أهم 7 مخرجين في تاريخ السينما الإسبانية
في سلسلة من المقالات سوف نتنقل بين بقاع العالم كلها لنزيد من رصيدنا البصري من خلال التعرف على أفضل ما أنتجته كل بلد ذات أهمية سينمائية ما. بحسب ما جمعت من تقديرات ختمتها بتقديري الشخصي, فإن إجمالي الإنتاج السينمائي (سينما – تلفزيون – فيديو – تسجيليات) في تاريخ الشاشة طيلة قرنها الأول ونحن على أعتاب العقد الثالث من القرن الثاني للسينما، قد تخطى المليون عمل بصري في أدنى تقدير.
إن مفهوم السينما يحمل أبعاداً قد مزجت في عصرنا هذا بين مفهومي الفيلم والمسلسل, وصار لا ينظر إلى التلفزيون بازدراء مقارنة مع السينما (في أعلى تقدير كان يعتبر التلفزيون والفيديو أبناء لها وما زالوا بالفعل ولكن صار للابن استقلاله).
المقصود بالسينما هنا مفردة السيئمائيات العالمية، أي كل الإنتاج السينمائي الخاص ببلد ما مؤطرة بلغتها وثقافتها الخاصة، وأفضل ما تنتجه أي سينما في العالم متمثل في مخرجيها، لذا هذه هي سلسلة من القوائم، كل مقال فيها معنون بـ أهم سبعة مخرجين في السينما الفلانية. ونستهل السلسلة بمقالنا الأول؛ أهم 7 مخرجين في السينما الإسبانية.
1. لويس بونويل
الأول هو بلا منازع لويس بونويل الذي يجسد السينما الإسبانية في كامل رونقها، إنه علم سينمائي يوازي ما يتركه ذكر اسم بورخيس على الذاكرة في الأدب الإسباني. ولو كان جان لوك جودار هو شكسبير السينما العالمية فإن لويس بونويل هو بورخيس/ها. ويتشارك كلاهما، وبخاصة بورخيس عبر قصصه، في تفكيك المجتمع، على العكس من شكسبير الذي كان يعمل عبر مسرحياته على تحليل شخصياته.
مع ذلك يتفق العظماء في سمات العظمة، ويتبادل كل منهما الألقاب، مثلًا بورخيس يحوز على لقب (شكسبير القصة القصيرة). وقد عاش لويس بونويل القرن العشرين بطولة (ولد عام 1900، وتوفي سنة 1983) فلم يفته سوى أقل من ربع القرن عند مطلع الألفية، وخلال كل هذه السنوات الطوال، وعبر مسيرة سينمائية خمسينية (أي امتدت مسيرته الفنية إلى نصف قرن)، أخرج خلالها أكثر من ثلاثين فيلماً موزعاً بصرياً على مراحل السينما الكبرى (الصامتة، الرمادية، والملونة).
وفي أفلامه، يقدم بونويل نقداً صريحاً وصادماً للقيم البرجوازية (طبقة الأعيان) والدينية والعائلية، ولمؤسسات الدولة، من خلال رؤية ثورية، تتحد فيها النظرة الماركسية والفرويدية، موظفاً المخيلة السوريالية والدعابة التهكمية.[1] وغزارة الإنتاج هذه تُفسر حين نسمع مقولة سينمائية شهيرة يتداولها العاملون في المجال أن بونويل وهيتشكوك هما أسرع مخرجين وأكثرهم ثباتاً وإحكاماً في قيادة الممثلين أمام العدسة. وكلاهما مؤسس للسينما كما نعرفها اليوم من خلال آليتي التصوير والمونتاج دون أي إضافات أو بهرجات مثل المعمول بها اليوم من معالجات حاسوبية وخلافه.
أهم العناوين التي قدمها هي كلب أندلسي، وسحر البرجوازية الخفي، وأرض بلا خبز، حسناء النهار، والعصر الذهبي، وسيمون الصحراء، فيريديانا. والتي أدرجهم الناقد آموس فوجل ضمن قائمة أفلامه ذات الطابع التدميري في السينما، ويمكن أن نضيف إليهما فيلم هذا، وفيلم الحياة الإجرامية عن قاتل لا يقتل.
