فيلم «A Bronx Tale»: في مديح الرجل العادي
يقول عالم النفس «سيجموند فرويد»:
وذلك لأن وفاة الأب تُجبِر المرء على مواجهة العالم وحده كما ينبغي، دون وجود حائط للالتجاء إليه وقت الحاجة، ولا مصدر قوة يركض ناحيته حين يتخذ قراراً خاطئاً. وفاة الأب تضع المرء وجهاً لوجه أمام كل ما يخشى الاقتراب منه، كل ما يتمنى تجنبه، كل ما يرتعب من حدوثه أو حتى التفكير به. وتلك المواجهة الإجبارية هي ما تجعل المرء رجلاً حقيقياً من وجهة نظر فرويد.
بعدها بعدة سنوات جاء عالم النفس «كارل يونج» ليضيف لنظرية فرويد، حين قال يونج: إن وفاة الأب من الممكن أن تحدث أيضاً بشكل رمزي، حينما يدرك المرء أنه سواء بوجود أبيه أو عدمه، فهو وحيد في اختيارات حياته. لا أحد يعرف الأفضل له سوى هو نفسه، وذلك هو تعريف فترة الرشد في حياة الانسان: على الرغم من عدد من يعرفونك ويعرفون عن حياتك، فلا أحد يعرف حياتك نفسها سواك أنت، وبالتبعية لا أحد يعرف الأفضل لك أكثر منك.
ذلك الموت الرمزي للأب هو بالضبط ما يحدث في فيلم «A Bronx Tale»، خصوصاً أن الفيلم لا يكتفي بتلك الظاهرة، بل يتبعها بالبعث الرمزي للأب في عيون ابنه من جديد.
بطولة وشراكة
من بين قرابة 120 فيلماً شارك فيها الممثل الأسطوري روبرت دي نيرو، فإن فيلم «A Bronx Tale» هو الفيلم الوحيد الذي أهداه دي نيرو لوالده «روبرت دي نيرو سينيور». والجدير بالذكر أن دي نيرو لم يشارك في البطولة وحسب، بل إنه هو من قام بإخراج الفيلم بمساعدة من زميله «تشاز بالمينتري».
تشاز بالمينتري (مؤلف الفيلم) هو من قام بدور «سوني» رجل العصابات، كما أن قصة الفيلم مقتبسة من سيرته الذاتية بعد أن رفض كثيراً من العروض المليونية لتحويلها إلى فيلم سينمائي، مشترطاً أن يقوم هو بكتابة السيناريو وأن يقوم بدور «سوني» بنفسه.
وبالطبع رفضت كل شركات الإنتاج شروط بالمينتري، الذي لم يكن من نجوم شباك التذاكر حينها. حتى جاءت اللحظة التي عرض عليه دينيرو إنتاج الفيلم بشراكة 50-50، مع تحقق شروط بالمينتري وإخراج دينيرو للفيلم ومشاركته في البطولة، حتى إن عقد الشراكة بينهما كان مبنياً على مصافحة اليدين.
تقع أحداث الفيلم أثناء فترة الستينيات في حي إيطالي- أمريكي، وتدور الأحداث حول لورينزو سائق الأتوبيس البسيط (دي نيرو) الذي يحاول إنقاذ ابنه كالوجيرو أثناء طفولته ومراهقته من أن ينضم لعصابة المجرم سوني (بالمينتري)، الذي يحظى بالاحترام والرهبة من جميع سكان الحي.
تحول مفاجئ
تبدأ أحداث الفيلم عندما يشهد الطفل كالوجيرو جريمة قتل أمام منزله، ارتكبها سوني للدفاع عن أحد أصدقائه. يهرع كل من في الحي خوفاً من غضب سوني وتختنق الأنفاس حتى تأتي الشرطة لتستدعي الطفل كالوجيرو للشهادة.
يصطف كل أفراد عصابة سوني أمام حانة الحي وسوني في آخر الصف، يمسك الشرطي بيد الطفل كالوجيرو ويطلب منه التعرف على القاتل.
رغم مقاومة الأب لوينزو، يصر الشرطي على موقفه ويجبر الطفل كالوجيرو على البحث عن القاتل من بين المشتبه بهم. يسير كالوجيرو على مهل ويتأمل وجوه المصطفين أمامه ثم يهز رأسه بالنفي بعد كل فرد يعبر أمامه، يستمر التوتر حتى يصل لذروته بوصول الطفل كالوجيرو إلى سوني.
