مدخل مختصر لفهم «الوهابية»
بين من يراها حركة دينية إصلاحية، عملت على تطهير مفهوم التوحيد في الإسلام، ومن يراها حركة مارقة متطرفة، انقسمت الآراء تاريخيًا في العالم الإسلامي حول الوهابية، وظلت كذلك حتى يومنا هذا.
بعد انطلاقها من نجد في قلب شبه الجزيرة العربية في القرن الثامن عشر الميلادي، عملت الحركة الوهابية مع مرور الزمن على تغيير أنماط التدين في العالم العربي والإسلامي ودفعها نحو السلفية بعيدًا عن الأشعرية والتصوف اللذين كانا مهيمنين فيما سبق.
تواجه الوهابية اليوم تحديات صعبة للبقاء والتكيف في ظل السياسات الجديدة التي يتبناها ولي عهد المملكة العربية السعودية محمد بن سلمان، ربما تؤدي بنهاية المطاف إلى تغيير ملامح وهوية تلك الحركة، فقبل أن تتحول تلك الحركة إلى شيء جديد لا يُعرف كنهه وتنقطع تاريخيًا عن منابتها وأصولها الأولى، دعونا نسرد من جديد قصة نشأة الوهابية.
من هو محمد بن عبد الوهاب؟
ولد محمد بن عبد الوهاب في بلدة العيينة شمال غربي الرياض بمنطقة نجد في عام 1115 هجرية الموافق 1703 ميلادية ونشأ بها، والده هو عبد الوهاب بن سليمان من علماء نجد وقضاتها حيث تولى القضاء في بلدتي العيينة وحريملاء، وجده كذلك سليمان بن علي كان من كبار علماء نجد.
تلقى ابن عبد الوهاب العلم في البداية على يد والده الذي درّسه الفقه الحنبلي، ثم قام بعد ذلك بالارتحال طلبًا لمزيد العلم، فاتجه بعد ذهابه للحج في مكة المكرمة إلى المدينة المنورة ليتلقى العلوم على يد عدد من المشايخ كالشيخ عبد الله بن سيف النجدي والشيخ محمد بن حياة السندي. ذهب ابن عبد الوهاب بعد ذلك إلى البصرة ليتلقى العلم على يد الشيخ محمد المجموعي الذي درّسه النحو والحديث والفقه، وكان ابن عبد الوهاب ينتوي أن يقصد بعد ذلك الذهاب إلى الشام لولا أن نفقته ضاعت منه في الطريق وفق روايات، فقفل عائدًا إلى نجد مارًا بالأحساء التي نزل فيها على الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الشافعي، وأخذ عنه ابن عبد الوهاب علوم التفسير والحديث، وذلك بحسب ما ذكره تلميذه المؤرخ والفقيه المعروف حسين بن أبي بكر بن غنام.
بعد نهاية رحلته العلمية عاد ابن عبد الوهاب إلى حريملاء التي انتقل إليها والده بعد خلافه مع حاكم العيينة. عندما وصل ابن عبد الوهاب إلى حريملاء، بدأ الجهر بدعوته وإنكار الممارسات الصوفية السائدة وقتئذ كالتبرك بقبور الأولياء والصالحين، إلا أن والده منعه من ذلك خوفًا عليه، فوجه ابن عبد الوهاب جهده في ذلك الوقت لطلب العلم والتأليف، حيث ألّف في تلك المرحلة كتابه الشهير «التوحيد».
بعد وفاة والد ابن عبد الوهاب في عام 1153هـ الموافق 1740م، بدأ ابن عبد الوهاب الجهر بدعوته من جديد لكنه لم يلبث أن انتقل من حريملاء إلى العيينة مسقط رأسه بعد رد فعل أهل حريملاء تجاه دعوته؛ وهناك وجد دعمًا من حاكم البلدة في ذلك الوقت، وهنا المنعطف الذي تحولت خلاله الدعوة الوهابية من القول (الدعوة والأمر المعروف والنهي عن المنكر باللسان) إلى الفعل.
تمثلت مظاهر تأثير دعوة بن عبد الوهاب في ذلك الوقت في هدم القباب المقامة على القبور مثل قبر زيد بن الخطاب في الجبيلة ( إحدي قرى الدرعية) وقطع الأشجار التي كان يتبرك بها الكثيرين في العيينة و الدرعية.
