فيلم «A Hero»: ما الذي يجعل البطل بطلًا؟
صنع «أصغر فرهادي» اسمًا لنفسه في واحدة من أكثر المجتمعات طردًا للاختلاف: هوليوود. أصبح فرهادي أحد أكثر المخرجين غير الأمريكيين أو الناطقين بالإنجليزية شهرة، خاصة فيما يخص الجوائز والتقديرات، حدث ذلك عندما فاز فيلمه «انفصال – A separation» بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي وبكل جائزة مخصصة للفئة في عام 2011، ثبَّت فرهادي اسمه بحرص عن طريق اتباع تيمات محددة ومتكررة، لكنها تأتي طازجة في كل مرة، وصنعت شهرته سمعة جديدة للسينما الإيرانية وسط جمهور أوسع من الجمهور السينمائي المتخصص الذي يعلم طبيعة تلك الصناعة وروادها من قبل فرهادي، لكنه ساهم في جعلها أكثر شعبية. ساهم في ذلك شغف أمريكا ومثيلاتها من دول العالم الأول بالقصص الآتية من قلب المعاناة المجتمعية القادمة مما يسمونه العالم الثالث، القصص التي تصنع رغم أنف حكوماتها وتأتي من بلدان لا ترحب كثيرًا بالفن.
ذلك التعالي الأخلاقي والاحتضان الفوقي وكون أفلام فرهادي مسلية وممتعة على الرغم من ثقل موضوعاتها ساهم كذلك في خروجه من دائرة مجتمعه واقتران أفلامها بشركات إنتاجية واستوديوهات هوليوودية ضخمة، فصنع عدة أفلام بلغات غير لغته الأم مع ممثلين ذوي أسماء كبيرة، أمثال بينلوبي كروز وخافيير بارديم، مما أطفأ لمعان اسمه لعدة سنوات بسبب بعده عما يعرفه، وكون تلك التجارب محبطة بالنسبة إلى جمهوره، لكنه عاد مرة أخرى لما يعرفه جيدًا في عام 2021 وصنع فيلمًا يستدعي أفلامه الأولى المتسببة في نجاحه بعنوان بطل «قهرمان – A hero»، وعلى الرغم من عودته لأرضه ولغته إلا أن الفيلم وزع من قبل استوديوهات أمازون الأمريكية، فاز الفيلم بجائزة لجنة التحكيم الكبرى من مهرجان كان، ورشح لجائزة الجولدن جلوب لأفضل فيلم أجنبي.
ما الذي يجعل البطل بطلًا؟
عادة ما توصف أفلام أصغر فرهادي «بالمعضلات الأخلاقية»، فهو يضع شخصياته بين خيارات خانقة وظروف تصعب وصف تصرفاتهم بالخيارات أصلًا، وغالبًا ما يضعنا نحن كمشاهدين حكَمًا على تلك التصرفات، التي غالبًا ما تقدم في هيئة ثنائيات يصعب الجزم بصحة أي منها، تبني أفلامه عقدة تبدأ صغيرة وتأخذ في النمو والتشابك أكثر فأكثر كلما ظهر عنصر جديد أو شخصية جديدة، وعلى الرغم من بساطة الافتراضات المتناولة وعدد الشخصيات وأماكن التصوير بل صغر المقياس الذي تقع فيه الأحداث، إلا أنها قصص ملحمية، غالبًا ما تكون تلك العقد وتلك المعضلات في سياق أسرة أو عدة أفراد في حي محدد، فهي مشكلات لن تغير العالم للأفضل أو للأسوأ، بل ستغير أبطالها للأبد، كل قصة هي عالم صغير، وكل شخصية هي بطلة ذلك العالم حسب المنظور الذي تراها منه.
