بعد منتصف القرن التاسع عشر بدأت مدن مصر الكبرى، وتحديدًا القاهرة والإسكندرية، ومدن قناة السويس، تزدحم بالأجانب، لأسباب كثيرة، منها حرص حاكم مصر الخديوي إسماعيل على تحويل مصر لقطعة من أوروبا.

وكان للإسكندرية وضع خاص باعتبارها الميناء الأساسي والأهم على ضفة المتوسط الجنوبية، وكعاصمة ثانية لمصر، وتماهى ذلك ثقافيًا مع فكرة التأسيس الأوروبي للمدينة، وحكم الرومان والإغريق لها لقرون طويلة.

وحتى النصف الأول من القرن العشرين كانت الإسكندرية مدينة كوزموبوليتية، يشكل الأوروبيون نحو ربع سكانها، ما انعكس على فنها.

ومن معالم هذا الانعكاس كان مسرح زيزينيا الذي شُيِّد في ستينيات القرن التاسع عشر، خلال عهد إسماعيل، على يد الكونت زيزينيا قنصل بلجيكا في مصر (توفي عام 1868م)، والذي سُمِّي الحي السكندري الشهير باسمه.

وكان المسرح في البداية مخصصًا للفن الأوروبي فقط، ولا تدخله فرق عربية أبدًا، فهدفه كان خدمة الأجانب والمصريين الذين يحبون الثقافة الأوروبية.

وظل المسرح على حاله وإن تسللت إليه أحيانًا الفرق العربية في ما بعد، حتى تهدمت بعض أجزائه نتيجة انفجار، وظل مغلقًا منذ عام 1912 حتى اشتراه الثري اللبناني الأصل، بدر الدين القرداحي، الذي كان يقيم بالإسكندرية، وأعاد بناءه مستعينًا بالمهندس الفرنسي جورج بارك، وسماه «تياترو محمد علي»، وصار اسمه في ما بعد عام 1962 مسرح سيد درويش، ثم أطلق عليه اسم «أوبرا الإسكندرية» عام 2004.

أنشأ بارك المسرح الفخم على طراز أوروبي شبيه جدًا بمسرح أوديون في فرنسا، وأوبرا فيينا في النمسا، وافتتح في يونيو 1921.

دار الأوبرا بالإسكندرية
دار الأوبرا بالإسكندرية

ضمن الزخارف الفخمة في المسرح كانت الدائرة الضخمة التي توسطت سقف القاعة، ونقشت عليها أسماء 8 من كبار الموسيقيين الأوروبيين الكلاسيكيين، وهم:

جلوك، موزارت، روسيني، فيردي، جونو، بيزيه، فاجنر، برليوز.

من هم هؤلاء الموسيقيون، ولماذا اختارهم قرداحي وبارك تحديدًا للكتابة على سقف المسرح من دون غيرهم؟ هذا ما نحاول الإجابة عنه.

جلوك: أول من أدخل الطبول الضخمة للأوبرا

الموسيقار كريستوف فيليبالد جلوك
الموسيقار كريستوف فيليبالد جلوك

يدين محبو الأوبرا في العالم إلى كريستوف فيليبالد جلوك بالجميل، لأنه كان أول من استخدم الصنج والطبول الكبيرة في الأوركسترا التي تصاحب الأعمال الأوبرالية، والتي كانوا يعتبرونها مصدر ضوضاء، لكن إصراره على استخدامها جعلها تلقى القبول والإعجاب وتصبح عنصرًا تعبيريًا فاعلًا في الأوبرا.

ولد جلوك في 2 يوليو عام 1714م، في ويدينويج جنوبي ألمانيا عام 1714م، وكان والده مسؤول أمن في خدمة الأمير لوبكو ويتز.

في مدينة مجاورة، كانت توجد مدرسة يسوعية، أرسل إليها «كريستوف»، وهناك لاحظ رهبان المدرسة ذكاءه وتعلقه بالموسيقى، فعلموه العزف على الكمان والهارب والأورغن، وكان الصبي سعيدًا جدًا بما فعلته المدرسة، لدرجة أنه وعدهم بتكريس نفسه للكنيسة صاحبة المدرسة.

ولكن في عمر الـ18 ترك المدرسة وذهب إلى براغ لإتمام دراسته الموسيقية، ولجني أجرة مدرسيه كان يعطي دروسًا بشكل حر للطلبة الصغار في الموسيقى، وكذلك كان يعمل في الملاهي الليلية كعازف كمان.

