فيلم «A Hero»: معضلة الأخلاق عند «أصغر فرهادي»
يجلس في هدوءٍ وسكينة. يُنادي عليه أحد العاملين فيجلب حقيبته فور سماعِ اسمه ويخرج من ذلك المكان. تشي القضبان التي بدت في مُقدمة الكادر أن المكانَ هو سجنٌ وأن الرجلَ على وشك أن يُفرَج عنه.
فور خروجه من المكان تتبعه الكاميرا في الطريق إلى بيته من خلف أسوارٍ وأسلاكٍ تُشبه القضبان، وكأن الرجل قد فارق السجن، لكن السجن يأبى أن يتركه. الكادر يُعطي انطباعًا بأنه ما زال سجينًا حتى وهو حُرٌّ طليقٌ.
نعرف بعدها أن الرجل هو «رحيم سُلطاني»، وأنه لم يُفرج عنه، إنما هو في إجازةٍ تستغرق يومين سيحاول خلالها إقناع دائنه الذي زجّ به إلى السجن أن يتنازل عن القضية، على ضمانٍ أن يُسدِّد له رحيم مستحقاته المالية.
يبدو الصراع واضحًا وجليًا، نعلم تمامًا ماهيته واحتمالاته، ومتى سنقول إن رحيم قد كسب الصراع، وما الذي سيحدث ليجعلنا نقول إنه أخفق فيه. لكن الأمور تزداد تعقيدًا، وتتشابك عدة دوافع ليتحول الصراع تدريجيًا من رجلٍ يسعى لإنقاذ نفسه من دَيْنه المالي، إلى إنسانٍ يقف على حافةِ الذنب والعار في نظر الجميع.
«لم يعد المال يَهُمني، أنا أفكر فقط في كرامتي»
عند خروجه من السجن يُقابل رحيم حبيبته «فرخندة»، والتي قد وجدتْ حقيبةً منذ أسبوعٍ، بها بعض العملات الذهبية، التي قد تفي بمبلغٍ مالي من شأنه أن يجعل الدائن يتراجع عن القضية.
يُقرِّر رحيم في البداية أن يبيع تلك العُملات، وبالفعل يُرسل إلى الدائن ليستميله بأنه سيدفع نصف المبلغ تقريبًا وسيسدد الباقي تِباعًا. يطلب الدائن أن يحصل على إيصالاتٍ مصرفية تضمن له حقه مستقبلًا، وبسبب صعوبة أن يحصل رحيم على شخصٍ يكتب على نفسه تلك الإيصالات حتى زوج أخته الذي يحدّه الخوف من أن يكون ضامنًا له، يشعر رحيم أن الله يُعَقِّد الموقف حتى لا يقوم ببيع تلك العُملات التي ليست من حقه.
لذا يُقرِّر أن يبحث عن المالك وينشر إعلانًا برقم السجن، لأنه يُريد أن يخبر المالك بنفسه عن وجود الذهب بحوزته ليشعرَ بفرحة صاحب الذهب حين يسترد ملكيته، حيث تعني تلك الفرحة لرحيم الكثير، كونه تسبّب في غبطة أحدهم بعد كربٍ لفقد تلك العملات الغالية.
تنتهي إجازة اليومين ويعود رحيم إلى السجن دون أن يقنع دائنه، وبعدها تتصل سيدة برقم السجن وتدلّه على أوصاف الحقيبة. لكن الأمر لا يمر مرور الكِرام على إدارة السجن، التي تستحسن ذلك الموقف النبيل من رحيم وتقرر إعطاءه عشرة أيام كإجازة استثنائية، لإقناع الدائن مرةً أخرى.
يتقاذف الإعلام الخبر ويُجري مقابلاتٍ مع رحيم الذي أصبح بطلًا شهمًا في أعين المجتمع. وتتكفل إحدى الجمعيات الخيرية بجمع التبرعات لدفع دينه، ويتم توفير عملٍ له في المحُافظة. لكن يبدأ تعقيد الموقف حين يطلب موظف المُحافظة من رحيم أن يأتي بالسيدة التي ردّ إليها حقيبة الذهب، ليتأكدوا من عدم اختلاقه لتلك القصة، خاصةً وأنه كتب في الإعلان رقم السجن عِوضًا عن رقمه الخاص وكأنه يُريد قصدًا إعلام الناس بصنيعته.