تعرض حاكم العيينة لضغوط من حاكم الأحساء إثر تلك الممارسات وهدده بقطع راتبه السنوي إن لم يخرج بن عبد الوهاب من بلده، فأمر حاكم العيينة بن عبد الوهاب بالخروج إلى أي بلد يختار، فاختار الأخير الدرعية التي كانت في ذلك الوقت تحت حكم «محمد بن سعود»، وهناك جرى التحالف بين ابن عبد الوهاب وابن سعود الذي مهد لتأسيس الدولة السعودية الأولى بقيادة الأخير.
تاريخ الحركة الوهابية
بعد أن بايع محمد بن عبد الوهاب محمد بن سعود على السمع والطاعة، بايع الأخير ابن عبد الوهاب على نشر دعوته مشترطًا عليه شرطًا وحيدًا ألا وهو عدم معارضته للضرائب التي كان يفرضها على أهل الدرعية، وهو ما وافق عليه الأخير على رجاء أن تتوافر في مقبل الأيام مصادر مالية أخرى تغنيه عن ذلك.
نظر ابن عبد الوهاب إلى المسلمين في زمانه بحسب ما يظهر في اللغة التي استخدمها تلميذه ابن غنام مؤلف كتاب «تاريخ نجد» بأنهم مشركون بسبب الممارسات السائدة في ذلك الوقت كالتبرك بقبور وأضرحة الصالحين، وهو ما ترتب عليه إعلان ابن عبد الوهاب الجهاد ضدهم، فاندلعت سلسلة من المعارك في شبه الجزيرة العربية وما حولها، قُتل فيها الكثيرون ممن وصفهم ابن غنام بالمشركين.
أحد أبرز الأحداث التي جرت في هذا السياق بعد ذلك هي غزو كربلاء في العراق على يد ابن سعود وأتباع ابن عبد الوهاب، وبحسب أهم المصادر السعودية الوهابية نفسها ككتاب «عنوان المجد في تاريخ أهل نجد» لمؤلفه عثمان بن بشر قتل أتباع بن عبد الوهاب غالبية أهل تلك المدينة في البيوت والأسواق، واستولوا على ما تحتويه المدينة من ذهب وملابس وأمتعة، وهو ما تم استعراضه في تلك المصادر كمآثر تدعو للفخر.
في تلك الأثناء أعمل أتباع ابن عبد الوهاب وابن سعود السيف في أهل عُمان والبصرة والطائف وعربان البادية، فقتلوا الكثيرين وسلبوا الكثير من الأموال و الماشية، وكان هذا الاستحلال للدماء و الأموال مبررًا لديهم باعتبارهم كما تشير الأدبيات التاريخية للمؤرخين الوهابيين كابن غنام وابن بشر هم المسلمون حصرًا في مقابل باقي ساكنة شبه الجزيرة العربية والشام والعراق من «المشركين» على حد وصفهم حرفيًا.
بعد أن استشعرت الدولة العثمانية خطر الوهابيين وآل سعود الذين سيطروا على مكة والمدينة والكثير من أرجاء الجزيرة العربية، أمر السلطان العثماني مصطفي الرابع واليه على مصر محمد علي باشا بأن يبعث تجريدة إلى نجد، فبعث محمد علي ابنه إبراهيم باشا في حملة عسكرية إلى هناك انتهت بدخول الدرعية وتدميرها والقضاء على الدولة السعودية الأولى بعد أسر حاكمها عبد الله بن سعود الكبير واقتياده لاستانبول حيث تم تنفيذ حكم الإعدام فيه.
بعد سقوط الدولة السعودية الأولى، أسس تركي بن عبد الله بن محمد آل سعود الدولة السعودية الثانية، بعد تغيير مقر الحكم وانتقاله من الدرعية إلى الرياض، في تلك المرحلة والمراحل التالية من تاريخ حكم آل سعود تحالف آل الشيخ من أبناء وأحفاد محمد بن عبد الوهاب، مع آل سعود، وتم اقتسام السلطة بينهم فاستأثر آل سعود بالسلطة السياسية، واستحوذ آل الشيخ في المقابل على السلطة الدينية.
بعد توطد حكم آل سعود في شبه الجزيرة العربية توسعت الدعوة الوهابية وانتشرت انتشارًا واسعًا بشكل سلمي هذه المرة في العالم الإسلامي، وبتخفف كبير من الحمولة التكفيرية المغالية التي اتسمت بها في البداية، حيث امتدت إلى اليمن ومصر وشمال أفريقيا، والسودان وغرب أفريقيا والقرن الأفريقي، والهند وباكستان وإندونيسيا، وصولًا إلى كل بقعة من بقاع العالم الإسلامي تقريبًا.