يقف أمامه مطولاً، يتأمل وجهه في صمت، يستعيد أحداث الجريمة في ذهنه. ثم في تصرف مفاجئ يهز رأسه بالنفي أمام سوني ليعلن أنه ليس القاتل، ويُبرِّيء زعيم العصابة.
يبتسم سوني للطفل، يعبس الشرطي ويأمر الجميع بالانصراف، ثم يستفرد الأب لورينزو بطفله ليخبره أنه قام بتصرف جيد لرجل شرير، وحينما يستفسر كالوجيرو عن معنى هذا، يجيبه الأب بالجملة التي ستظل عالقة في رأسه طوال الفيلم:
ومن هنا يبدأ صراع وتشتت الطفل كالوجيرو، يدفعه فضوله للتردد على الحانة التي يتسكع بها سوني أكثر من مرة، وبسبب ذلك تنشأ علاقة بينه وبين سوني زعيم عصابة الحي، الذي يضعه تحت جناحه ويعامله معاملة الأب لابنه.
مراهقة مبكرة
الصراع الناشئ في نفسية الطفل كالوجيرو يتعرض له كل المراهقين تقريباً، عندما يلحظون الفارق بين ما تربوا عليه في بيوتهم وما يرون حولهم في الشارع. تدريجياً يكتشف كالوجيرو أن معظم تعاليم أبيه خطأ، بل بلفظ أدق «غير مناسبة للعيش في العالم الحقيقي»، حيث أبوه الموظف العادي يعمل سائق حافلة نقل عام ويتقاضى «الملاليم»، بينما سوني- الذي يفهم كيف يعمل العالم- يحظى باحترام ورهبة الجميع في الحي، أثناء ما يعيش في ثراء متخم دون أن يعمل يوماً في حياته.
يزداد تأثير سوني على الطفل كالوجيرو ليحوله من طفل إلى بالغ في فترة قصيرة. يخبره كاليجرو عن حزنه لخسارة فريقه المفضل «اليانكيس»، وحزنه المضاعف عندما رأى لاعبه المفضل «ميكي مانتل» يبكي.
يخرجه سوني من أوهام الطفولة مبكراً قائلاً:
ومنذ ذلك اليوم، يتغير شعور الطفل كاليجرو نحو فريق اليانكيس للأبد، لا فقط يتوقف عن التشجيع بتعصب، بل إنه أيضاً يتخلص من بطاقات البيسبول خاصته، بحجة أن هؤلاء اللاعبين لا يكترثون بنا فلماذا نكترث بهم!
وبمرور السنين تزداد مكانة سوني في عين كاليجرو أكثر، ليصبح أباه الثاني الذي يعلم كيف يعيش في العالم الحقيقي، ويعلم كيف يسلك الطرق المختصرة للوصول إلى ما يريد دون أن يهبأ بالقواعد. بينما تنخفض مكانة الأب لورنزو في عين ابنه، ومعه مكانة الرجل العادي الذي يتعب كثيراً ولا يجني سوى القليل، يفعل ما يُطلب منه ويمشي بجوار الحائط أو داخله إذا تطلب الأمر لتجنب المشكلات وإطعام أهل بيته في سلام.
وهنا يحدث الموت الرمزي للأب الذي قصده يونج، لكنه يتم بشكل مختلف. فالابن بدلاً من أن يختار استقلاليته عن الاب ويبدأ في شق طريقه بنفسه، فإنه يلجأ الى حيلة نفسية دفاعية مشهورة، وهي اختيار بديل رمزي للأب، وتلك الحيلة هي التي يلجأ لها الشباب المراهق حين ينضمون إلى أي نوع من العصابات، فذلك البديل الرمزي للأب يوفر لهم حماية من العالم الخارجي ويمدهم بإحساس مزيف بالأمان، وفي المقابل يجني منهم سلطة غير محدودة وطاعة لا حدود لها.
وعلى الرغم من أن كاليجرو لا ينضم لعصابة سوني بشكل فعلي، فإن انبهاره بسوني واستحقاره للرجل العادي يزداد مع السنين، حتى يأتي اليوم الذي يكتشف فيه الحقيقة المرة في نهاية الفيلم.
الوجه الآخر للمافيا الإيطالية
إذا شاهدت أي عمل فني له علاقة بالمافيا الإيطالية قبل فيلم «A Bronx Tale»، بداية من «The Godfather» ووصولاً إلى Goodfellas، وبقية أعمال المخرج مارتن سكورسيزي، فستلاحظ أن صورة رجل العصابات لا تتغير كثيراً في كل تلك الاعمال، أما سوني فقد كان يقدم وجهاً آخر لرجل المافيا المثقف الذي يظن أن العنف ليس دائماً الحل.
