8 محطات قبل أن يغادر قطارُ «أوغلو» قضبانَ «أردوغان»
ما أسهل عليّ أن أتخلى عن طموحي الشخصيوأضعه تحت قدمي، وأن أضرب عرض الحائط بأي منصب قد يظن الناس أن تركه محال، ولا أن أتسبب بأي أذى أو حزن لهذه الحركة المباركة ولرجالها ذوي القلوب الطاهرة، الذين هم أمل المظلومين الوحيد في كل أنحاء العالم.
أحمد داود أوغلو، رئيس الوزراء التركي المستقيل
1. ربيع اسطنبول
يونيو/ حزيران 2013
تعود أصول الشقاق الحالي إلى مظاهرات جيزي، ربيع إسطنبول كما أسمته الصحافة الغربية، والتي قادها أفراد من النخبة العلمانية في تركيا ضد أردوغان رئيس الوزراء في ذلك الوقت. أصدر أردوغان أمره بفض التظاهرات، ورد بحشد مظاهرة ضخمة في إسطنبول، خرج فيها الملايين «يقدر العدد بـ 2 مليون» مأكدين على دعمهم للزعيم.
إلا أن عبد الله جول، رفيق أردوغان ورئيس الجمهورية، خرج ليفصح علانية عن تعاطفه مع المتظاهرين واعتراضه على العنف الذي صاحب فض مظاهراتهم. شعر أردوغان بالطعنة في الظهر.
2. انقلاب قضائي
ديسمبر/ كانون الأول 2013
لم ينتهِ العام دون زلزال آخر: «انقلاب قضائي». صباح 17 ديسمبر وبشكل متزامن تماما اعتقلت قوات تابعة لمديريات الأمن عددًا من المقربين للحكومة؛ أبناء وزراء، رجال أعمال، رئيس بنك خلق، ومديري بلديات، بتهم تتراوح بين الفساد المالي، وتقديم تسهيلات غير قانونية، والالتفاف بشكل غير قانوني على الحصار الاقتصادي المفروض على إيران.
رأى أردوغان في هذه الاعتقالات، وفي موجات التوقيف والتحقيق التي تلتها بشكل منظم وبدون علم وزراء الدخلية والعدل، والتي تزامنت مع استقالة عدد من النواب المقربين لحركة كولن من الحزب في نفس اليوم، رأى أردوغان فيها انقلابا أمنيا-قضائيا يقوده الداعية الديني فتح الله كولن ويستهدف تجربة العدالة والتنمية، بل يستهدفه شخصيًا، لا سيما إثر الإشاعات التي أطلقتها صحيفة «زمان»، الصحيفة الأكبر في تركيا والتابعة لكولن، عن ورود اسم ابني أردوغان في قائمة الاعتقالات.
مجددا وقف جول وأرنتش على الحياد، مؤكدين على أن القانون سيأخذ مجراه. الصوت الوحيد الذي وقف بجوار أردوغان، كان صوت داود أوغلو.
3. الاستفتاء على أردوغان
مارس/ آذار 2014
استمر الشقاق بين أردوغان من جهة وبين جول وأرينتش من جهة. في مارس من 2014 ألقت حركة فتح الله كولن بثقلها كله بالتحالف مع المعارضة لإسقاط مرشحي العدالة والتنمية في الانتخابات المحلية. كان استفتاءً شعبيًا على العدالة والتنمية، واستفتاءً على أردوغان شخصيا – الذي تعهد بالاستقالة من منصبه في حال خسر الحزب الانتخابات – وانتصر الحزب انتصارا مدويا.
4. خليفة أردوغان
أغسطس/ آب 2014
مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، والتي أصبح أردوغان فيها مرشح حزب العدالة والتنمية، تصاعدت أسئلة خلافة أردوغان. أدى الشقاق الأخير إلى استبعاد أردوغان لكل من أرينتش وجول، وعلي باباجان المقرب للأخير، من اختيارات خلافته. أراد أردوغان في رئاسة الحزب رجلا قريبا منه، بإمكانه التفاهم معه دون أن يصرح علانية بالخلافات بينهما كما اعتاد أن يفعل جول وأرينتش، ويتمتع في نفس الوقت بالكاريزما التي ستعوض غياب «الزعيم» عن قيادة الحزب والحكومة. كان داود أوغلو الاختيار المثالي.
حرص أردوغان على عقد مؤتمر الحزب الطارئ لانتخاب الرئيس الجديد للحزب في 27 أغسطس قبل انقضاء مدة رئاسة جول بيوم واحد، الأمر الذي حال دون مشاركة جول في الانتخابات. انتخب داود أوغلو رئيسا للعدالة والتنمية بالإجماع.
5. الطريق إلى النظام الرئاسي
يونيو/ حزيران 2015
ألقى أردوغان بظل «ثقيل» على حكومة داود أوغلو، تدخل في تشكيل الحكومة، وعمل على ترؤس عدد من اجتماعات مجلس الوزراء في القصر الرئاسي، نقلت صورُ تلك الاجتماعات عادة تجهُّمَ داود أوغلو.
عاد أردوغان للتدخل مرة أخرى في اختيار أسماء مرشحي الحزب لانتخابات يونيو 2015. استغل أردوغان مبدأ «الفترات الثلاث» ليحول دون إعادة ترشح قيادات الحزب التاريخية المنافسة أو المعارضة له.
لم يتوقف الأمر عند ذلك بل نزل أردوغان بنفسه للميادين والجماهير ليدعم مشروع تحول البلاد إلى النظام الرئاسي، البند الذي تصدر رؤية الحزب الانتخابية. يفرض الدستور التركي حظرًا على إبداء الرئيس دعمه لأحد الأحزاب أو الدعاية له، لذا فلم يكن علَم العدالة والتنمية مرفرفًا على المهرجانات الجماهيرية التي خطب فيها أردوغان داعيا الشعب إلى اختيار الاستقرار والاستمرار، وهاجم فيها المعارضة، لكن الرسالة كانت واضحة حد الفجاجة.
في مساء يوم السابع من يونيو، كانت النتيجة كارثية. الحزب الذي أعلن أن هدفه الحصول على أغلبية الثلثين ليتمكن من تعديل الدستور منفردا لم يتمكن حتى من المحافظة على الأغلبية البسيطة، ولأول مرة منذ عام 2002 يخسر العدالة والتنمية أغلبيته ويصبح غير قادرٍ على تشكيل الحكومة.
6. كل رجال أردوغان
سبتمبر / أيلول 2015
كان موعد المؤتمر العام الاعتيادي للحزب. عمل أردوغان على إعداد «قائمة مرشحين» للجنة المركزية لقيادة الحزب أطاح فيها بكل الحرس القديم المعارض له. لم يرضَ داود أوغلو، رئيس الحزب القانوني، عن هذه القائمة مؤكدا حرصه على تمثيل التيارات كلها داخل اللجنة المركزية للحيلولة دون زيادة سيطرة أردوغان على الحزب. ليلة المؤتمر سرت شائعات بأن نوابًا يجمعون التوقيعات لصالح «بن علي يلدرم»، يد أردوغان اليمنى كما يحلو للبعض وصفه، لينافس داود أوغلو على رئاسة الحزب. كانت الإشارة واضحة، مرر داود أوغلو على مضض قائمة أردوغان، كانت البلاد على شفا انتخابات مبكرة ومصيرية في تاريخ الحزب. في المقابل لم يترشح يلدرم وفاز داود أوغلو برئاسة الحزب بجميع الأصوات الصحيحة ونجحت «قائمة أردوغان».
7. داود أوغلو إلى الواجهة
نوفمبر/ تشرين الثاني 2015
أدار داود أوغلو الفترة الانتقالية بجدارة بارعة، توقف أردوغان عن ترؤس اجتماعات مجلس الوزراء، وعمل داود أوغلو على اللقاء بقادة المعارضة لتأسيس حكومة ائتلافية. لقاءات انتهت إلى الفشل مما دفع أردوغان في 29 أغسطس/ آب إلى إصدار قرار بالذهاب إلى انتخابات برلمانية مبكرة بعد أن انتهت المهلة القانونية لتشكيل الحكومة. كان رهان أردوغان عاليًا هذه المرة، فإما أن يستعيد الحزب أغلبيته البرلمانية ويعود للتفرد بالحكم، وإما أن يحقق نتيجة أسوأ أو مماثلة للنتيجة السابقة الأمر الذي قد يعرض مستقبل الحزب السياسي ومستقبل أردوغان شخصيًا للخطر.
سعى العدالة والتنمية إلى تلافي أخطاء الفترة السابقة التي قوضت من شعبية الحزب. انسحب أردوغان من تصدر المشهد تاركًا إياه لداود أوغلو. اختفت شعارات النظام الرئاسي واختفى أردوغانان نفسه من المهرجانات الانتخابية. عادت الأسماء القديمة التي اعتاد الشعب عليها. ارتفعت البورصة وسعر صرف الليرة فقط لإعلان الحزب أن علي باباجان سيتصدر قائمة مرشحيه في أنقرة، وتركزت دعاية الحزب حول مزيد من الإصلاحات والمشاريع الاقتصادية، بالإضافة إلى دستور جديد يمنح «تركيا الجديدة» تحررا وانطلاقا صوب المستقبل دون أن يكون متقيدا بالنظام الرئاسي. أتى الأول من نوفمبر بانتصار كاسح للعدالة والتنمية، نجحت خطة داود أوغلو وربح رهان أردوغان.
