بين الأعداد والكسور: رحلة عنصر نبيل
خلال التبلور التدريجي لفكرة العناصر الكيميائية، كان النظر للهيدروجين على أنه الأصل أو الوحدة unit موقفا سائدا، الأمر الذي وصفه جريينبرج بوحدانية الهيدروجين . قد يبدو هذا التفكير منطقيا في الوقت الحالي – عصر ما بعد اكتشاف النواة والإلكترونات – حيث يلعب الهيدروجين دور الوحدة فعلا بامتلاكه نواة تحتوي على بروتون واحد فقط يدور حولها إلكترون واحد فقط أيضا، إلا أن النظرة الوحدانية تلك كانت أقدم من هذا النموذج الذري بكثير، بل أقدم من أول ظهور رسمي لها والذي يعود تاريخه إلى ورقتين علميتين منشورتين بواسطة مجهول نعلمه الاّن باسم «ويليام بروت».
فرضية بروت: صياغة علمية للأسطورة
ويليام بروت
بعد دراسته للطب في أدنبره، استحوذت الكيمياء الحيوية على اهتمام بروت William Prout الطبيب المولود بإنجلترا عام 1785، لينتقل به البحث بعدها إلى الكيمياء الفيزيائية حيث سينشر ورقتين بحثيتين سيكون لهما الفضل الأساسي في شهرته. نشرت الورقة الأولى المعنونة «حول العلاقة بين الكثافة النوعية للأجسام في حالتها الغازية ووزن ذراتها» عام 1815 لتحتوي على ما سيعرف باسم «فرضية بروت» والتي تقول بأن الأوزان الذرية (أو الكثافة النوعية) لكل العناصر هي مضاعفات (أرقام صحيحة) لوزن ذرة الهيدروجين. رغم أن الفرضية تهاوت تحت ضربات اكتشاف نظائر العناصر والإشعاع وزيادة دقة قياسات أوزان العناصر التي أظهرت أنها ليست مضاعفات لوزن الهيدروجين وليست كلها أرقاما صحيحة، إلا أنها كانت تعكس نظرة السابقين للهيدروجين على أنه الوحدة البنائية التي تتكون منها كل العناصر الأخرى، الأمر الذي يعتبر في حكم الأساطير المؤسسة للميثولوجيا الكيميائية إن وجد أمر كهذا.
كانت فرضية بروت من الأمور التي أوحت إلى اللورد رايلي – أو جون ويليام ستروت Strutt كما كان يُدعى قبل أن يصبح البارون الثالث بعد وفاة والده – ليتابع البحث الذي سيقوده إلى نوبل في الفيزياء المقتسمة مع رامزي Ramsay لاكتشاف عنصر الأرجون وتأسيس العمود/ المجموعة الثامنة عشرة من الجدول الدوري (الأمر الذي سيسبق اكتشاف النيون الذي يسبق الأرجون في المجموعة ذاتها).
يميل عموم الناس للاعتقاد بأن الأرقام المحددة لكثافة العناصر أو أوزانها الذرية هي أرقام مطلقة دقيقة وثابتة منذ اكتشافها. في الحقيقة، استغرق الأمر أكثر من قرنين لتحديد كثافة العناصر بشكل دقيق لا يستدعي محاولات إعادة للقياس. قبل عام 1882 كانت أدق القياسات في هذا المضمار تعود إلى الفرنسي هنري رينو. في العالم سابق الذكر تحديدا قرر لورد رايلي القيام بعمل بالغ الدقة حيث قرر أن يقوم بإعادة قياس كثافات العناصر النوعية المكتشفة حتى وقته ذاك وإجراء التجارب جميعًا مرارًا وتكرارًا للتأكد من سريان فرضية بروت المذكورة آنفا والتي تستدعي أن تكون كثافة النيتروجين بالنسبة لكثافة الهيدروجين عبارة عن نسبة تعادل رقما صحيحا (16 تحديدا)، رغم أن رينو وجد أنها دائما ما تظهر بقيمة 15.96 فقط، ونسب الفارق الضئيل للغاية للفروق المعملية. لكن ما الذي قاده نحو هذا المشروع المنذر بعمل شاق – و للصدق، ممل أيضًا – والذي سيستغرق عشر سنوات كاملة؟
جزء من الألف
يبدأ الأمر بتجربة بسيطة – وطويلة – لتحضير النيتروجين النقي. قام لورد رايلي بإجراء تفاعل الهواء المحتوي بشكل أساسي على نيتروجين وأكسجين مع الأمونيا ليتحد الأكسجين مع الهيدروجين مكونًا بخار ماء سهل التخلص منه تاركًا النيتروجين الهوائى والنيتروجين الناتج من الأمونيا فقط. بعد تمام العملية، قام اللورد رايلي بتحديد وزن النيتروجين الذري بشكل روتيني كما فعل رينو وغيره الكثير.
