رب فيلم خير من ألف كلمة
أليس من المدهش أنك حين تحاول تقليب ذاكرتك في غياهب التاريخ الإسلامي، تجد أن أبرز ما تستحضره مشاهد من فيلم الرسالة؟ وهل تساءلت يوماً كيف تتوقف حدود معرفتك بما جرى في الثورة الليبية ضد الاستعمار الإيطالي بما شاهدته في فيلم عمر المختار «أسد الصحراء»؟.
ألا تتفق معي أن تفاصيل نشأة القضية الفلسطينية هي استدعاء ذهني لديك من مسلسل التغريبة؟ ثم ألا تجد نفسك تحاملت يوماً على الدولة العثمانية وتعاملها مع العرب بعد مشاهدتك لمسلسل الخوالي أو عرس الصقر؟
يمكن القول إنه مع تعدد المحاولات التي قام بها منتجو الدراما التلفزيونية الفلسطينية، لإخراج مادة إعلامية على شكل أفلام تخدم القضية الفلسطينية وتدافع عن ثوابتها الوطنية، إلا أنهم حتى الآن لم يوفقوا في غرس القضية الفلسطينية سينمائياً أو درامياً بشكل متميز.
وفي ظل هذا الضعف الواضح أمام عالم تتطور به التكنولوجيا وتتسع رحابها لنقل الحقيقة صوتاً وصورة، يبقى السؤال المطروح، «لماذا لم يستطع الفلسطينيون حتى الآن التعبير عن قضيتهم على شكل فيلم أو دراما تلفزيونية هادفة، تنطلق من الوقائع التاريخية والثوابت الوطنية؟» ونحن هنا لا نتحدث عن أفلام قصيرة ذات بعد محلي أو إقليمي فقط، وإنما نقصد فيلماً حقيقياً يطرق أبواب العالمية الموصدة، ويكون قادراً على إنتاج المعاني وصياغة الأفكار بشكل احترافي.
ولن تدهش إذا عدنا إلى الإنتاج الذي أخرجته القنوات والفضائيات العربية والفلسطينية الناشئة خلال السنوات الأخيرة، لتجد أن ما قدمته من إنتاج فني لا يرقى إلى المستوى الإقليمي، كما أنه حفل بالعديد من المغالطات التاريخية، ومحاولات تحريف بوصلة الوقائع وتأصيلها الزمني.
ناهيك عن الضعف في الإخراج، والذي بدأ يتلاشى في المحاولات الأخيرة، وركاكة النص، وتركيزه على الأبعاد الترفيهية الكوميدية أو الدرامية التراجيدية بشكل حاد وصارخ لا يترك للواقعية أي حيز، ناهيك عن الترويج لوجهات نظر محددة قد تخدم أو تعبر عن الكاتب، أو توجه القناة، أو الرؤية العامة للمنظومة الحاكمة، دون أن تعبر عن فلسطين نفسها.
ربما كان صحيحاً بنسبة ما أن هناك من يسعى لإفشال كل ما يخدم قضيتنا، وعرقلة طريقنا، لكن الوجه الآخر من الحقيقة يعلن أن هناك تقصيراً حقيقياً منا، وقد يكون من أبرز أسباب هذا القصور هو عدم الوعي الكافي عربياً وفلسطينياً وحتى حزبياً بأهمية ما قد تفعله الدراما المرئية في الوعي العالمي، وبدورها في التعبير صوتاً وصورة عن الذات الفلسطينية المرهقة من طول الاحتلال، وبقدرتها اللامتناهية في تشكيل الصورة الذهنية عند المتلقي.
وهذا ما يبرر الموت البطيء للدراما الإذاعية أو حتى زوايا القصص في الصحف والمجلات لصالح الدراما التلفزيونية المصورة.
فالحقيقة هنا أن الرسالة الإعلامية في عالم الدراما والسينما لم تعد مجرد نقل للواقع أو محاكاة له، بل أصبحت هي الواقع الذي يعترف به الجمهور، وأضحى الخطاب الإعلامي دلالة تمثيلية واتصالية لا غنى عنها.
