فيلم «A Fantastic woman»: امرأة رائعة تحلق فوق الجميع
هكذا يضعنا المخرج التشيلياني «سيباستيان ليليو» بكثير من التجريد أمام الجوهر العاطفي البسيط لفيلمه «امرأة رائعة A Fantastic woman»،الحائز موخراً علي جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي، حيث امرأة تواجه فقد حبيبها الذي مات فجأة بين ذراعيها. لماذا اذا تنفتح أبواب الجحيم أمامها؟!
يحكي سيباستيان ليليو في فيلمه الخامس حكاية مارينا (دانييلا فيغا)، نادلة في مطعم ومغنية في ناد ليلي، وعلاقتها العاطفية برجل خمسيني وصاحب مصنع نسيج يدعي أورلاندو (فرنسيسكو رييس). يتبين لنا أن ماريا هي رجل تحول جنسياً لامرأة. بعد الموت المفاجئ لحبيبها أورلاندو تصبح هويتها ووجودها بأكمله قيد الشك والمحاكمة.
الشرطة تعامل مارينا كمشتبه بها في قتل أورلاندو وتتعمد القسوة والامتهان معها بسبب هويتها الجنسية، وعائلة أورلاندو يواجهونها بعدائية شديدة، يرونها كمسخ أو كانحراف في الطبيعة البشرية حيث تقول لها زوجة أورلاندو السابقة التي تركها من أجل مارينا: «حين أنظر إليك لا أدرك كنه ما أرى».
رغم إغواء مثل هذه المواقف بالجنوح نحو الميلودراما إلا أن المخرج يذهب إلى حد بعيد في التعامل مع المادة العاطفية المتاحة دون إفراط، بل يميل دائماً إلى الاقتصاد في التعبير عن انفعالات بطلته، فرغم الزلزال الذي يضربها في الأعماق تحافظ مارينا دائماً على طبعها الهادئ وثباتها مما يجعل لفتاتها،ايماءاتها ونظراتها تكتسي طابعاً جليلاً.
لا يضعنا سيباستتيان ليليو منذ البداية في مواجهة مع جنسانية مارينا (هويتها وماضيها الجندري) بل يفتتح فيلمه بلقطات لشلالات ايغواسو (حيث كان من المفترض أن تكون العطلة المنتظرة، هدية أورلاندو لمارينا في عيد ميلادها). هذه الافتتاحية تلقي بنا في حضن ما هو طبيعي. كذلك يبدأ فيلمه والعلاقة بين مارينا وأورلاندو في ذروة الانسجام والتناغم، كل شيء طبيعي وهادئ وكأنه الهدوء الذي يسبق العاصفة. هذا يورطك عاطفياً مع بطلته ويحعلك تتساءل حين تتكشف الأزمة عن معنى أن تكون طبيعياً في مجتمع كهذا خرج منذ ما يزيد على ربع قرن من الزمن من ديكتاتورية بينوشيه لكنه لا يزال يتعامل مع كل ما هو مختلف بهذا القدر من العدوان والتسلط. جسد مارينا الممتهن يعري زيف هذا المجتمع، حيث المهمشون والخارجون على تقاليده يتموقعون خارج المسلسل الديمقراطي.
تنتمي دراما «امرأة رائعة» لما يسمى دراما الشخصية. في هذه النوعية من الدراما تكون المواقف، الشخصيات الأخرى والتفاصيل وسيلة لرسم بورتريه للبطل/الشخصية الرئيسية. كل حدث أو تفصيلة ليسا سوى ضربة فرشاة في صورته الكاملة. يمزج ليليو في بورتريه مارينا بين ما هو خارجي وما هو داخلي، وبين ما هو واقعي وما هو فائق أو سحري.
جسدها الذي يحمل بصمة ماضيه الجندري كما لو كان من حياة سابقة بينما يحتضن هويته الجديدة بفخر. ينجح ليليو في تأطير وحدتها والعزلة المفروضة عليها إذ يرصدها دائماً تسير وحيدة في شوارع خالية أو ردهات فارغة. كما يوظف ليليو المرايا ببراعة ليعكس أزمة بطلته الداخلية وصورتها المهتزة، المزدوجة أو المشوهة في مرايا الآخر. هذا الاهتزاز الذي يصاحب صورتها في المرايا يعكس لا يقينية الذات من هويتها.
في بعض المشاهد يبدو ليليو كما لو كان ينحت داخل بطلته علي الشاشة حيث تسير مارينا وحيدة في شارع طويل وسط رياح تعصف بالأشياء بينما يقاوم جسدها المثقل بالآلام والخيبات السقوط والانكسار. في مشهد آخر يجعلها تحلق نحو سماء الكادر وتنظر لنا مباشرة عبر عين الكاميرا كامرأة تسمو فوق ألمها الداخلي وتواجه قسوة العالم ببطولة نادرة.
حضور طاغ لدانييلا فيغا، تتلاشى هنا الحدود الفاصلة بين الممثلة والشخصية التي تؤديها فدانييلا هي الأخرى متحولة جنسياً، متدربة على الغناء الأوبرالي وشكلت إلهاماً كبيراً للمخرج في كتابة شخصية مارينا. جسدها الملتبس ووجها المعبر القادر على التعبير عن أدق انفعالاتها منحا الشخصية عمقاً وصدقاً نادرين وأسهما في دفع النص إلى حدوده القصوى.
ثلاثية تضع المرأة المنبوذة والمهمشة في مركز العالم
يرى سيباستيان ليليو في فيلمه «امرأة رائعة» وفيلميه السابقين «جلوريا» والتالي «Disobedience»، ثلاثية تضع المرأة المنبوذة والمهمشة في مركز العالم. هناك في قلب كل فيلم من أفلامه الثلاثة امرأة تواجه مجتمعاً ضاغطاً وقاهراً في سياقات مختلفة. في فيلمه «جلوريا»نجده يقدم بورتريهاً مثيراً لجلوريا، مطلقة خمسينية تواجه الجميع برغبتها في الحب والحياة وممارسة حريتها تلقي التهميش الاجتماعي عينه الذي تواجهه مارينا هنا وإن كان على نحو أقل وطأة.
وفي فيلمه «Disobedience»، أول أفلامه الناطقة بالإنجليزية، يحكي ليليو قصة حب بين امرأتين تواجهان قمعاً دينياً وذكورية متطرفة في مجتمع من اليهود المتشددين شمال لندن. ثلاثية تشترك في تيمات البحث عن الهوية، الشوق إلى الحب ومعانقة الحياة بكامل تعقيدها.
هذا حوار يدور بين مارينا ومدرب الغناء الخاص بها والتي تعتبره كأب روحي لها. حين نرى مارينا في المشهد الختامي تقف شامخة على المسرح تغني بصوت مشروخ بالحزن ندرك أن هذه المرأة المعذبة والوحيدة قد صارت صوتاً للحب، صوتاً يحلق خفيفاً وأثيرياً فوق كل شيء.