اتضح أن هناك فارقًا يبلغ 0.001 بين كثافة النيتروجين الآتي من خليط الهواء والأمونيا والنيتروجين الآتي من الهواء كليًا، بينما وُجد أن هناك فارق يبلغ 0.5% بين كثافة النيتروجين الآتي من الهواء كليًا (الأثقل) وبين كثافة النيتروجين المستخلص كلية من الأمونيا (الأخف). كانت هذه الاختلافات البسيطة للغاية قابلة للتجاهل تماما حيث كان سيتم إرجاعها للأختلافات البشرية خلال اجراء التجارب والصدفة، لكن لورد رايلي، وهو رجل معملي من الدرجة الأولى، لن يقبل أن يوصم بأن نتائجه العملية تحتوي على اختلافات حتى بهذا الصغر. لقد كان مستعدًا للذهاب إلى القول بوجود عنصر جديد لم يكتشف بعد وأثقل من النيتروجين في الهواء عوضًا عن أن يقبل بأن «الأخطاء تحدث» بلا قدرة على منع حدوثها.كان محقا على أية حال، مع تكرار التجارب وازدياد المراسلات بينه وبين ويليام رامزي واشتراكهما في تحديد طريقتين ناجحتين لعزل الغاز الجديد (تحويل النيتروجين إلى أكسيد حمضي وتفاعله مع قلوي أو بواسطة ماغنيسيوم في درجة حرارة الاحمرار) ، تمكن العالمان من عزل الغاز النبيل عام 1892 ليتم الإعلان عن اكتشاف العنصر عام 1894 والذي سيسميه اللورد رايلي عنصر الأرجون من الكلمة الإغريقية التي تعني «غير نشط» في إشارة لكونه حرفيًا لم يكن يفعل أ شيء على الإطلاق.
لا يفعل شيئًا، ولكن ليس على الإطلاق
بالعودة لميثولوجيا الكيمياء، إذا بحثنا عن عناصر المجموعة الثامنة عشرة سنجدها تحت عنوان «الغازات الخاملة». تلك التسمية التي تم طرحها جانبًا لمصلحة مصطلح «الغازات النبيلة» الذي يعكس طبيعة هذه الغازات بشكل أفضل. يعود الأمر إلى حقيقة أن الغازات النبيلة تتفاعل بشتى الطرق، كل ما هنالك هو أن ظروف تفاعلها أصعب كثيرًا من المتوافر حولنا في الطبيعة، لذا كان الأمر بحاجة لبحث أعمق وتكنولوجيا أفضل لجعل الغاز النبيل يقدم على التفاعل.
تعد أكثرية مركبات الغازات النبيلة مركبات زينون، سواء كانت فلوريدات (أكثر مركباته ثباتا) أو أكسوفلوريدات وكلوريدات بل ومركبات تناسقية حيث كان أول المركبات التي احتوت على ذرة عنصر نبيل – وأثبتت أنها ليست خاملة تماما، خلاف الأسطورة – هو مركب سداسي فلورو بلاتين الزينون وهو مركب تناسقي تم تحضيره عام 1962. إلا أن مركبات باقي العناصر النبيلة ظلت تظهر تباعا ليتم تحضير أول مركب للأرجون عام 2000 في هلسنكي بفنلندا.
في الورقة العلمية المنشورة بدورية Nature، استطاع فريق العلماء الفنلندي تحضير فلورو هيدريد الأرجون HArF باستخدام التحليل الضوئي (استغلال طاقة شعاع ضوئي لكسر الروابط الكيميائية) لمركب فلوريد الهيدروجين في وجود الأرجون في حالة تجمد. تتطلب هذه العملية درجة حرارة شديدة الانخفاض – 7.5 درجة كلفينية – إلا أنها تلقي الضوء على تركيب وكيفية ارتباط الغاز النبيل بالعناصر الأخرى رغم تكوينه الإلكتروني. بعد عشر سنوات، ستظهر أول طريقة لتحضير رابطة عالية الثبات بين الأرجون والكربون في الكاتيون – أيون موجب – الثنائى ArCF22+.
تتمثل خصوصية اكتشاف الأرجون – مثل خصوصية اكتشاف مركبات الغاز النبيلة – في أنه كان محركًا للعقل العلمي آنذاك نحو المزيد من النقد والتشكيك في الفرضيات التي عُدَت بديهية لزمن طويل. بجانب ذلك، يمكننا أن نرى في اكتشاف الأرجون حالة كلاسيكية لسعي التجريبيين الحثيث نحو القياسات الأكثر دقة.
من الظلم أن نعزو هذا السعي إلى حالات من الهوس المجرد من الأهداف الواقعية، لقد فطن معظم العلماء – الذين صاروا عظماء بسبب هذه الفطنة – إلى أن الطريق للاكتشافات المذهلة قد يكمن بعد العلامة العشرية بكثير، كان كل ما عليهم هو فقط هزيمة الميل البشري لتجاهل الصغائر، ووضعها تحت العدسة المكبرة.
- 1
- Biographical Encyclopedia of Scientists (Third Edition) : John Daintith
- On the Relation between the Specific Gravities of Bodies in their Gaseous State and the Weights of their Atoms – Annals of Philosophy Vol7 : William Prout
- The Density of Gases in the Air and the Discovery of Argon : Lord Rayleigh. Nobel Lecture, December 12, 1904
- 5
- 6