في عام 1736م، ذهب جلوك إلى فيينا مدينة الموسيقى الشهيرة، وهناك قابل الأمير لوبكو ويتز، الذي كان والده يعمل في خدمته.

إعجاب الأمير به دفعه لتقديمه إلى الأمير الإيطالي ميلزي، الذي كان يزور فيينا، فأعجب به ودعاه لزيارة ميلانو، والعمل معه كمدير لفرقته الموسيقية الخاصة.

ومن هناك انطلق جلوك، وقدم أول أوبرا له، وهي أوبرا أرميدي، التي تحتفي بأساطير اليونان، ومن هنا بدأت شهرته في التوهج، وتوالت نجاحاته وإخفاقاته، في عدد من مدن أوروبا، حتى أنه صار ضيفًا على ملكات وأميرات أوروبا، ومنهن الإمبراطورة الرومانية المقدسة ماري تيريزا، التي طلبت منه تعليم ابنتها ماري أنطوانيت (زوجة ملك فرنسا في ما بعد) الموسيقى.

لكن الحدث الأشهر لجلوك كان بعد إقامته في فرنسا بفترة، حين قدم إلى هناك الإيطالي بوتشيني صاحب الشعبية الكبيرة في فرنسا، لتنشأ منافسة شرسة بينهما، وصلت إلى اقتراح أن يلحن كل منهما كلمات لنفس الأوبرا، ليحكم الجمهور في ما بينهما، وكانت الأوبرا المقترحة هي «إفيجينيا في تاوريس» من الأدب اليوناني القديم.

أوبرا جلوك، كانت مشاهدها أوضح، واستخدم خلالها ضربات الصنج والطبول الكبيرة التي كانت مستهجنة قبل ذلك، ولكن المفاجأة أن الجمهور أعجب بها، وفضّل لحن جلوك على بوتشيني، وصار الرجل حديث الشارع والصحافة وقتها.

حقق جلوك» شهرة كبيرة وثراء ماليا نتيجة أعماله، وكرمه الشاعران الألمانيان العظيمان «جوتة» و«شيلر»، وكان النبلاء والملوك يقبلون على صداقته، وحين توفي 15 نوفمبر 1787، أقيم له تمثال في فيينا التي دفن بها، وأقيمت له تماثيل من الرخام والبرنز في عدد من المدن الأوروبية ومنها ميونخ وباريس.

موزارت: المعجزة تمشي على قدمين

موزارت يعزف بصحبة شقيقته ووالده
موزارت يعزف بصحبة شقيقته ووالده

كان جلوك خلال وجوده بباريس في قمة الصراع بينه وبين بوتشيني معجبًا بشاب صغير موهوب وتنبأ له بمستقبل كبير، وهو بالفعل كان معجزة.

 هذا الشاب هو ولفجانج أمادياس موزارت، المولود في 27 يناير عام 1756م في فيينا، لوالد كان رجل دين.

وقبل الاسترسال أرجو أن تعذر عزيزي القارئ كثرة استخدامي لأداة التعجب «!”»؛ فالكتابة عن موزارت تضطرك إلى ذلك.

وهو يحبو كان موزارت يطرب للموسيقى ويدندن ويهتز جسده لها، ولا يحب من لعب الأطفال إلا التي بها موسيقى، حتى إنه استطاع العزف على الكمان وعمره 5 سنوات!

وفي هذه السن الصغيرة ألف موزارت كونشيرتو للهارب! حتى صار حديث أوروبا، بشكل جعل والده يصحبه وأخته الموهوبة في جولة بعدة مدن أوروبية لينعم الناس ومنهم أمراء وملوك بمشاهدة المعجزة تمشي على قدمين.

ومن هؤلاء كانت الإمبراطورة ماري تيريزا التي دعت والده لبلاطها، لتسمع وتشاهد الطفل وهو يعزف بنفسه أمامها.

وللطرافة فإن الطفل البالغ من العمر 6 سنوات بعد أن انتهى من العزف نسي المراسيم الملكية التي دُرِّب عليها واقترب من الإمبراطورة، وجلس في حجرها، ووضع ذراعيه حول عنقها، ثم قبّلها!