يتجلى ذلك في المشهد الذي يحكي فيه سوني لكالوجيرو المراهق عن الفترة التي قضاها في السجن قائلاً:
وبعدها يشرح سوني استراتيجيته في إدارة الحي معتمداً على نظرية الإتاحة التي وضعها ميكافيلي في كتابه «الأمير»، بل وأيضاً يقتبس من ميكافيلي أكثر من مرة دون ذكر المصدر فيقول:
ولعل هذه الصورة المختلفة لرجل العصابات هي التي جعلت من سوني بديلاً رمزياً مناسباً للأب العادي المتخاذل في نظر ابنه.
حقيقة الرجل العادي
رغم أن الفيلم يمتد لقرابة الساعتين، فإن مشهدين فقط هما ما جمعا بين دي نيرو وبالمينتري، أحدهما يمتد لـ30 ثانية فقط، والآخر يمكنه أن يُلخص الفيلم بأكمله.
يكتشف الأب (دينيرو) أن ابنه يُخبِّئ الكثير من الأموال خلف سريره، وعندما يواجه الطفل كالوجيروـ يعترف بأنه جنى المال من العمل بالحانة ومساعدة سوني.
يغضب الأب، يعتصر ساعد طفله ويصطحبه للحانة حيث يجلس رجل العصابات سوني مع رفاقه. وبجرأة غير معتادة على سائق الحافلة الذي اعتاد أن يبقي رأسه منخفضاً، يصرخ في وجه سوني أمام أفراد عصابته، ويأمره بلهجة مُهددة بالابتعاد عن ابنه.
موقف يتعجّب منه سوني وعصابته بل والمشاهدون أيضاً، من أين أتى الرجل العادي بمثل هذه الشجاعة ليواجه أخطر رجل في الحي؟
يحتد الجدال بين سوني ولورينزو، يرفع لورينزو صوته ليفسر موقفه قائلاً:
وهنا تظهر أبرز سمات الرجل العادي، على الرغم من كونه مسالماً طيلة الوقت، يتجنب المشكلات دائماً ويختار الطريق الأقل إثارة للانتباه، يفعل ما يُؤمر ولا يعارض القواعد أبداً. إلا أنه ينتفض حين يتعلق الأمر بعائلته، حتى لو تطلّب الأمر الوقوف في وجه أخطر رجل عصابات في الحي.
يشرح لورينزو الفارق لابنه قائلاً:
رجل أقل من العادي
ومع ذكر الرجل العادي أو الأقل من العادي، يقفز إلى أذهاننا شخصية الكارتون التلفزيونية «هومر سيمبسون» من مسلسل الرسوم المتحركة The Simpsons، فشخصية هومر يمكننا أن نقول إنها أقل من عادية، فهومر ذو ذكاء محدود، كسول لدرجة البلادة، يعمل في وظيفة لا يفهمها ولا يفقه بها شيئاً، يُعيل أسرة مكونة من زوجة وولد وبنتين، وكلهم يعلمون كم يفتقد للكفاءة، وكم هو غير قادر على القيام بأبسط المهام التي تتطلب قدراً من التفكير العقلاني أو الحد الأدنى من الحكمة وبُعد النظر.
وعلى الرغم من كل هذا، ينجح هومر في تكوين عائلة سعيدة لا يحظى بها معظم الاذكياء، بل أيضاً يحظى بحب الجميع، بداية من زملائه في العمل، حتى أصدقاء الحانة السُكارى والضائعين. وميزة هومر الوحيدة التي تمنعه من الاستسلام للفشل الذي يغمره في كل حلقات المسلسل تقريباً، التي أيضاً تقف عائقاً بينه وبين الرضوخ للمشاعر السلبية والصدمات النفسية، هو أنه رجل عائلة.
في كل حلقات المسلسل تقريباً، كلما وقع هومر في مأزق لا يخرج منه سوى بتحليه بالمسئولية ناحية عائلته، بجعل كل حياته تصب في مصلحة أبنائه والاعتناء بهم، هذا ما يعطي لحياته المعنى، وهذا أيضاً هو سر قوة الرجل العادي.