وبكلمات أخرى، أضحى التلفاز الذي نشأ كوسيلة ترفيهية للجمهور أداة للتأثير في المعتقدات والسلوك مع التعرض المستمر للمادة الإعلامية الصادرة عنه، إذ يحوّل التلفاز المضامين الإعلامية إلى تمثيل لغوي وذهني يستحضر التفاعل بين الإنسان والثقافة والمجتمع المتعلق بالحدث، ولأننا نقوم بتشغيل حواسنا المضادة أثناء مشاهدتنا لنشرات الأخبار أو الخطابات التوجيهية، ونقوم بتعطيلها أثناء مشاهدتنا للدراما والمسلسلات والأفلام.
كان للأثر الناتج عن هذه الأخيرة أن يتجاوز حدود الفرد ليسعى دون وعي منه إلى إعادة تشكيل إدراكه وأجنداته، وتأكيد توجهات بعينها وإغفال أخرى.
شيئاً فشيئاً مع ازدياد التعرض للمضمون الإعلامي والاعتماد عليه كمرجع ثقافي ومصدر معلوماتي، يصبح أساساً لبناء الأفكار والتوجهات، ومرجعاً معلوماتياً متفقًا عليه جماهيرياً، حيث إن الجمهور يتخذ أحكامه وتوجهاته وفقاً للمعلومات المتاحة، وكنتيجة لحالة التدرج في طبع الصور الذهنية في عقلية المتلقي فإن هذا ينتج عنه وجود عالمين؛ فهناك ذلك العالم المتخيل عن المجتمع كما يصوره التلفزيون، وفي الطرف الآخر عالم الواقع الطبيعي المعاش في حقيقته.
لذلك فالدراما التلفزيونية تعتبر من أنجح أساليب التأثير، فإذا أردنا ترسيخ قيمة معينة، أو معنى أو مفهوم فإن الأساليب التقليدية في الوعظ أو التوجيه المباشر لم تعد موفقة وناجحة خاصةً مع اختلاف ظروف العصر الحديث الفكرية والاتصالية، وقد تحقق نتائج عكسية أحياناً، في المقابل فإن ذلك يتم بنجاح من خلال تمثيلية أو مسلسل أو فيلم، تمّكن القائم بالاتصال من التحكم في مستوى وعي الجمهور عبر المعلومات التي يضخها في الأعمال الدرامية والسينمائية.
وهذا الدور الرائد للدراما يعني أننا أمام حائط صد حقيقي للدفاع عن فلسطين وقضيتها، فالمواجهة في الأساس أصبحت ثقافية، ولابد من التركيز على العقل وتغيير الصورة النمطية لديه عبر أدوات الفعل الثقافي الواعي والمؤثر، لإفشال الرسائل التي يبثها صانعو الدراما الموجهه لتشويه معالم القضية لدى المتلقي وحجبه عن رؤية الحقائق.
ولهذا لا بد أن تعي الجهات الحريصة على خدمة القضية الفلسطينية أنه إذا كانت أولويات الإعلام والدراما التلفزيونية هي خدمة الوطن وهويته الوطنية فمن المفروض تأمين الوسائل الكفيلة بإنجاحها وتمكينها، والتي تعزز التواجد الإعلامي في الساحات العربية والعالمية عن طريق إنتاج أفلام ودراما تلفزيونية ومسرحيات، تُبرز وطنية الفلسطيني وثوابته وتحقق التأثير في الرأي العام الجماهيري، بقوى ناعمة وتأثير لافت وصدى متردد لا يمكن إسكاته.
ختاماً.. العالم يتسع.. والتكنولوجيا تطور.. والتأثير الذي يحدثه النشيد الوطني في قلوبنا بإمكان مشهد متقن أن يحدثه في قلوب الملايين ممن لا يفهمون مفردات النشيد.. ففي العالم وسائل كثيرة لخدمة رؤيتنا والدفاع عن قضيتنا.. ولكننا بحاجة أن ننظر إليها من زاوية الواقع .. ونضبط أوتار عزفنا على الإيقاع العالمي الحديث بما يخدم قضيتنا.