الكلب الأندلسي والعصر الذهبي، هما أهم أفلامه على التوازي وقد أخرجهما في أول حياته الفنية، بخاصة كلب أندلسي بالتعاون مع الفنان الإسباني العظيم سلفادور دالي الذي شارك في إخراجه وإخراج فيلم آخر أيضا وفق ما أتذكر (ما يجعله صالحاً للمنافسة على مرتبته الخاصة في هذه القائمة).
هذان العملان من درر السينما السريالية حول العالم، التي لا تزال مستمرة أمريكياً في سينما ديفيد لينش اليوم. يعرض فيلم العصر الذهبي مقتطفات سينمائية من سينما بونويل، وكأنه يستعيد نفسه إلى الذاكرة قبل أن تطغى شهرته، في الوسط، في الفيلم الطويل، هناك تركيز على قصة حول رجل وامرأة يحبان بعضهما ويتم إحباط زواجهما بسبب اعتراضات الأهل والمجتمع والكنيسة، دون تقديم أي أسباب مقنعة أو حقيقية تبرر ما يمنع ارتباط رجل وامرأة (في الحلال فما بالك اليوم وقيم التحرر في كل مكان).
وبالنسبة لعدد كبير من النقاد والباحثين، محللين ومنظرين، وكل ناقد له ثقله، يعد لويس بونويل أعظم مخرج سينمائي على الإطلاق. فهو الذي نقل السينما من المرحلة التأسيسية إلى الريادة التجريبية ومن ثم ترسيخ السرد السينمائي بصفته الفن المهيمن على كل الفنون في العالم. وخلع عليها عباءة الحداثة (الفلسفة الرئيسية في الزمن المعاصر) والتي لازمت السينما إلى يومنا هذا بغض النظر عن السقطات المتتالية لما يعرف بالسينما الكلاسيكية (والانتقال إلى صور أخرى مثل التلفزيون أو الفيديو أو حتى البث الحيّ المسرحي وغير المسرحي، الذي تنامى في ظل التوسع والتطور الرقمي مؤسساً لعالم افتراضي جديد غير السينما؛ الإنترنت). وقد نجح في ذلك كماً وكيفاً، ويمكن أن نورد أهم سبعة منهم لبيان الكيفيات التي تمظهرت فيها أهميته كعبقرية سينمائية منقطعة النظير، لولا أنه مساحة المقالة لا تسمح سوى بإشارة إلى فيلم ثالث يرد ذكره وحيداً رغم أهميته السينمائية والسريالية؛ أرض بلا خبز، وجسد فيه بونويل كابوسه الأكبر عن بيئة تناقض تماماً حياة الثراء والرخاء التي نشأ في ظلها.
2. بيدرو ألمودوبار
لم أحب بيدرو، ولكني مضطر أن أنقل لكم عبقريته المشهودة والمشهود عليها من قبل عديد من النقاد والمنظرين للسينما، وأنا أرى أنه ليس بهذه العبقرية المزعومة وإن كان ربما مستحق لوجوده في هذه القائمة، أو بين الثلاثي الأول حتى. وأرى أن الأكثر استحقاقاً بأسبقيته هو أليخاندرو آمينابار الذي نقابله في المرتبة الثالثة (فقط لأني تعودت على ترتيبهما هكذا!). وبيدرو ألمودوبار Pedro Almodóvar ولد عام 1949، ويعد أحد الأشهر من بين ثلاثة من صانعي الأفلام في إسبانيا إلى جوار لويس بونويل وكارلوس سورا (الذي أزاحته إلى المرتبة التالية). تتميز أفلامه بطابع غريب، في العرض والسرد، أو داخل الحبكة مثلما خارجها، وخارجها ألوان زاهية وفاقعة، تميل دائماً إلى الأحمر والأصفر والأخضر والأزرق, وأيضاً الأبيض، حتى في ملصقات أفلامه.
وهو طابع بصري يمكن أن يلاحظه أي متذوق للسينما، مثل الناقد أحمد عزت الذي حاول شرحه جماليات اللوحة اللونية في الصورة السينمائية لبيدرو ألمودوفار [2].
وأعلم جيداً أن أفلام بيدرو تلعب على وتر العبث حول التيار النسوي مما يعطيها شعبية جارفة بخاصة على الصعيد النقدي النخبوي. وبخاصة تلك الأفلام التي قدمها مع بينلوبي كروز وهي ستة أفلام بحسب ما أذكر. وأفلامه كلها تقريباً تقوم على نفس الخلطة السينمائية ونفس خليط العواطف -يلقب بيدرو بمخرج الجسد والمشاعر- من الناحية السردية. والمخرجون في إسبانيا، وفي أمريكا يقعون دائماً في خطأ التكرار عند محاولتهما الاحتفاظ ببصمة سينمائية مميزة. وربما المخرجين في كل مكان فلا يكاد يفلت عن ذلك سوى السينما البريطانية ربما (أو هو مجرد تفضيل شخصي ليس إلا). مع ذلك، هناك متعة مكنونة في أفلامه، ربما يمكن فهمها ومعايشتها من وجهة نظر المواطن الإسباني نفسه. ولكنها لا تعلق في ذاكرتي أكثر من تذكري لجمال بينلوبي الذي لا يُنسى بالطبع. وربما بعض الدروس المستفادة حول قهر النساء في عصر الرجال (عصر المال والأعمال). وسبب إصراري على هذا المخرج هو هذه التيمة التي أحاول الحفاظ عليها مع أفلام الإسبان (نقد الرأسمالية)، كما إني قد أحب أفلامه أكثر مع مرور الوقت.
3. أليخاندرو آمينابار
أليخاندرو آمينابار هو ثالث ثلاثة في السينما الإسبانية، أو هكذا بالنسبة لي، ويمكن تصنيف أليخاندرو كمخرج رعب رفيع المستوى رغم أنه لم يخرج سوى ثلاثة أفلام فقط في هذا النوع، دار دورته بين فيلمي فرضية Thesis 1996 وتراجع Regression 2015، فهي أضعف أفلامه. أما الفيلم الثالث, فحتى اليوم يعد واحداً من أقوى أفلام السينما وأكثرها إرعاباً بنهاية تعلق في الذاكرة. الآخرون، باسم موحي ومعالجة مختلفة لرواية دورة اللولب The Turn of the Screw 1898 التي تعد بدورها واحدة من أهم روايات الرعب في تاريخ الأدب القوطي وتاريخ الأدب قاطبة وقد اختلف النقاد في وضع تفسيرات لها وطبيعة الشرّ الذي يلمح له الكاتب هنري جيمس في عمله الخالد ذلك، ما ساعد صناع العمل في الأخذ جزئياً عنها.
والفيلم يعطيني تصور -أو هكذا أريد أن أتخيل- أنه يلقي ظل على الشرّ والرعب الناتج عن آثار الحرب حتى قبل اندلاعها في زمن الرواية، أو أثناءها وبعدها داخل زمن الفيلم. والحرب ليست إلا لعبة رأسمالية أكثر صراحة من الألعاب المالية، وهو ما يشير إليه المخرج نفسه في فيلم آخر أثناء الحرب While at War 2019. فيلم الآخرون, والذي يحتاج مقالة لحالها للحديث عنه (وهو ما خصصناه لـ الفيلم / المخرج الأخير في هذه القائمة)، هو تكرار لخدعة قام بها المخرج من قبل في فيلم افتح عينيك Open Your Eyes 1997، الذي يعد من العلامات المميزة في سينما الغموض.
4. كارلوس سورا
بشكل أو بآخر اعتبر فيلم الصيد The Hunt 1966 نقداً للرأسمالية، والفيلم باختصار يتتبع مجموعة من الصيادين في يوم عادي لاصطياد أرنب، وينتهي في خاتمة صادمة حين يقتل الصيادون بعضهم في إشارة واضحة لأن من يقتل حيواناً، يمكنه أن يقتل إنساناً. هذه المحاولة منه أو مني للربط بين الرأسمالية وكل الشرور في العالم لا تنبثق بالضرورة عن نزعة اشتراكية بقدر ما هي دعوة للمشاركة. مشاركة الناس همومهم.
وفي مجموعة المقالات السينمائية تلك، نركز دائماً على ثلاث خصال رئيسية؛ المساحة الجغراثقافية، وهي هنا إسبانيا والسينما الإسبانية، والتسلسل الأركيولوجي بمعنى التعاقب الزمني عبر تتبع الآثار الثقافية، وهي هنا الأفلام المنتجة على أيدي مخرجين كبار منذ السينما الملونة وصولاً إلى عصر الصور المخلقة حاسوبياً.
السمة الثالثة هي التركيز على موضوع رئيس يجمع أعمال مجموعة المخرجين المذكورين في كل مقالة ضمن فئة إبداعية شبه متشابهة. والفئة التي نقصدها هنا هي (نقد الرأسمالية) عبر أفلام سينمائية مهمة، يحسب المرء أنها كانت محصورة على أوروبا (وبخاصة إسبانيا) على الرغم من كونهم مبتدعي الرأسمالية كما هو معلوم. والمعلوم أيضاً أنه يمكن النظر وتفكيك المجتمع رأسيا إلى طبقات، وأفقياً إلى علاقات (ينظر إلى أن هذه النظرة دائماً قرينة الشيوعية). الخط الرأسي ينبثق عنه التياران الأكثر شهرة في علوم السياسة والاجتماع والاقتصاد؛ الرأسمالية والاشتراكية. الخط الأفقي يخرج عنهما أكبر تكتلين مرجعيين لتصنيف كل التيارات السياسية؛ اليمينية واليسارية. ويمكن تخيل هذه التقسيمة الاجتماعية على شاكلة خطين متقاطعين أحدهما رأسي والآخر أفقي أو على شكل زائد +. هذا الفيلم، يتحدث عن كبس العلاقات الأفقية تحت ضغط الطبقات الرأسية، ومن ثم مزيد من الضغط من أعلى وأسفل ومن خلفه ومن بين يديه، ومن ثم يحدث انفجار.
5. فرناندو أرابال
وفيلمه الأول هو يحيا الموت؛ أول أفلامه، وهو الكاتب الطليعي الشهير، وربما من أكثر الأفلام ضراوة وعنفاً في تاريخ السينما. آرابال يوظف العنف والجنس وسيلة تطهر وتحرر ثوريين. إنها صرخة رهيبة، مفعمة بالألم من أجل الحرية.
صور هذيانية يمزج فيها آرابال (وهو يذكرنا هنا ببونويل وكوزينسكي) الحقيقة والوهم أو الواقع والحلم (الذي هو عبارة عن كوابيس) من وجهة نظر صبي في الثانية عشرة من عمره، يعيش في مرحلة صعود الفاشية واستلام في كل مشهد تحدث انتقالات سريعة، يصعب تمييزها، من الواقع إلى خيال الصبي، تكتنفها صور قاسية (تعذيب رهيب، عنف، موت، سادية بدائية) تغمر المتفرج لا لأنها تفرض نفسها عليه وإنما لأنها -على وجه التحديد- تنشط مخاوفه ورغباته الكامنة في اللاوعي.
في هلوسات الصبي المعذبة نلمح: ألغاز المراهقة وخفاياها، إغراء الغريزة الجنسية المبهم لارتكاب الخطيئة، ممارسة الحكومة للإرهاب المتعذر تفسيره أو تعليله، الاشتباه المخيف بأن الأم مسؤولة عن غياب الأب وبأنها وشت به وسلمته إلى السلطة.
الفيلم وثيقة عن المراهقة الكاثوليكية، إبان الحرب الأهلية، طافحة بالتجديف والاهتمام بالموضوعات الداعرة والرغبة في الاتصال الجنسي المحرّم. وقد منعت الرقابة الفرنسية عرض الفيلم ثم تراجعت عن قرارها وسمحت بعرضه.
المشاهد الكابوسية تتضمن صوراً تلفزيونية وصوراً سالبة ملونة معالجة ببراعة، خالقة بذلك غموضاً تعبيرياً غريباً يجعل الرعب أكثر انتشاراً وتغلغلاً. والمرعب بوجه خاص ذلك الاستخدام المتكرر لأغنية أطفال هولندية يتحول سياقها إلى مجاز عن البراءة التي لوّثها الفساد.
الفيلم مليء بهواجس آرابال الذاتية، وقد رفضه البعض باعتباره وثيقة نرجسية مرضية بينما هو في الحقيقة ينقلنا عبر اضطراب وهيجان تخيلاته الهائلة، وعبر العنف، إلى حالة نستعيد فيها الأمل المحتمل، وإلى حركة إنسانية جديدة وصلبة تأتي كنتيجة حتمية لوجود فرانكو ومعسكرات الاعتقال والقنابل الذرية وفيتنام.[3]
وكلها شرور تبدو وكأنها شيوعية، وهي كذلك بالفعل، بقدر ما فيها من رأسمالية، فنحن لا ندين تلك أو ذاك إلا بقدر ما يعيبنا نحن البشر وجودنا كبشر، وحتى المنظومات الإسلامية التوفيقية أو التلفيقية في أغلبها تعجز عن تحقيق أي منظومة اجتماعية ناظمة للفعالية الإنسانية إلا في طوباويات سماوية استعاض عنها أرابال، وهو الكاتب، والشاعر، والمسرحي والرسام صاحب السبعة أفلام والثلاثة عشر رواية، وعديد من النصوص المسرحية والمقالية, بجحيم ذاتي مثل تداعيات ألمودوبار من الذاكرة، بخاصة في فيلمه الأول الذي ينتج عن صدمة فقده لأبيه, في اختفاء غامض يُكشف عن سببه لاحقاً بأنه اعتقل، ثم حكم عليه بالإعدام، وأُحرق حياً. ولا يكتفي الفيلم بقصة المؤثرة، ولا ببيئته القصصية الغريبة, بل ويوغل في لغة سينمائية مستعادة من الذاكرة، عبر لوحات رولاند توبور، ومختارات بصرية لحيوانات ممزقة تشبه فيلم المسلخ لـ جورج فرانجو.