أهم أفكارها
لا تعد الوهابية مذهبًا عقائديًا مستحدثًا في الإسلام، بل وينكر أتباع هذه الحركة استخدام مصطلح الوهابية بحد ذاته حيث ينظر الوهابيون إلى أنفسهم بوصفهم سلفيين من أهل السنة والجماعة، مع اقتصار مفهوم أهل السنة على السلفيين وحدهم دون الأشعرية والماتريدية وغيرها من المذاهب الكلامية الأخرى.
الوهابيون ولاسيما الأوائل منهم بوجه عام هم حنابلة في الفقه، وسلفيون في العقيدة متبعين في ذلك منهج ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية، ويحملون موقفًا مناوئًا بشدة ضد الشيعة و المتصوفة بوجه عام.
أهم أفكار الدعوة الوهابية على الإطلاق، هي توسيع نطاق مبدأ توحيد الألوهية في العقيدة الإسلامية للقضاء على كل مظاهر التبرك والتوسل بالنبي وآل البيت والأولياء الصالحين لدى المسلمين السنة من المتصوفة وسائر الشيعة على حد سواء، وما يتصل بذلك من بناء الأضرحة والقباب والمساجد فوق قبورهم، ويتفرع من تلك الفكرة الأساسية كل الأفكار والمباديء الأخرى التي تميزت بها الوهابية.
تعرضت الوهابية منذ نشأتها للكثير من المآخذ والانتقادات ولاسيما في موقفها التكفيري شديد الغلو ضد من يخالفهم من المسلمين، وما ترتب على ذلك من استحلال للأموال والدماء والأعراض، وأُلفت في ذلك الكثير من الأعمال من أبرزها الرسالة التي كتبها شقيق محمد بن عبد الوهاب سليمان إلى قاضي حريملاء حسن بن عيدان، والتي طبعت فيما بعد تحت عنوان «الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية».
كما ألف الكثير من الفقهاء العديد من المصنفات الفقهية التي تناقش تكفير الوهابية لعامة المسلمين بسبب النذر لغير الله ومسائل الاستغاثة والتوسل وغيرها.
رغم تأثيرها الكبير عليها تلقت الوهابية سهام النقد من حركات «الإسلام السياسي» وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين بسبب النظرة السائدة لها بأنها تقدم نسخة متشددة ومنفرة من الإسلام، نتيجة لممارسات «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» بالمملكة العربية السعودية وتدخلها في الحياة الشخصية للمواطنين بشكل سافر، وغض نظرها في المقابل عن النقد السياسي لممارسات السلطة الحاكمة ومسألة توزيع الثروة والعدالة الاجتماعية، وهو ما ينظر إليه بعض منظري تلك الحركات بأنه هو ما شرع من أجله أولًا فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
كما وجهت السلفية الجهادية رغم تأثرها الشديد بالوهابية على المستوى الفقهي والعقائدي العديد من المآخذ على التيار السائد في الوهابية المعاصرة والذي تعبر عنه فتاوى «هيئة كبار العلماء» في المملكة العربية السعودية، وذلك باعتبار هؤلاء على حد وصفهم. بأنهم «مرجئة» مع الحكام، والمرجئة هي فرقة كلامية تخالف أهل السنة والجماعة في حكم مرتكب الكبيرة، حيث تعتبر أنه لا يضر مع الإيمان معصية، وأن أمر العصاة المؤمنين يرجأ على إطلاق لأمر الله تعالى في الدار الآخرة.
تلقت الوهابية كذلك الانتقادات من الاتجاهات التنويرية في العالم العربي باعتبارها في نظرهم حركة «ظلامية» مناوئة للعقلانية وللحريات، ومن الاتجاها اليسارية «التقدمية» باعتبارها من خلال منظورهم للتاريخ حركة رجعية تمثل التحالف بين الدين والسلطة كالكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى، هذا فيما عدا بعض الاستثناءات التي تعاملت مع الوهابية كحركة إصلاحية ساهمت في النهضة العربية الحديثة مثل أدونيس وخالدة حسين في كتابهما «الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب» المنشور ضمن سلسلتهما المسماة بـ«ديوان النهضة».
- روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام، حسين بن أبي بكر بن غنام
- عنوان المجد في تاريخ نجد ، عثمان بن عبد الله بن بشر
- دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأثرها في العالم الإسلامي، محمد بن عبد الله بن سليمان السلمان