كان الطفل المعجزة متاح له فعل أي شيء، فلم يحدث أبدًا أن طفل عمره 7 سنوات يؤلف 4 سوناتات للهارب والبيانو، وتشتهر بين الناس! وفي سن الـ13 ألّف أول أوبرا له وباللغة الإيطالية!

والحديث عن طفولة موزارت المعجزة لا ينتهي، ولعل هذا النبوغ جعل حياته الفنية تمتد وتأخذ حقها، لتعويض عمره القصير جدًا الذي لم يطل لأكثر من 35 عامًا، حيث توفي في 5 ديسمبر 1791، بعد أن ترك نحو 22 أوبرا و41 سيمفونية، و18 كونشيرتو، وغيرها من أعمال ضخمة، تعد من أهم معالم التراث الموسيقي العالمي.

ورغم كل ذلك مات في يوم عاصف في فيينا، ولم يمش في جنازته إلا قليلون، ودفن في قبر فقير جدًا، ثم نقل جثمانه إلى مدافن الصدقة في فيينا، لدرجة أننا لا نعرف الآن قبره بالتحديد.

مات كالمجهولين، لكن قداسه الجنائزي كان يعزف في جنازات كبار النبلاء والعظماء في العالم، وصارت تماثيله في كل مكان بالعالم، وصار اسمه واحد من أهم معالم التاريخ الموسيقي العالمي، بل إننا لو عددنا أهم الموسيقيين في التاريخ سنجده واحدًا منهم إن لم يكن أهمهم في نظر البعض.

روسيني: من الجزارة إلى صدارة الأوبرا

الموسيقار جواكيني روسيني
الموسيقار جواكيني روسيني
Mike Licht / Flickr / CC BY 2.0

جواكيني روسيني نشأ في أسرة تجمع بين الجزارة والموسيقى، فقد كان والده عازف بوق وجزّارًا في الوقت ذاته! ووالدته كانت أيضًا مغنية.

ولد جواكيني بمدينة بيزارو الإيطالية في 29 فبراير عام 1792، وهو يوم نادرًا ما يولد به أحد، لأنه لا يأتي إلا مع السنين الكبيسة، ولذلك كان يمزح ويقول دائمًا إن عمره 15 عامًا فقط، بعدد السنين الكبيسة التي عاشها.

كان في صباه كسولًا فاشلًا، وحاول والده تدريبه العزف على البوق، لكنه لم يكن يحب دراسة الموسيقى. ولكنه في يوم من الأيام خلال فترة صباه، قرر أن يصبح مؤلفًا موسيقيًا! ما أثار استغراب والده الذي طلب منه أن يتعلم أولًا.

حياته الهادئة انقلبت نتيجة سجن والده، فبدأ يعمل مع والدته مغنيًا في مع فرق متنقلة، ليستطيعا العيش.

خرج والده من السجن وبدأ العمل مع فرقة متجولة، فتعهد بابنه إلى جزار صديقه، والذي أوكل لأحد الموسيقيين تعليمه آلة الهارب.

تجول روسيني بين مجموعة معلمين وكان دائم المشاكل معهم، ثم التحق بمعهد الكونسرفتوار ولم يكمل الدراسة به، وتركه حين أحس أن لديه من العلم الموسيقي ما يمكنه من تلحين أوبرا بمفرده.

لعدة سنوات، كان روسيني يلحن أوبرات صغيرة، وكان مزاجيًا جدًا؛ فإذا طُلِب منه إنجاز العمل في 4 أسابيع، يقضي أسبوعين منهم في اللهو والشرب والاستمتاع بالحياة، ثم يضغط نفسه في الأسبوعين الأخيرين، وقد اشتهر بأنه يؤلف بسرعة شديدة.

وفي عمر الـ21 ظهرت له أوبرا تانكريدي وهي أول عمل ناضج له، يضعه بين كبار المؤلفين الموسيقيين، واشتهرت له بعد ذلك مجموعة كبيرة من المؤلفات، ولكن من أهمها كانت «حلاق أشبيلية».

ظل روسيني واحدًا من أهم الموسيقيين في عصره، وحظي بشهرة عالمية، حتى إنه حين مرض مرضه الأخير زاره 5 أطباء من دول أوروبية مختلفة، وحين توفي في باريس يوم 13 نوفمبر 1868، مشي نصف سكان العاصمة الفرنسية في جنازته، وعزفت موسيقى دينية من مؤلفاته بالجنازة.