يعنون فرهادي فيلمه الأخير «بطل» غير معرفة «بطل» وليس «البطل»، ربما لتأطير المقياس الميكروسكوبي التذي تقع فيه الأحداث، يبلور فرهادي كل أفكاره السابقة ويكثفها في شخصية رحيم «أمير جديدي»، رحيم شاب متعذر ماديًّا يقضي عقوبة في السجن بسبب ديون تراكمت عليه، مطلق ولديه ابن يعاني صعوبات في النطق يعيش الطفل حاليًّا مع عمته أخت رحيم وزوجها، رحيم ملتزم بعقوبته ويعامل جيدًا من قبل زملائه وسجانيه في مقر حبسه، وعندما يطلق سراحه عدة أيام يعامله جيرانه وأقرباؤه بلطف، فالجميع يعلم أن ما يمر به اضطراري، في حياته خارج القضبان يملك رحيم حبيبة تنتظره، نرى كيف يعاملان بعضهما بعضًا برقة لكن بحذر، تبدأ عقدة الفيلم في التكون عندما تعرض حبيبته فارخوندة (سحر جولدوست) عليه المساعدة عن طريق بيع عملات ذهبية وجدتها ملقاة في الطريق، يظن كلاهما أن تلك معجزة إلهية حتى يتعذر بيعها ويرفض الرجل صاحب الدين أن يرضى بثمن تلك العملات كترضية مبدئية، فيقرر الشاب بمروءة مقترنة بفقدان أمل أن يبلغ عن عملات مفقودة.
يجعله ذلك التصرف بطلًا في نطاق حياته الصغيرة، داخل السجن، في حيه السكني بين جيرانه وأسرته، فهو الآن مثال للمواطن الشريف الذي حتى عندما تتأزم به الحياة ماديًّا لا يفشل في فعل ما هو صحيح، نتبنى مع رحيم ومن حوله سردية البطولة تلك حتى يبدأ الرأي الآخر في الظهور، فبعد كل شيء هناك الرجل الذي يدين له رحيم بالأموال، وهو حتى إن تسبب في سجنه يملك الحق في ذلك، فلقد خسر الكثير هو أيضًا، ومثل رحيم يملك أسرة لكي يعتني بها، تبدأ وجهات النظر في التداخل والتبدل وتتعقد الأحداث أكثر عندما تتوسع دائرة المعرفة، نعرف أن مسئولي السجن اللطفاء الذين يغدقون رحيم بالتكريمات وجمع التبرعات تسببوا في سوء معاملة أدى إلى حالة انتحار داخل أحد العنابر، كما أن سردية البطولة يتم التشكيك فيها لأن رحيم أغفل بعض التفاصيل المحورية في روايته، كما أضاف تفاصيل ليست حقيقية تبدأ في الظهور حينما تظهر صاحبة العملات الذهبية، ما يجعل “بطل” معضلة أخلاقية مربكة، مقنعة ومميزة، هو التحديد الدقيق لتفاصيل مكان وزمان وقوع الأحداث، فالتعقيدات لن تكون نفسها إذا صنع فرهادي فيلمه في أي مكان أو زمان آخر.
لأنه يحدث هنا والآن
في الفيلم الذي حصد عنه فرهادي أوسكاره الثانية عام 2016 «البائع – the salesman» كان من الممكن أن تكون الأمور أقل تعقيدًا لولا حدوثها في ذلك المكان المحدد مجتمعيًّا لهؤلاء الناس تحديدًا، إذا كانت الحكومة الإيرانية أكثر تصالحًا مع النساء وحياتهن الخاصة ربما كانت ستحل المعضلة بالذهاب إلى الشرطة، لكن ذلك ليس خيارًا صالحًا دون عواقب ربما تؤدي للموت، في «بطل» العائق ليس بنفس الحجم ولا القسوة، لكن التفاصيل المحددة الصغيرة هي ما تحول دون سير الأحداث بسلاسة، هي ما يجعل الخوف هو العامل الأول في اتخاذ القرارات والتلفظ بالأشياء، إذا كان من الآمن أن يكون لرحيم حبيبة ينوي الزواج منها، ربما لم يكن ليكذب كذبة صغيرة تهدم روايته وتشكك في بطولته الهشة من الأساس، تبنى العقدة على تفاصيل ربما ستكون بسيطة في أي مكان آخر، عناصر لن تصنع مشكلات في مجتمعات أخرى، لكنها مسألة محورية هنا والآن.