يبحث رحيم عن السيدة فلا يجد لها أثرًا. تبدأ الشكوك تتجه صوب رحيم الذي بدأ يُشاع أنه افتعل كل ذلك. ليتحول صراع رحيم من التحرر من السجن المكاني إلى الرغبة في الانعتاق من تلك النظرة المُحدقة به، تلك النظرة التي تصفه بأنه مُحتالٌ مُخادع. وفور تحول الصراع من شيء مادي إلى أمر معنوي، تتصاعد عديدٌ من التساؤلات عن ماهية الأخلاق الإنسانية، وعن الضعف الذي يعتري البشر في قراراتِهم الحياتية، لا سيّما في تلك القرارات التي تقف عند ذلك الخيط الرفيع بين الخير والشر، الصواب والخطأ، الأخلاقي وغير الأخلاقي، حيث نجد أنفسنا حائرين في اختيار التصرف السليم، التصرف الذي لن يجعلنا نندم أو نشعر بالذنب بعد ذلك.
«لا يوجد شيءٌ عادل في هذا العالم»
تعتبر تصرفات الإنسان ونسبية الصواب والخطأ من الناحية الأخلاقية مبحثًا أصيلًا في سينما المخرج الإيراني «أصغر فرهادي»؛ ينزع أبطاله عادةً إلى اتخاذ قراراتٍ ربّما يراها البعض أخلاقية، ويراها البعض الآخر عكس ذلك، ومن هُنا تتولّد الدراما بين الشخصيات الذين يلومون بعضهم البعض، بل وأحيانًا يُصبح اللوم ذاتيًا، فالشخصية الواحدة تُعيد مساءلة ضميرها بشأن صوابية أو أخلاقية قرارٍ ما قد اتخذته مُسبقًا.
كان ذلك المبحث جليًا حينما تحدث سائق أجرة مع رحيم، وعرض عليه أن يأتي بسيدة لتقول إنها صاحبة حقيبة الذهب لو لم يجد السيدة الأصلية، يتردد رحيم في الموافقة بدايةً، فيُخبره الرجل أنه سُجن ظُلمًا لأعوامٍ قبل ذلك، وأن لا شيء عادل في هذا العالم. يتضمن ذلك القول نزعة ساخطة من الرجل في وجه المجتمع، فرحيم بريء ورُغم ذلك لا يستطيع إثبات براءته.
ومن رحم ذلك الظُلم الذي وقع عليه يعتقد الرجل أن خرق القاعدة الأخلاقية والإتيان بسيدة تدّعي أنها صاحبة الذهب هو سبيل تحقيق العدالة، تلك العدالة المفقودة بين البشر، الذين لا يكُفّون عن إطلاق أحكامٍ أخلاقية على غيرهم.
هل الأخلاق والشعور بالفضيلة هي جوهرٌ كامنٌ بداخِلنا أم شيءٌ نكتسبه من نظرةِ الآخرين لنا؟
يبدو اختفاء السيدة وكأنه شيءٌ قاسمٌ وقع على قلب رحيم. بدا وكأنه يبحث عن ضمانِ صدقه ودماثته رغم أنه يعلم جيدًا حقيقة صنيعته، وأنه لم يفعل ذلك مراءاة الناس، إنما لشعوره بأن الواجب الأخلاقي يُحتم عليه ذلك.
هنا يتبدّى الشعور الأخلاقي وكأنه رهنُ منظورِ الآخرين تجاه إنسانٍ ما، تلك الماهية الخارجية التي ينبني عليها شعورنا بالأخلاق تم تجسيدها بالدرع التكريمي الذي مُنح لرحيم وأصبح يصطحبه في كل مكان، بل ويصبح ذلك الدرع وسيلته للحصول على شيءٍ ما لم يكن من الممكن أن يحصل عليه سواه.
مثالًا لذلك، حين طَلَب من محل الذهب أن يتحصّل على شريط كاميرا المُراقبة من أجل التقاط صورة للسيدة صاحبة الذهب، نجد صاحب المحل يرفض في بادئ الأمر، ثم يقبل بعدما يرى الدرع الخاص برحيم.