وقبيل وفاته وخلال مرضه (قيل إنه سرطان القولون) خصص مليون فرانك لإقامة دار للمسنين الموسيقيين الإيطاليين والفرنسيين، افتتحت عام 1889م، وتُعرف الآن باسم مؤسسة روسيني.

فيردي: العظيم الذي رفض ألقاب النبلاء والسياسة

تمثال جوزيبي فيردي
تمثال نصفي لجوزيبي فيردي خارج مسرح ماسيمو في باليرمو بإيطاليا.

لم يملأ فراغ روسيني الذي تركه في فن الأوبرا إلا فيردي، الإيطالي أيضًا.

ولد جوزيبي فيردي لأب فلاح يعيش في قرية رونكولي التابعة لمقاطعة بارما، في 10 أكتوبر 1813. وخلال طفولته بالقرية كان يطوف بها عازفون ومغنون جوالون يتسولون، وكان مشهدًا مألوفًا أن يمشي فيردي خلفهم يتتبعهم، وكان أحدهم (عازف كمان) أول من تنبأ له بأنه سيصير موسيقيًا.

في عمر السبع السنوات اشترى له الوالد بيانو صغير، لما لاحظه من تعلقه بالموسيقى، رغم ضيق يده، وكذلك بدأ إعطاءه دروسًا في الموسيقى.

كان والد فيردي يصحبه إلى مدينة بوسيتو ليشتري احتياجاته التي لم تكن تتوفر بالقرية، وهناك كان يمران على منزل سيجنور باريزي، رئيس الجمعية الفيلهارمونية، وكان هذا المنزل مركزًا مهمًا للموسيقى في إيطاليا كلها، لا تنقطع الموسيقى عنه لحظة.

كان فيردي يقف في الشارع بجوار إحدى نوافذ المنزل ليستمع للموسيقى، وفي مرة كان هناك عزف على البيانو لسوناتا «ضوء القمر» لبيتهوفن، فوقف فيردي يسمع باهتمام، وإذا بصاحب المنزل يمسكه من يده: ماذا تفعل هنا؟

فرد الصبي: أنا أعزف على البيانو أيضًا، ودائمًا أقف لسماع الموسيقى التي تخرج من هذا المنزل.

اتضح أن باريزي كان يراقب الصبي منذ مدة، وأخذه لداخل المنزل، فوجد فيردي أن العازفة طفلة في عمره، وأنها ابنة باريزي.

كان هذا اليوم هو نافذة النور لفيردي، حيث اعتنى به باريزي، وأرسله للتعليم بمدرسة في بوسيتو، وخلال ذلك كان يتلقى دروسًا في الأورغن على يد عازف الكنيسة بالمدينة، وظل هكذا حتى وصل عمر الـ17 عامًا، وحينها أحس فيردي أنه اكتفى من التعليم، وأن بإمكانه العزف والتأليف من دون مساعدة أحد.

عمل فيردي قائدًا لأوركسترا الجمعية الفيلهارمونية، واحترف تأليف المارشات العسكرية بمدينة بوسيتو، وتزوج من مارجريتا ابنة باريزي، التي نشأت بينها وبينه قصة حب منذ أول يوم.

انتقل فيردي مع زوجته إلى ميلانو، وبدأ يحقق نجاحات تدريجية، وفشل أحيانًا، ولكنه مع الوقت بدأ يثبت أنه أهم ملحن أوبرا في إيطاليا، يسمع به العالم كله، حتى أن خديوي مصر إسماعيل، طلب منه تأليف أوبرا ليفتتح بها دار الأوبرا المصرية وقناة السويس.

ورغم أهمية الحدث وأهمية الشخص الذي طلب منه ماطل فيردي في تأليف موسيقى وتلحين «أوبرا عايدة» التي جرى الاتفاق عليها، ولم يسلمها في الميعاد المحدد عام 1869، وعزفت بالحفل أوبرا ريجوليتو لفيردي أيضًا.

حتى إن الخديوي إسماعيل حين وجد فيردي يتلكأ، عرض على الألماني الكبير ريتشارد فاجنر 500 جنيه إسترليني لإعداد الأوبرا بدلًا من فيردي، وكان هذا العربون تهديدًا لفيردي، الذي لم يقدم الأوبرا إلا عام 1871، بعد عامين من افتتاح قناة السويس.