تلك المعرفة بدقائق الأمور هو ما يجعل فيلم فرهادي الأخير تجربة مشاهدة مثيرة وحزينة في آن، وفي الوقت نفسه لا يتم استخدام تلك المعرفة لاستدرار عطف الرجل الأبيض المتعاطف مع مآسي الآخرين، بل يتم تقديمها كوقائع الأشياء، تتحايل الشخصيات على الممنوعات بدقة تنجح حينًا وتفشل حينًا، لا يتم الحكم عليهم أو التقليل من شأنهم لأنهم ليسوا أجرأ أو أكثر تمردًا، هم مجرد أشخاص يحلمون أن تمر الأيام بسلاسة، أن يتزوجون ممن يحبون ويبدءُوا حيوات جديدة، وأن يجنوا أموالًا كافية للحفاظ على أسرهم، لكن تلك الأماني الصغيرة تتحول إلى قضايا شائكة حينما تصبح عامة ومرئية، وما يجعلها كذلك هو دخول عناصر جديدة على الحياة اليومية، مثل مواقع التواصل الاجتماعي ووجود عناصر يمكن الآن اعتبارها قديمة مثل البرامج التلفزيونية.
يغزل «بطل» بدقة عملية صناعة السرديات والبروباجندا عن طريق الوسائط البصرية التي تعتبر السينما إحداها، لكن في سياق العوالم الصغيرة، تصنع إدارة السجن سرديتها الخاصة عن طريق ضغط بسيط على رحيم لكي يلمع صورتها في لقاء تلفزيوني، وتساهم عمليات التصوير الفردية في خلق ضغوطات جديدة وطرق للابتزاز، يساهم رحيم في خلق الأسطورة التي تحيط به كبطل، وفي لحظة يكاد يورط ابنه سيفاتش (صالح كريمي) -الذي يؤدي الدور ببراعة وطبيعية مؤلمة – في صناعة سردية ترسخ لمأساوية حياته واستحقاقه للتعاطف، وذلك يعكس بشكل أو بآخر أساليب صناعة البروباجندا السينمائية التي تستغلها دول العالم الأول لخلق وهم احتواء للآخرين.
يستخدم فرهادي تلك الوسائط الجديد منها والقديم لتضييق النطاق على أبطاله، لإخراج أسوأ ما فيهم والضغط عليهم أخلاقيًّا، ولصناعة عوالم موازية للأحكام الأخلاقية، تنتشر القصة أسرع على مواقع التواصل الاجتماعي فتصبح في مجال عام لإطلاق الأحكام والآراء الفردية والوصم المجتمعي، يتحدانا فرهادي أن نتصور لأنفسنا تصرفات أكثر حكمة لو كنا في مكان أبطاله، ويستخدم معرفته السينمائية ليدمج الوسائط الأكثر آنية بتاريخ السينما، فيحيل إلى أحد أكثر الأفلام الاجتماعية خلودًا، في تناوله لخط الأب والابن يستدعي فيلم «سارقي الدراجات – bicycle thieves 1943» لـ «فيتوريو دي سيكا»، وهو أحد أشهر أفلام موجة الواقعية الإيطالية الجديدة، فيلم فرهادي ليس ذا إنتاج صغير مثل فيلم دي سيكا، لكنه يقتبس جماليات الواقعية الإيطالية والتأثير العاطفي لرؤية أب يحارب من أجل ابنه في عالم لا يرحم، لكنه لا يتوانى عن استغلاله إن استطاع.
ربما يكون «بطل» أحد أكثر أفلام فرهادي تشاؤمًا، لكنه أحد أكثرها إثارة، فهو يعمل كفيلم «thriller» بجانب تناوله الجدي لقضاياه الاجتماعية الداخلية ودراسته للنفس الإنسانية تحت الضغط، كما يمكن اعتباره أحد أكثر أفلامه رمادية فيما يخص الثنائيات الأخلاقية، يقدم «بطل» تجربة سينمائية صغيرة على قدر كونها ملحمية في أعوام تندر فيها رؤية قصص لن تغير العالم، لكنها بالطبع تغير كيف ننظر إليه.