ذلك التوصيف الواهي والمُتغيِّر لكينونة الأخلاق على أنها إسقاطٌ خارجي من المجتمع تجاه فردٍ ما، يُفقد قيمة الفضيلة بحد ذاتها وخصوصيّتها، ويُحيلنا الى الإشكالية الأهم: ماذا لو تعارض الطريقان؟ أي لو تعارض تصرفان أحدهما سيكفل قيمة الأخلاق بداخلنا والآخر سيجعلنا نبدو فاضلين أمام الناس. إذن أيهما سيختار الإنسان؟
بين كانط وصراع أبطال فرهادي
يرى كانط في تعريفه للأخلاق أنها قيمة مُجرَّدة من أي غاية، أي أن الفِعل الأخلاقي يجب أن ينبثق من الإنسان بصرف النظر عن الغاية من ورائه أو المبتغى منه. من هُنا يُمكن استدعاء رحيم ومُحاكمته كونه أراد تحقيق الغاية من الأخلاق لا التجريد الذي أصّله كانط، ومن ثمّ أوقع نفسه في العديد من المُعضلات.
فرُغم أن رحيم قرّر عدم بيع الذهب وإعادته إلى صاحبه، انطلاقًا من دافعه الأخلاقي، ولم يكن يبتغي أي غاية، إلا أن الأمر تحوّل بعد ذلك إلى رغبةٍ مُلحة في أن يُثبت للناس صدقه، حتى ولو على حِساب تجاوز المعيار الأخلاقي، تجلّى ذلك في قوله إنه هو منْ وجد حقيبة الذهب رغم أن من وجدتها هي فرخندة، ظنًا منه أن ذلك الأمر لن يهم، خاصةً وأنه صاحب قرار إعادتها الى المالك.
وكذلك حين يستعين بفرخندة لتدّعي أنها السيدة صاحبة الذهب بعدما أخفق في إيجاد السيدة الأصلية، وذلك لأنه لم يجد بديلًا عن هذا الادّعاء لإثبات براءته. هُنا حدث التعارض بين التصرف الأخلاقي كجوهرٍ وبين كونه قيمة مُكتسبة في أعين الآخرين. لم يكن دافع رحيم في ذلك دافعًا سيئًا لأننا نعلم بالفعل أنه صادق لم يختلق الواقعة، ومن ثمّ ورغم تلك التجاوزات الأخلاقية ظلّ رحيم محل تعاطف، لأن زلّته كانت بفعل ضعفه الإنساني، وهو الشيء المشترك بيننا كبشر.
المرة الوحيدة التي تحرّر فيها رحيم من عبء نظرة الآخرين، كانت في المشهد الخِتامي، حين طلب من مسئول السجن أن يحذف مقطعًا صوّره لابنه الذي يعاني من صعوبة في النطق وهو يتحدث عن صدق والده.
شعر رحيم في تلك اللحظة بأنه يستغل تلعثم ابنه ليجتر الشفقة من الآخرين، فآلمه ذلك وطمس بيده ذلك المقطع الذي كان من الممكن أن يُغيِّر نظرة الناس السيئة له. هنا نجد أن رحيم قد اختار ما يُرضيه حتى ولو كان على حساب رؤية الناس له. في هذا التوقيت يتلاشى صراع رحيم حول إثبات براءته ويتحرر من الرغبة في إثبات أخلاقه لمن حوله، فلم يعد يعبأ سوى بأن يظل راضيًا عن أفعاله، شاعرًا بجوهره الصادق والأخلاقي، حتى ولو رأى الناس غير ذلك، طالما أنه أمام نفسه مُطمئن وبريء.
تسأله ابنة اخته في خِتام ذلك المشهد عن كيف يبدو السجن، يُجيبها بالصمت، فرحيم قد تحرّر لتوّه من سجنٍ معنوي وأخلاقي كان أشد وطأةً من سجنه المكاني.
سينما اختزال الشر
ليس من الممكن وصف سينما أصغر فرهادي بالواقعية الاعتيادية، كالمدرسة الكلاسيكية التي ظهرت في إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية وسطّرت بدايةً للواقعية السينمائية. إنما تأتي واقعية فرهادي كواقعية مغايرة تحمل كافة شخوصها بواطنَ من الخير والنقاء. ومن ثمّ تجد نفسك متعاطفًا مع جميع الأشخاص الذين يتصارعون فيما بينهم.