كان فيردي رجل دولة مهمًا، وانتخب عضوًا بالبرلمان الإيطالي، لكنه استقال، لأن وقته المكرس للموسيقى لا يسعفه لمهام البرلمان.

رفض لقب «ماركيز بوسيتو» الذي منحه له ملك إيطاليا «هومبرت»، وفضل أن يظل «فيردي» فقط، الذي لم ينسَ أصوله الريفية الفقيرة، فكان يتبرع بمئات الآلاف للفقراء، وبنى على نفقته مستشفى في «فيلينوفا»، افتتح عام 1888م. وأقام دارًا للمسنين والمحتاجين من الموسيقيين، وتوفي عام 1901م عن عمر 87 عامًا، ودفن في ميلانو.

بيرليوز: الموسيقى أهم من الطب

الموسيقار هيكتور بيرليوز
الموسيقار هيكتور بيرليوز
Jean-Pierre Dalbéra / Flickr / CC BY 2.0

كان هيكتور بيرليوز (1803-1869م) من أهم رواد الحركة الرومانسية التي نشأت في القرن التاسع عشر، والبعض يصفه بأنه أميرها.

ولد بيرليوز في سانت أندريه في فرنسا، لأب طبيب أراد أن يرث ابنه مهنته، ولكن كان يسمح له بممارسة الموسيقى كنوع من الترويح عن النفس.

أرسله والده باريس لدراسة الطب، وكانت الفاجعة حين دخل غرفة التشريح، فهذا الإنسان الرومانسي المرهف لا يقوى أبدًا على فتح بطن مريض، والعبث بأحشائه.

بعد أول محاضرة في غرفة التشريح قرر بيرليوز ترك الطب واحتراف الموسيقى، فعاد إلى سانت أندريه ليخبر العائلة بقراره، فوبخته أمه، وطرده أبوه من المنزل، ليبدأ نضاله بصحبة الموسيقى.

عاد بيرليوز لباريس وعاش حياة بائسة معدمة، أشبه بالمتسولين، إلى أن وجد مجموعة صبية صغار أقنعهم بتعليمهم العزف على الجيتار والفلوت، في مقابل مادي.

وخلال ذلك التحق بمعهد الكونسرفتوار، وفي الوقت نفسه وجد عملًا كعضو في كورال بملهى ليلي «مسرح درجة ثانية»، وخلال ذلك كان بريليوز يؤلف أعمالًا ويحفظ أعمال غيره.

لم يحقق نجاحًا في باريس، فسافر إيطاليا، وهناك تعرّف على مجموعة من الموسيقيين المهمين، منهم فرانز ليست، وفيلكس مندلسون، وكونوا جمعية سموها «جمعية اللامبالاة بكل المواضيع»، وكان أعضاؤها يؤلفون موسيقاهم وينقدونها لنفسهم بنفسهم.

لم يحقق نجاحًا في إيطاليا فعاد إلى فرنسا، وفشل في العمل كأستاذ بالكونسرفتوار فعمل ناقدًا فنيًا، وكان أسلوبه لاذعًا، حتى إن أحد رؤساء التحرير أعاد إليه مقاله ذات مرة وقال له: «يداك مليئتان بالحجارة، وهناك العديد من النوافذ الزجاجية حولنا».

ظل بيرليوز يعمل ناقدًا 20 عامًا، لدى أهم المجلات الفنية في باريس، وكان يؤلف الموسيقى لكنها لم تكن ذات شعبية هناك، لكنها نجحت خارج فرنسا، بشكل كبير، وعامله العالم كواحد من أعظم الموسيقيين، بل إن البعض رآه لا يقل عن بيتهوفن. وقد تنوعت أعماله بين الأوبرا والسمفونية وقوالب أخرى.

توفي بيرليوز في باريس عام 1869م، حزنًا على وفاة ابنه، والغريب أنه بدأ ينال الشهرة الكبيرة في باريس بعد وفاته، حيث رآه الفرنسيون موسيقارهم الأهم الذي يواجهون به الألماني الصاعد وقتها ريتشارد فاجنر.

فاجنر: مخترع الموسيقى التصويرية كاره اليهود

الموسيقار فاجنر
الموسيقار فاجنر

على زمجرة مدافع الحرب المستعرة بين جيش نابليون بونابرت والحلفاء الأوربيين في ألمانيا، ولد ريتشارد فاجنر في 22 مايو 1813، بمدينة لايبزيغ الألمانية.