8. التدوينة التي قصمت ظهر البعير
مايو/ أيار 2016
على إثر الانتخابات عاد أردوغان سيرته الأولى. حال أردوغان دون تعيين وزراء لا يتبنون صفّه وآراءه. فلا علي باباجان رجل الاقتصاد الذي ارتفعت البورصة لمجرد ذكر اسمه، ولا أطلاي رجل السلام مع الأكراد سمح لهم بالعودة إلى دائرة الضوء. وفي المقابل بقي رجال أردوغان الأقوياء في الحكومة، يلتشين آق دوغان، وبن علي يلدرم، وإفكان آلا، ومولود جاويش أوغلو؛ أما طانر يلدز -الموالي لأردوغان والذي أبدى رغبة سابقة في مغادرة الحكومة- فقد استعاض عنه أردوغان برجل أكثر ولاءً له، هو: برات البيرق، زوج ابنته إسراء.
لمع نجم داود أوغلو أيما لمعان خلال هذه الفترة. نجح الدبلوماسي البارع، ووزير الخارجية السابق، في عقد اتفاق تاريخي مع الاتحاد الأوروبي بشأن اللاجئين؛ يقدم فيه الاتحاد الأوروبي مساعدة لتركيا بمقدار 3 مليار يورو لتنفق على اللاجئين السوريين الذين ناهز عددهم الثلاثة ملايين وتكلفت الحكومة التركية مليارات الدولارات في استضافتهم، بالإضافة إلى اختراق تاريخي بالسماح للمواطنين الأتراك بدخول منطقة الشنجن دون تأشيرات.
لم يكن أردوغان راضيًا عن مسلك داود أوغلو الذي لمع نجمه الشخصي بدلا من أن يمهد للانزواء جانبا وتحويل البلاد للنظام الرئاسي بقيادة أردوغان. مساء 29 إبريل/نيسان وبينما كان داود أوغلو في زيارة دبلوماسية لقطر تفقد فيها القاعدة التركية هناك، عقدت اللجنة المركزية للحزب، الموالية لأردوغان، اجتماعًا دون علم رئيس الحزب اتخذت فيه قرارًا/توصيةً بسحب صلاحية تعيين مديري فروع الحزب من رئيس الحزب وإعطائها إلى اللجنة المركزية. فوجئ داود أوغلو بهذا القرار الذي اتخذ في غيابه. بعد يومين أتت القشة التي قصمت ظهر البعير، الذي احتمل طويلا من أجل «المسيرة المباركة»؛ نشر أحد الحسابات على «وورد بريس»، والمنسوبة لصحفي مقرب من الرئاسة دون أن يفصح عن اسمه، تدوينة عن المؤامرات المتنوعة التي تستهدف «الزعيم المفدى» أردوغان والتي انضم إليها مؤخرا داود أوغلو الذي لم يراعِ «نعمة أردوغان عليه عندما ولاه خلافته في رئاسة الحزب والحكومة». لم يرد أردوغان أو يعلق على هذه التدوينة.
في ظل هذه الشهور الطويلة من الهجوم على صفته «كرئيس للحزب»، وعلى شخصه، خرج داود أوغلو يوم 3 مايو في خطاب قصير وحزين لكتلة الحزب في البرلمان التركي ليعلن أنه على استعداد لأن «يضرب عرض الحائط بأي منصب قد يظن الناس أن تركه محال، ولا أن يتسبب بأي أذى أو حزن لهذه الحركة المباركة» مشيرا إلى استعداده للتخلي عن قيادة الحزب. كانت خطبة الوداع.
في اليوم التالي عُقِد اجتماع بين داود أوغلو وأردوغان لاحتواء الأزمة بين الرفيقين. دام الاجتماع ساعة وأربعين دقيقة لتخرج تسريبات الرئاسة ورئاسة الحكومة معلنة عن اجتماع يعقد للجنة المركزية لقيادة الحزب في اليوم التالي، يعقبه مؤتمر صحفي يعلن فيه داود أوغلو «دعوته الحزب لانتخاب رئيس جديد».
ظُهر اليوم، الخميس الخامس من مايو/ أيار، خرج البروفيسور ليعلن وفاءه لمسيرة الحزب، ولشخص أردوغان، معلنا أنه، وعلى الرغم من كل ما تعرض له، لن يتفوه بحرف يسيء لأردوغان الذي جمعته به صحبة 25 عاما «فشرفه شرفي وأنا أثق به».