واقعية فرهادي لا تحتوي على شخصياتٍ مقيتة أو سيئة، إنما يظل الشر له وجودٌ شبحي نسمع عنه أحيانًا لكن لا نراه متجسدًا، ورُغم ذلك لا تشعر مُطلقًا أن الأجواء مُفتعلة أو غير واقعية.
فرهادي بعبقريةٍ يُتقنها، قادرٌ على تنحية الشر وطمسه وإزاحته من كادره السينمائي، وكأنه يُعيد رسم عالمٍ فيه الكثير من النقاء. نحن هُنا مثلًا لا نرى زوجة رحيم التي أهملتْ طفلها وأخبرت المدرَسة أن يراسلوا أهل والده بدلًا منها، ولا نرى شريك رحيم الذي أخذ المال منذ ثلاث سنوات وأوقعه في الدَيْن، وكذلك لا نرى زوج السيدة صاحبة الذهب العاطل الذي تخاف من أن يسرق ذهبها في غيابها عن البيت.
والأمر يتكرر في أفلام فرهادي السابقة؛ ففي فيلم «البائع» لا نرى العاهرة التي انقلبتْ حياة الأسرة رأسًا على عقب بسببها. فكاميرا فرهادي عالية الحياء وحلبته السينمائية شديدة الانتقاء، لا يُسمح لأي فردٍ أن يدخلها إلا إذا كان بداخله جوهرٌ من الطيبة، ليظل صراعنا السينمائي مُنحصرًا بين خير وخير. وكلاهما له دوافعه ونحن في المنتصف لا نستطيع أن نقف في صف واحدٍ دون الآخر، ولا نريد أن يُحسم الصراع لفردٍ بعينه. فدائن رحيم قد اضطر لبيع مهر ابنته ومصوغات زوجته لتعويض المال الذي اقترضه رحيم، وبالتالي فتعامله الجاف وعدم تصديقه لرحيم أمرٌ مُبرر، والجمعية الخيرية التي أوقفت مساعدتها لرحيم ما فعلتْ ذلك إلا خوفًا من أن يكون كاذبًا فيُعطى المال لمن لا يستحق. ورحيم نفسه ليس مُخادعًا أو مرائيًا كما يُتهم، إنما هو بطيبةٍ أو حماقةٍ أوقع نفسه في أمورٍ لم تكن في حسبانه.
جميع الشخصيات جديرة بالتعاطف، ومن هنا يُصبح الصراع بلا قيمة لنا، والأكثر أهمية هو مُساءلة ذاتِنا، لو كُنا مكان تلك الشخصيات كيف سيغدو قرارُنا؟
عادةً ما يظل صراع أبطال فرهادي مفتوحًا بلا حلٍ واضح، لكن هُنا نستشعر أن رحيم قد تغيرت بداخله بعض الأمور ولم يعد نفس الشخص الذي كان عليه قبل تلك الواقعة. نجده قد حلق رأسه وكأنه يولد من جديد بمشاعر مغايرة عما سبق.
بابتسامةٍ على ثغره يجلس منتظرًا أن يدخل زنزانته من جديد. تلك الابتسامة تشي بأنه ما عاد يعبأ بسجنه وقد تحررت ذاته من ثِقل الخزي الذي كان يشعر به. يكفيه أنه يعلم جيدًا مدى صدقه وفضيلته. ينظر إلى رجلٍ مُفرَج عنه وزوجته بانتظاره. يسعد لرؤية ذلك المشهد الذي يُحيله إلى التفكير بحبيبته فرخندة، مُتمنيًا أن يصبح مكان ذلك الرجل يومًا. يختفي رحيم من المشهد بينما تظل الكاميرا تراقب خلسةً الرجل وزوجته. لوهلة يصبحان هما بطليْ الفيلم رغم أننا لا نعرف حتى اسميهما إلى أن يركبا الحافلة ويندثرا بين الخلائق.
يجعلنا هذا الكادر التأملي نفكر في قصة ذلك الرجل هو الآخر: أكان مُذنبًا حقًا، أم أنه بطلٌ في داخله مثلما يشعر رحيم تجاه نفسه؟