مات أبوه وهو صغير وتزوجت أمه من آخر وكان ممثلًا وكاتبًا ورسامًا، وذلك من حظ فاجنر، حيث رعاه الرجل فنيًا، ولكن المثير أن الطفل لم يكن يحب الرسم ولا العزف على البيانو كما يريد زوج أمه!

كان فاجنر يحب تأليف القصص، خصوصًا ما يتعلق بالعفاريت والأشباح، لكنه رويدًا رويدًا بدأ يداعب البيانو الذي أحضره له زوج أمه.

ظلت ميول فاجنر الأدبية طاغية عليه، حتى وصل مرحلة الجامعة، وترجم أجزاء كبيرة من ملحمة الأوديسا لهوميروس، وكذلك كان متيما بشكسبير.

لكنه بدأ تدريجيًا يتجه للموسيقى، وحين بلغ 18 عامًا كان ملمًا بكل أعمال بيتهوفن، لكنه لم يتراجع عن حبه للأدب، وساعده ذلك حين نضجت موهبته الموسيقية أن يكتب نصوص الأوبرا التي يؤلفها.

أول أوبرا مكتملة له كانت «الهولندي الطائر»، والتي قيل إنه كتبها ووضع موسيقاها من وحي رحلة حقيقية خاضها هو وزوجته على سفينة، وهي أوبرا مليئة بالجو الأسطوري، الذي نشأ على حبه منذ طفولته.

توالت الأعمال الأوبرالية لفاجنر بعد ذلك، وتشكلت لديه رؤية العمل الفني الشامل أو الدراما المصحوبة بموسيقى تتولى شرحها، وهو ما ظهر في عمله الخالد «خاتم النيبلونغ»، وهو أوبرا ضخمة مكونة من 4 أجزاء، كل جزء منها يعتبر عملًا كبيرًا مستقلًا في حد ذاته، ولذلك اعتبرها الألمان فخرًا وعنوانًا لفنهم لا يقل عن الإلياذة والأوديسا لدى الإغريق.

وهذا الاتجاه الذي ابتكره فاجنر يعتبره البعض أساسًا لما عرف بالموسيقى التصويرية السينمائية في ما بعد، وكذلك هناك شبه اتفاق بين النقاد على أن الشخصيات الشريرة في الأوبرا هم اليهود، الذين كان يكرههم فاجنر ويفصح بذلك علانية، وفكرة إعجاب أدولف هتلر بفكره وأعماله ليس جديدًا أن نطرحه.

بعد هذا العمل صار فاجنر من أهم الموسيقيين في العالم، ولكنه كان يحب إيطاليا التي كان جمهورها يعشقه، فذهب إلى هناك حين اعتلت صحته مع تقدمه في العمر، وأقام في البندقية.

توفي فاجنر في البندقية عام 1883، ولم تر إيطاليا وقتها حزنًا، كالذي حزنته جماهيرها عليه وقتها، وبخاصة أنهم نقلوا جثمانه إلى بايرويت في ألمانيا، حيث القبو الذي كان قد بناه بمنزله هناك، وكتب عليه في حياته: هنا، حيث ترقد أحلامي في سلام، اسمي منزلي، سلام الأحلام».

شارل جونو: الموسيقى في خدمة الدين

الموسيقار شارل جونو
الموسيقار شارل جونو

وُلد شارل جونو في باريس لعائلة فنية، حيث كان والده رسامًا وأمه عازفة بيانو، في 17 يونيو 1818م.

كان شغوفًا بالرسم والموسيقى معًا، ولكنه حسم الأمر لصالح الموسيقى بسبب شغفه الكبير بالأوبرا، فدرس بمعهد كونسرفتوار في باريس، وخلال هذه الفترة تأثر بشدة ببيرليوز الذي قابله أثناء الدراسة.

وقال جونو لاحقًا إن بيرليوز وموسيقاه كانت من بين أعظم التأثيرات العاطفية عليه في شبابه، بخاصة وأن بيرليوز حين استمع إلى قطعة ألفها الشاب الدارس جونو، قال عنه: كل شيء في القطعة جديد ومميز، لقد أعطى دليلاً على أننا قد نتوقع منه كل شيء.

بعد تأليفه 3 أعمال، فاز جونو بجائزة بريكس دي روما الموسيقية الأكثر شهرة في فرنسا، وبسببها سافر إلى إيطاليا في منحة دراسية، وبعد ذلك سافر إلى النمسا ثم ألمانيا، وانطلق بعدها الموسيقار الشاب.

كان شديد التدين، وبعد عودته إلى باريس، فكر لفترة وجيزة في أن يصبح كاهنًا، ويظهر تدينه في أن أغلب أعماله دينية، وهو الأمر الذي حد من انتشاره تاريخيًا.

تنقل جونو كثيرًا بين إنجلترا وفرنسا، وتوقف عن العمل كثيرًا.

كانت نظرة النقاد لأعماله سلبية إلى حد ما، فهم ينظرون إليها باحترام، ولكنها توصف بالقديمة التي لا تعبر عن روح العصر.

توفي جونو في سان كلاود بالقرب من باريس عن عمر يناهز 75 عامًا، لكن التاريخ حفظ له مكانته، وما زالت بعض مؤلفاته للأوبرا من الأعمال التي يحتفي بها العالم، بخاصة «أوبرا فاوست».

بيزيه: قتلوه شابًا وخلدوه ميتًا

موسيقار عظيم لكنه كان سيئ الحظ، ويجوز قليل الثقة بنفسه، مات وعمره 37 عامًا، قبل أن يحتل المكانة التي يستحقها، بنوبة قلبية، جاءته في وقت كان يعتقد خلاله أنه فاشل، وذلك بعد 3 أشهر من تقديم عمله الخالد الأشهر «أوبرا كارمن».

ولد في 25 أكتوبر 1838، وسُجل باسم ألكسندر سيزار ليوبولد، لكنه تعمّد في الكنيسة باسم «جورج» في 16 مارس 1840.

والده كان مصففًا للشعر قبل أن يتجه للغناء وتأليف الشعر، وكانت والدته عازفة بيانو ماهرة، وأنجبا طفلهما الوحيد ألكسندر (جورج فيما بعد).

أظهر جورج استعدادًا مبكرًا للموسيقى وسرعان ما التقط أساسيات التدوين الموسيقي من والدته، التي ربما أعطته دروسه الأولى في العزف على البيانو ربما بالإيحاء، وهو يسمعها تعزف.

من والدته تعلم أداء الأغاني الصعبة بدقة من الذاكرة، وطور القدرة على تحديد وتحليل الهياكل الوترية المعقدة.

أقنع هذا النضج المبكر والديه الطموحين بموهبة ابنهما فتقدما به إلى الكونسرفتوار في باريس، رغم أنه كان في عامه التاسع، وسن الالتحاق القانوني بالمعهد كان 10 سنوات، ولكن الأساتذة انبهروا بموهبة جورج، فاستثنوه من شرط السن.

أول محاولات للتأليف الموسيقي بدأها بيزيه وعمره 12 عامًا، بمؤلفات صغيرة، وفي عمر الـ15 أعد أغنيتين هما «Petite Marguerite» و«La Rose et l’abeille»، وفي عمر الـ17 ألف سمفونية ولكنه لم ينشرها، خوفًا من الفشل، بخاصة وأنها كانت متأثرة بشارل جونو، ولم تُعزف طيلة حياته، لكن عثر على نوتها وعزفت عام 1935، بعد رحيله بسنوات طويلة.

واستمرت محاولات الشاب وأعماله تتوالى، إلا أنه كان دائمًا غير راض عن نفسه، رغم النجاحات النسبية، حتى جاء عام 1874، حين بدأ في وضع موسيقى أوبرا كارمن التي كتبها بروسبير ميريميه.

العمل من الناحية الموسيقية كان مرضيًا لبيزيه، وكان لديه شعور بأنه وضع به كامل خبرته ومهاراته، حتى إن الأوركسترا أثناء البروفات كانت تتوقف لصعوبة عزف جمله الجديدة المبتكرة، لكنه كان يخاف من استقبال الجمهور للأوبرا بسبب قصتها التي تتحدث عن الخيانة وتقدم نماذج إنسانية سيئة.

رغم كل الصعوبات عرض العمل في مارس 1875، ولكن استقبال الجمهور والنقاد له كان سلبيًا، بل ووجه بيزيه باتهامات بالتأثر بجونو، وذُكِر أن جونو قال: «لقد سرقني جورج»! وأنه أخذ الأجواء الإسبانية منه، وغلفها ببعض التعديلات، فكان عمله كـ«الصلصة التي تغطي السمكة حين طهيها»!

