ليس بالامتحانات الكثيرة، والواجبات والفصول المكدسة .. التعلم الراقي إطار وحوار، وتقدير للمعلم.

في كل عام يصدر المنتدى الاقتصادي العالمي WEF تقرير عن قدرة كل دولة في العالم على التنافسية في مجال الاقتصاد وتطور الأعمال، ولكي يصدر هذا التقرير فإنه يحتاج إلى جمع بيانات من كل بلد على وجه الأرض.

هذه البيانات تصنف وفقًا لـ 12 محورًا للتنافسية، منها: البنية التحتية، والصحة، وسوق العمل، والتعليم الجامعي والأساسي. والتقرير الأخير هو ما شاعت نتائجه في الأوساط المهتمة بالتعليم باسم “تصنيف دافوس”، نسبة لمدينة دافوس في سويسرا، وهي المدينة التي تقام فيها فعاليات المنتدى سنويًا.

في التقرير الأخير -2017- احتلت قطر مرتبة متقدمة عالميًا حيث جاءت في المرتبة الأولى عربيًا، والتاسعة على مستوى العالم الذي احتلت الصدارة فيه سنغافورة وسويسرا وفنلندا المراتب الثلاثة الأولى. في حين احتلت مصر الترتيب 139 من بين 140 دولة شملها التقرير، ما يعني خروجها من المؤشر العالمي لجودة التعليم.

وبعد جمع البيانات اللازمة الخاصة بالتعليم في الدول المختلفة يتم ترتيب مستوى التعليم في هذه الدول اعتمادًا على الآتي: جودة الاختبارات الموحدة، ونسبة الوقت الحر الذي يقضيه الطلاب إلى الوقت الأكاديمي، والميزانية المقدرة للتعليم في البلد، وارتفاع أجور المعلمين.

وبعد قراءة متأنية لهذه التقارير، نكتشف أن الدول في المراتب الأولى في مستوى التعليم تجمعها عدة عوامل ساهمت في جعلها في المقدمة. نرصد في هذا التقرير أهم تسع عوامل مشتركة بين الدول المتقدمة تعليميًا على لائحة دافوس.


1. مرونة الاختبارات الموحدة: ليس بالامتحانات وحدها يتطور التعليم

في فنلندا، التي تعد من أفضل دول العالم تعليميًا، يخضع الطلبة لاختبار واحد في نهاية فترة الدراسة الثانوية على سبيل المثال. وهذا الاختبار يتضمن مواضيع عميقة، لها صلة بالواقع الحقيقي للطلاب.

فقد يتضمن الاختبار أسئلة مثل: ما مفهومك عن المفاهيم الأخلاقية في الحياة؟ لأن الغرض من العملية التعليمية هو تدريب الطالب على التعامل مع القضايا الحياتية، مثل الغذاء والحروب والسياسة والجنس، وتوظيف كل ما تعلمه الطالب من علوم متعددة التخصصات ومن مهارات في حياته الخاصة وحياة من حوله بشكل مثمر.

هذا الوضع المرن يختلف كثيرًا عما يدور في العالم النامي والذي يأتي في مراتب متأخرة في التصنيف العالمي، حيث يواجه طلبته كثيرًا من الامتحانات تقوم على استذكار ما حفظوه في المناهج الدراسية.


2. الواجبات المنزلية: وقت الفراغ للعب والهوايات

وفقًا لمنظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي OECD، فإن طلبة دول قمة التصنيف يقضون وقتًا أقل في حل الواجبات المنزلية، ويشغلون أوقات فراغهم في اللعب وممارسة المهارات الحياتية والاجتماعية، وفي هذه الدول المتقدمة علميًا يتم فرض فترة راحة لمدة 15 دقيقة بعد كل 45 دقيقة من الدراسة الأكاديمية.

وعلى النقيض من ذلك يقضي الطلاب في الدول المتأخرة تعليميًا أوقاتًا أطول في حل الواجبات المدرسية في منازلهم. كما أن مدة الراحة في اليوم الدراسي لا تجاوز في كثير من الأحيان نصف الساعة خلال تسع ساعات دراسة أكاديمية يومية.


3. المساواة: مجانية التعليم ليست منحة بل استثمار

تؤمن الدول في مقدمة التصنيف بحق الطلاب في التعليم؛ لأن عائد التعليم على الدولة بأسرها كبير، ولذلك تضع ميزانية ضخمة للتعليم وتوفره بدون رسوم باهظة لكل أبنائها على حد سواء، بغض النظر عن خلفياتهم الاقتصادية والاجتماعية. وفي هذه الدول توجد برامج للتعليم الجامعي والماجستير والدكتوراه عالية الجودة، ومجانية في الوقت نفسه.


4. أجور المعلمين: قم للمعلم وفّه التبجيلا.. والراتب أيضًا!

مجالات التدريس والتعليم واحدة من المهن المقدرة بشكل كبير في تلك الدول المتصدرة لقائمة التصنيف العالمي، حيث يحصل المعلمون على أجور مرتفعة مقارنة مع بقية المهن.

ففي لكسمبورج على سبيل المثال، يبلغ الأجر السنوي للمدرس حوالي 73 ألف دولار، ويتم اختيار المعلمين بشروط مشددة لدى توظيفهم في المدارس، ويعاملون تمامًا مثل أساتذة الجامعات، ويتضمن برنامج يومهم ساعات طويلة للتخطيط للدروس، أكثر من الساعات التي يدرّسون للطلبة فيها بالفعل.


5. الاجتهاد: الجينات ليست معيارًا للتقدم

قال العالم البريطاني الشهير «توماس إديسون» مخترع المصباح الكهربي: إن العبقرية عبارة عن 1% إلهام و 99% جهد وعرق. ولا يزال هذا المثل الذي صاغه «إديسون» قانونًا طبيعيًا للتفوق في التعليم.