العداء تجاه الرجل العادي
وهنا نأتي للسؤال الأهم: إن كان الرجل العادي بهذا النبل وهذه القدرة على تحمل المسئولية، شجاعاً حين الضرورة، ومقداماً في الأزمات، فلماذا نسمع كل هذا الذم المتواصل للرجل العادي والتحذير دائماً من أن نكون مثله؟
البعض يُرجع الأمر للبروباجندا الحديثة التي تُخاطِب المستهلك العادي لجعله يشعر بأنه أكثر من عادي. لإقناعه بأنه مُميّز، أنه يمكنه تحقيق أي شيء وكل شيء، بأن عليه أن يُحقِّق إنجازات كبيرة ليثبت ذاته ويخرج من عباءة الرجل العادي، أن عليه أن يكون مليونيراً، نجماً سينمائياً، مغنياً ساطعاً أو حتى رئيس مجلس إدارة شركة تنتمي لـFortune 500.
وبالطبع كل هذه الطموحات المُبالغ بها تصب في مصلحة عجلة الاستهلاك التي تستفيد منها الشركات الكبرى، التي تتغذى على مخاوف الناس في أن يكونوا عاديين، التي تتبع استراتيجية البيع التي قال عنها المؤلف الأمريكي «دونالد ميلر»:
على الجانب الآخر، يعتقد كثير من علماء النفس أنه لا ضرورة لعداء الرجل العادي، فهو ضروري لقيام كل مجتمع. وبينما تكون خطورته محدودة وهو وحده، يتضاعف الخطر الذي يمثله عندما يتحد مع أمثاله من العاديين، ليُكوّنوا في النهاية حشداً من الجماهير.
وكما يقول المؤرخ الفرنسي «غوستاف لوبون» في كتابه «سيكولوجية الجماهير»، فإن خطورة الرجل العادي تكمن في سهولة انصهاره مع الجماهير وخضوعه لهم، إضافة إلى سهولة التأثير عليه من قبل القادة الديكتاتوريين أمثال هتلر وموسوليني، وانقياده لهم دون تفكير. وذلك ليس لأن الرجل العادي غبياً أو غير قادر على التفكير بنفسه، لكن لأن الرجل العادي ليس من أولوياته تكوين آراء فردية تجاه المجتمع والسياسة والفن، ولذلك من السهل انجرافه مع التيار وضياع صوته وسط هتاف الأغلبية. وتلك هي آفة الرجل العادي الأخطر.
موهبة ضائعة
أليس غريباً أن يكون الفيلم عن مديح الرجل العادي وفي نفس الوقت تكون النصيحة المتكررة من الرجل العادي هي:
ألا يريد الرجل العادي لابنه أن يكون عادياً مثله؟ لماذا تكون هذه هي النصيحة الأكثر تكراراً في الفيلم من لورينزو سائق الحافلة الذي لا يُظهر الفيلم لديه أي موهبة مثيرة للاهتمام؟
ربما كان الغرض من ذلك هو إبراز الجانب الآخر من الرجل العادي قبل أن يصبح عادياً، حين كانت لديه أحلام وطموحات، حين كان لديه مواهب وقدرات لم تتح له الفرصة لتنميتها أو السعي خلفها. لم يتمن أحد وهو صغير أن يكبر ويصبح سائقاً لحافلة نقل عام أو ساعي بريد أو نادل في مقهى (مع الاحترام لكل هذه المهن الضرورية)، بالطبع كان لكل منهم أحلام مغايرة؛ إمّا تخلّوا عنها بإرادتهم أو اضطرتهم الحياة لتجاهلها مع مرور الوقت لتوفير لقمة العيش وكسب حياة كريمة.
ربما كانت رسالة الفيلم خلال كل ذلك: احترم الرجل العادي وتفهم ظروفه، تعلم منه تحمل المسئولية والالتزام بها، وفي نفس الوقت ابحث عن موهبتك ولا تتركها تتضيع، ولو أُتيحت لك الفرصة ألا تكون عادياً، فلا تتردد في اقتناصها، منْ يريد أن يكون عادياً بحق السماء؟!
قود اختار صُنّاع الفيلم أن يختموه بمقولة كاليجرو الابن، الذي قام بدوره الممثل الشاب «ليلو برانكاتو»، الذي بالمصادفة عاد بعد قرابة 15 عاماً ليمثل في 2018 بفيلم وثائقي يُسمى Wasted Talent (موهبة ضائعة)، يتحدث عن ممثلين ذوي موهبة في التمثيل، وكان ليصبح لهم شأن في هوليوود لولا أن ضيّعوا موهبتهم.
يقول كاليجرو في المشهد للختامي لفيلمنا: