلك إلى انشغال فئات المجتمع المنتجة فنيًّا وثقافيًّا بالمقاومة أولًا، وتكوين تكتلات سياسية قادرة على الاشتباك الحواري مع الاحتلال آنذاك. في سياق آخر، كانت السينما تتوزع مثل كعكة على يد أقطاب العالم الكبرى لتكون أداة ترويجية لصعود القوميات. في الاتحاد السوفيتي بدأ المخرج سيرغي أيزنشتاين مشواره الفني بأوامر حكومية عُليا، ليعمل على فيلم (المدرعة بوتمكين Battleship Potemkin) في 1925، ليوثِّق مقاومة العُمال في مدينة سان بطرسبرغ. افتتح أيزنشتاين فيلمه بأن الثورة هي الحرب الوحيدة المخلصة العادلة والفاعلة.
في الجزء الأول من كتاب (أفلام ومناهج) يتم تناول السينمائية المفضلة لدى حكومة ألمانيا الهتلرية (ليني ريفنشتال) التي أخرجت عدَّة أفلام ترويجية للاحتفاء بألمانيا النازية، أحدها كان فيلم triumph of the will الذي يعرض خطابات هتلر، في محاكاة صورية تضخِّم وتُقدِّس من حضور الزعيم المُخلِّص.
اقتبست السينما المصرية شكل العلاقة بين السينما والدعاية الحربية، بنفس أكوادها من الخارج، كان الاختلاف في (تخفيف) حدَّة الأفلام، والتخديم على المحتوى الفنِّي بأفكار تتماشى مع ذوق الجمهور.
في الخمسينيات ظهرت أفلام إسماعيل يس، في البوليس والجيش والأسطول البحري وفي الطيران، جميعها يُخبئ وراء سخرية إسماعيل يس الجماهيرية آنذاك سردية أن خدمة الوطن، بشكل كلي، هي التحوُّل الأكثر تأثيرًا من حياة فارغة وبائسة، عديمة الفائدة، إلى تمام القيمة.
اختلفت الرؤية السينمائية عقب نكسة 1967 قليلًا؛ إذ ظهرت أفلام مثل (العصفور- الاختيار- الأرض) لتُحاكي آثار النكسة دون دعاية مسبقة، وبصورة تحاول بحذر أن تقترب من كارثية التفتت المجتمعي، والنظر بعين متأملة وأخرى كسيرة، ما بين أمل استعادة الأرض، وبين الخوف من الهلاك في قلب التداعي.
الاتجاه والآخر المضاد
ساعدت الحوادث المذكورة في تكوين اتجاهين في السينما المصرية، الأول كان معنيًّا بتجاهل الجودة الفيلمية، ووضع قاعدة الترويج والشحن الإيجابي كأساس لأي فيلم، بينما الاتجاه الآخر، تمثَّلت ريادته في فيلم أغنية على الممر.
صدر فيلم (الرصاصة لا تزال في جيبي) في 1974، وفيه ينطلق الجندي (محمد – محمود ياسين) من هزيمة 67، مرورًا بحرب الاستنزاف، حتى يستعيد الانتصار في 1973. تكثَّف السياق الزمني للفيلم، بكل ما احتوته السنوات الستة من تداخل معقَّد على كل المستويات الفردية والجماعية، وأصبح مفهوم النصر هو القاعدة، حتى أصبح مشوار الجندي نفسه بلا معنى أصيل، ومفعمًا بالتجهيل ونزع فردانية التجربة؛ إذ ظهر الفيلم لأجل أن يصرخ، بجودته الشحيحة، ويقول ها نحن انتصرنا.
هل نستوعب الانتصار من خلال الاحتفاء به أم من خلال تفصيلاته الأخرى حتى ولو كانت مُطعَّمة بمرارة الهزيمة؟
خلال حرب الاستنزاف يفقد مجموعة صغيرة من الجنود التواصل مع القيادة العامة بسبب عطل في جهاز الإرسال، تمر الأيام دون إمداد غذائي أو ذخيرة. نأخذ الانطباع الأول عن كل جندي من خلال اختبار بشري أكبر من تمثُّلات الحرب في المعارك، وهو الوقوف باحتمالات حياة ضئيلة، بقليل من الماء والطعام.
على عكس تصدير (الانتصار) كمادة منزوعة الحيثيات في أفلام الحرب، يعطي فيلم أغنية على الممر لشخصياته مساحة كافية، لإدراك الظرف الفارق في حياة كل منهم، كيف غيَّره، وكيف ستغيِّر مآلات الحرب حياته أيضًا، سواء انتهت بالعيش أم بالموت.
ثمة خمسة جنود عالقون في ممر دون إمداد، توزعوا في دلالاتهم إلى رموز أولية للحياة، السلطة والتزييف، الالتزام الأخلاقي تجاه سيولة معيارية المجتمع، والمرح الطفولي الذي يحوِّل أي شيء إلى مادة للسخرية. تعامل علي عبد الخالق مع ظرف حرب الاستنزاف على أنه حدث عميق الاتصال بميوعة الالتزام الفردي في المجتمع؛ إذ يتذكر الجندي (حمدي – أحمد مرعي) حياته قبل الحرب، ملحن موهوب، يحدد المناسب وعكسه انطلاقًا من أفكاره الشخصية، وفي المقابل يتعرَّض للرفض، أمام الابتذال المطلوب في أداء إحدى المطربات الشهيرات، التي لم تكن مطربة، بقدر ما كانت راقصة لا صلة لها بالغناء.
بشكل أكثر تقاطعًا بين العام والشخصي، عكس علي عبد الخالق جزءًا كبيرًا من أفكاره في شخصية الجندي (شوقي – محمود ياسين). لم يكن شوقي، طوال الفيلم، أكثر من جندي مخلص للتعليمات رغم صعوبتها؛ إذ إنه جاء من تتابعات عنيفة من الفشل، قياسًا على حيثيات القبول والتحقق الذاتي في المجتمع. بينما يستعيد شوقي ذكريات ما قبل الانضمام لقوات الجيش، يتذكر أستاذ فلسفة الجمال في الجامعة، حينما قال في محاضرة إن المنتج الفني يجب أن يكون خاليًا من أي اعتبارات اجتماعية أو أخلاقية، اعترض شوقي وقال إن الفن ضروري أن يشتبك مع الآفات والمشكلات المجتمعية الكبرى.
يتمثَّل رأي شوقي في أفكار أفلام علي عبد الخالق لاحقًا، نذكر منها مثلًا أزمة الانحدار الأخلاقي وتبديل مفاهيم القيمة في (الكيف)، وفي فيلم (العار)، يلجأ مستطاع إلى الدجل والتربُّح منه بعدما يُفصل من عمله مدرِّسًا للفلسفة بسبب اعتبارات سياسية.
انتقالًا من (منير – صلاح قابيل) النصَّاب، مرورًا بـ (مسعد – صلاح السعدني) الذي لا يتمنى أكثر من العودة إلى حبيبته، والتفكير في الوجبة المناسبة لليلة الزفاف، ننتهي عند شاويش (عبد الحميد – محمود مرسي)، رئيس ما تبقى من الكتيبة، يتمثل فيه عجز السلطة، والالتزام الفدائي بعد محدودية القدرة على التحكم في حيثيات الحدث.
تدفعنا حالة تناول الحرب من خلال جنودها أولًا إلى مقاربتها مع الفيلم الصادر حديثًا (كل شيء هادئ في الجبهة الغربية- all quiet on the western front). يقف أحد المتطوعين الشباب في الجيش الألماني خلال الحرب العالمية الأولى، يتسلَّم زيَّه الحربي، ويُفاجأ باسم أحد الجنود القتلى ما زال عليه، ينزع المُشرف على تسليم الزيِّ اسم صاحبه القديم. تظهر كومة من الأسماء المدوَّنة، المُجهَّلة أيضًا، بجوار الطاولة.
الجحيم هو الانتظار
نتذكر من فيلم (الطريق إلى إيلات) أحداثه الأخيرة، حينما اشتعلت النيران في السيفنتين الحربيتين للعدو، وفي فيلم (saving private ryan) تظل النصف الساعة الحربية في مطلعه هي علامة بقائه الأكثر تأثيرًا. يمكن الدخول للحروب في السينما من باب سهل، وهو باب مشاهد القتلى وحركة الطائرات والدبَّابات ومعاناة الجنود، غير أنَّ هذا الأسلوب يمكن أن يكون أقل تأثيرًا في التعبير عن قدسية الحدث.
مدَّة فيلم أغنية على الممر حوالي ساعة ونصف، به مشهدان فقط اشتبك الجنود فيهما مع جيش العدو، لم يجتاوزا ربع ساعة، ومع ذلك، تظل كل شخصية عالقة بحكاياتها، بوضعها خلال الحيِّز الزمني الذي عرضه الفيلم، كأنَّها تشغل حضورًا أبديًّا في الذاكرة.
مستعينًا بالكادرات الثابتة والصمت، عمل علي عبد الخالق على التعبير عن مدى بؤس الجنود من خلال بديل للاشتباك، نشاط أكثر قسوة من فعل الموت، هو جحيم الانتظار.
طوال الفيلم تتبع الكاميرا بلقطات قريبة لوجوه الجنود، مترقبةً معهم مآلات الحدث، والأسئلة التي لا تنتهي لتشغل حيَّز الفراغ بين احتمالات الموت والحياة، يمكنك أن تعرف الكثير عن أحدهم، من خلال وجهه، وهو صامت، دون أن يتلقى أو يضرب طلقة رصاص واحدة.
بالطبع، لا يمكن الوقوف أمام اعتداء على الأرض، والتنظير حول قيمة الحرب من عدمها، هي في هذه الحالة أكثر من اختيار، إذ تتمثل في ضرورة البقاء، لكن الأهم من ذلك، هو السؤال حول اشتباكنا مع الحرب كحدث تاريخ أبدي القراءة، لا يمكن أن ينتهي من زخم أحداثه.
إن كان لدينا 750 ألف مقاتل في حرب أكتوبر، فإن لدينا بنفس عددهم حكايات عن الحرب، كل حكاية منها تُشكِّل معنى جديدًا لجدوى الحدث، إذ تتكوَّن ضرورة الحرب نفسها من الحضور البشري فيها.
فيلم أغنية على الممر هو استثناء لقاعدة الترويج والدعاية المُسكنة، ورغم أن الفيلم حظي بتقدير سينمائي كبير آنذاك، وفتح للمخرج علي عبد الخالق مشوارًا سينمائيًّا فارقًا بين مخرجي جيله، تظل السينما المصرية عالقة في الشكل الأولي لسينما الحروب حينما ظهر في الحربين العالميتين الأولى والثانية. نتذكر هنا فيلم (الممر- 2019) الذي بدأ من حادثة سحب القوات التي كانت تحمي سلاح الطيران، وتبيَّن أن ذلك كان سوء تقدير من الكوادر الآمرة، وينطلق الفيلم في حدث يعرض بطولة كتيبة مجندين عادوا لعمل غارة في أرض سيناء وإنقاذ جندي مصري مُعتقل في سجون الاحتلال.
السياق الذي سار فيه فيلم الممر، يتعامل مع تواريخ ضخمة، أكبر من أن تُتجاوز لأجل الوصول لذروة اللحظة الدرامية التي ينتصر فيها الطرف الأكثر خيرية.
لا يعني الانتصار في حرب ما، أي حرب، أن يتم تناسي بطانتها البشرية التي ذهبت، ودون أن تُعاد حكاياتها، مقدرة حضورها الفردي، لأن قيمة الحرب نفسها، ربما تتشكَّل من هؤلاء.