فالتفوق العلمي لا تحدده جينات شعوب وأجناس دون غيرها، ولكنه اجتهاد وعمل جاد. فكل البشر متساوون في الإمكانات والقدرات، ويمكنهم الوصول إلى مراتب متقدمة في مجال التفوق العلمي، ولكن الأمر فقط يتطلب وقتًا وجهدًا كبيرًا.


6. إطار التعلم

قد يبدو للوهلة الأولى من قلة عدد الامتحانات والواجبات المدرسية أننا أمام تعليم غير أكاديمي بالمعنى العلمي، ولكن سر المعادلة يكمن في وضع إطار محدد للتعلم بمعايير محددة، فلا يوجد مشروع يقام أو حصة تعليمية تقدم للطلاب لمجرد القيام بها، ولكنها توجد في إطار محدد بتسلسل واضح لخدمة هدف كبير.


7. عدد التلاميذ

يلاحظ أيضًا في الدول المتقدمة تعليميًا قلة عدد الطلاب في الفصل الدراسي؛ ما يعني جلوسهم في الفصل الدراسي بشكل يسهل فيه التواصل مع المعلم فردًا لفرد، على العكس من الدول في ذيل قائمة التصنيف التي يزيد في الفصل الدراسي فيها عدد الطلاب لأرقام كبيرة.

وهكذا لا يمكن جلوسهم إلا بشكل صفوف خلف بعضها؛ مما يضعف التواصل مع المعلم. بالتالي تقل جودة المحتوى التعليمي الذي يقوم بالأساس على التواصل بين المعلم والطالب. فكيف يمكن تخيل وجود هذا التواصل في فصل دراسي به 140 طالبًا، كما أشار وزير التعليم المصري على سبيل المثال؟


8. التواصل

الكلام عن عدد الطلاب ينقلنا إلى نقطة أخرى تعتبر من أهم عناصر كفاءة التعليم، وهي التواصل. قد يكون شائعًا أن الفصل الصامت هو فصل جيد يستفيد منه الطلبة كثيرًا، ويستطيعون التركيز، لكن العكس هو الصحيح؛ لأن العملية التعليمية تزداد كفاءة بالتفاعل والتواصل، والمناقشات بين الطلبة مع بعضهم البعض، وبينهم وبين المعلم.

وتعرف هذه الطريقة بطريقة التعليم بالحوار، التي تعود جذورها للفيلسوف «سقراط» الذي كان يعلم تلاميذه بطرح الأسئلة، والدخول في حوار معهم. وقد صارت هذه طريقة التعليم التي تقوم على مشاركة المتعلمين، وليس الاكتفاء بتلقي المعلومات من المدرس.


9. الرقابة

لكي تزيد كفاءة التعليم يجب أن تتوفر رقابة على كل عناصر العملية التعليمية من مناهج مقدمة للطلاب، ومعلمين، وبيئة مدرسية. فإذا انخفض مستوى إحدى المدارس فالحل ليس بالعقاب أو بغلق تلك المدرسة، ولكن الحل هو أن يتم تقديم الدعم لها لتتخطى المشكلة التي تواجهها.

ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله، فحتى مع واقع تأخر مستوى النظام التعليمي في معظم الدول العربية، فهناك بارقة أمل إن وجدت إرادة التغيير. فالمعلم يمكنه بتغييرات بسيطة في بيئة الفصل التعليمي أن يرفع من كفاءة ما يقدمه؛ كوضع الصفوف بشكل مرن بداخل الفصل بدلاً من الصفوف بشكلها التقليدي.

وأن يغير أماكن الطلاب بالتبادل على مدار السنة، ليسمح هذا له بالتواصل مع الطلبة كلهم للتعبير عن أفكارهم. فلا حاجة هنا للتدافع في بداية العام لاحتلال الصفوف الأمامية، حتى يلتصق بها بضعة طلبة لنهاية العام دونًا عن سواهم، ويستطيع أيضًا الاطلاع على المناهج والفلسفات التعليمية المختلفة، ليأخذ منها أفكارًا يستفيد بها داخل إطار الخطة التعليمية الخاصة به.

والآباء إن زاد وعيهم بمتطلبات أبنائهم التعليمية ومتطلبات سوق العمل في العالم من حولهم، ستتسع نظرتهم لأبعد من الحدود الضيقة المعتادة التي يقيّمون بها كفاءة التعليم المقدم لأبنائهم.

فبدلاً من تقضية الساعات الطوال في دفعهم دفعًا لإنهاء فروضهم اليومية، يمكنهم استثمار هذا الوقت فيما سينفعهم لأنفسهم في مستقبلهم من مهارات حياتية، ومعرفة أن في عصرنا هذا الدرجات ليست هي معيار النجاح.


في النهاية، لا يمكن بأي حال العمل على نظام تعليمي لرفع جودته إلا بالتوازي بين كل ما له علاقة به من كفاءة المعلمين، ووعي الآباء، وجودة البيئة الدراسية، ورقابة مؤسسية حاسمة.

هذا الخليط الذي لا يغني كفاءة عامل منه عن الضعف في آخر، كأعمدة أربعة يحملون بناء إن انهار أحدهم سقط البناء بأكمله، وبعد سنوات من سيحكم هذا العالم هم هؤلاء الصغار الذين يتعلمون، ونبني لهم هذا الصرح. نحن نعلم أطفالاً ليس للمرور بمرحلة دراسية وحسب، ولكننا نعلمهم من أجل حياتهم بأكملها، فبناء الطفولة هو بناء العمر!