كانت صدمة بيزيه كبيرة فضاعفت من آلام قلبه الذي أرهقه التدخين الشره، وتعددت النوبات التي تهاجمه، كما بدأ يعاني من التهابات حادة في قصبته الهوائية، حتى مات في نوبة قلبية يوم 3 يونيو 1875، قبل أن يكمل عامه السابع والثلاثين.

شيع جثمانه الآلاف ومنهم كبار الفنانين في باريس، وأثناء إلقائه كلمة تأبين انهار جونو حزنًا عليه، وبدأت الصحافة التي كانت تهاجم «كارمن» تحتفي بها، وتعتبر بيزيه من كبار الفنانين.

لماذا هؤلاء من دون غيرهم؟

حاولنا الوصول إلى إجابة عن السؤال المحير؟ لماذا هؤلاء فقط، من دون غيرهم من الموسيقيين الأوروبيين، وهناك الأشهر منهم لم يوضعوا على سقف أوبرا الإسكندرية؟

في البداية تتبعنا خيط «مصر» في أعمال هؤلاء، فوجدنا أن 4 منهم ألفوا أعمالاً عن مصر بالفعل، وهم: موزارت الذي ألف أوبرا الناي السحري:

https://www.youtube.com/watch?v=Zdr9I1MJ3VA

والأوبرا تحكي عن قصة خرافية، بطلها أمير مصري وملكة شريرة، لأجل فتاة أحبها هذا الأمير، وتدور أحداثها في مصر.

كذلك وجدنا أن برليوز ألف أوبرا « l’enfance du christ» أو «طفولة المسيح» والتي تتناول رحلة العائلة المقدسة إلى مصر:

كذلك ألف روسيني أوبرا «موسى في مصر» والتي تتناول الصراع بين النبي موسى وفرعون مصر:

وأشهرهم بالقطع كان فيردي، الذي ألف موسيقى «أوبرا عايدة»، التي تحكي عن صراع بين مصر إثيوبيا في زمن الفراعنة:

لكن باقي المؤلفين: فاجنر، جلوك، بيزيه، وجونو، لم يحتكوا بمصر في أعمالهم، فلماذا كتب قرداحي أسماءهم؟ ما زال السؤال يبحث عن إجابة.

تتبعنا التاريخ الفني، فوجدناهم ينتمون لعصرين مختلفين نسبيًا، بعضهم ينتمي للعصر الكلاسيكي والآخرين ينتمون للعصر الرومانسي… ليست هنا الإجابة.

بدأت أخرج من المصادر المكتوبة للمصادر الحية، فتناقشت مع المؤلف الموسيقي الدكتور هشام خلف، والدكتور مصطفى محمد رئيس قسم الغناء بمعهد الكونسرفتوار، والمؤلف الموسيقي والأستاذ بالكونسرفتوار المايسترو أحمد الحناوي، فلم أجد رابطًا مشتركًا، سوى أن هذا مزاج بدر الدين قرداحي وأن هؤلاء هم موسيقيوه المفضلون، فكتب أسماءهم على سقف مسرحه، أو أن «السقف خلص» ولم يتسع لكتابة أسماء أخرى، بتعبير الدكتور أحمد الحناوي الساخر!

لكن الرابط الوحيد الواضح، أنهم جميعًا برعوا في التأليف الموسيقي لقالب الأوبرا وأعطوه اهتمامهم الكبير.

المراجع
  1. «Richard Wagner and the Jews» لـ Milton E. Brener
  2. The Mozart Family: Four Lives in a Social Context لـ Ruth Halliwell
  3. Gluck. Sein Leben. Seine Musik لـ Gerhard Croll و Renate Croll
  4. The lives of the great composers لـ Schonberg, Harold C
  5. «مدخل إلى الموسيقى» أوتو كارويي
  6. «نزعة إلى الموسيقى» أوليفر ساكس
  7. « قصة الموسيقى الكلاسيكية» محمد زكريا توفيق
  8. «الإرث الضائع» لنور الدين التميمي
  9. «تطور الموسيقى والطرب في مصر الحديثة» لعبدالمنعم الجميعي
  10. «تاريخ مسرح زيزينيا بالإسكندرية»، دراسة للدكتور سيد علي إسماعيل