6. أليكس دي لا إغليس
ينتمي الراحل كارلوس سورا إلى الجيل الأول للسينما الإسبانية مع لويس بونويل (بأسبقية لبونويل بالطبع) وبيدرو ألمودوبار وفرناندو أرابال ولويس جارسيا.
وهذا لا يفسر إقحام أليخاندرو آمينابار في مرتبة متقدمة إلا إذا أردنا الإشارة إلى اعتباطية الترتيب من أصله. رغم حرصنا على الترتيب الزمني بخاصة وأن أليكس دي لا إغليسيا ينتمي تقريباً إلى نفس الفئة العمرية مع أليخاندرو آمينابار (كلاهما في الخمسينيات من عمره).
ولكنه تسلسل ضروري من أجل إفساح المجال للمخرج التالي الذي لم يبلغ الخمسين بعد (حتى وقت كتابة هذا المقال). وهو مخرج صالح ليكون مشروع إنتاج سينمائي لأفلام الرعب؛ أدرجته بعد أن قاومت رغبة ملحة لإقحام أحد المخرجين الأقل شهرة وربما الأخف أثراً، ومن هؤلاء صانع فيلم التسجيل 2007 جيوم بلاجويرو الذي اشتغل فقط على سينما الرعب في مسيرته الفنية. كنت أحتاج مخرجاً من ذوي الدماء الجديدة، وإلا لكان إغليسيا هو الأصلح لإضافته هنا لاشتغاله الطويل في سينما الرعب والغرابة. جميع أفلامه تدور حول الموت والقتل والخوف. الخوف من شيء ما.
وأفلامه ثرية في حواراتها الذكية وأحداثها الغريبة وإن كانت تتسم بعض أعماله بغباء مفرط بالطبع. مثل فيلمه الحديث فينيسفرينيا Veneciafrenia 2022. في فيلمه الحانة 2017 والفيلم بأكمله يدور داخل مكان واحد مغلق هو الحانة التي يلتقي بها مجموعة من الغرباء تقابلوا صدفة وكل واحد سوف يحصل على طلبه ويذهب إلى حاله، يحاصر الجميع من قبل قاتل مترصد لهم بقناصة. اقتنص منهم شخصين وتبقى ثمانية. أثناء الحصار نكتشف أن الحكومة والشرطة ضليعة في الأمر.
مع الوقت نعرف أن الفيلم هو تكرار لنفس الحدث في فيلم التسجيل، ولحدث آخر تاريخي، في ظرف سياسي يقضي بالقضاء على الجميع من أجل احتواء خطر حيوي مجهول.
الفيلم ممتع وشيق ومخيف دون أن يكون فيه أي ظهور لزومبي ولا لميت حي إلا لشخص واحد لا نحسبه ميتاً، ثم لم يعد حياً. يقدم العمل نقداً للمنظومة ككل، هذا الخيار (بقتلهم أو إعدامهم) نابع من احتكارية الشركات التي لا تختلف عن شيوعية الحكومات، وكل الحكومات رأسمالية أو شيوعية، تعد شيوعية بشكل أو بآخر لأنها تزعم امتلاكها مقاليد الأمور، ولكل شيء وللأنفس قبل النفائس، وفي أي لحظة يجد شخص ما، ليس موظفاً ليتم طرده من الشركة (والفيلم فيه إشارات عديدة للوظائف البسيطة التي قد تحول الناس إلى حيوانات) بل مجرد مواطن لا ينبغي طرده من الحياة.
هذا النقد نجده واضحا أكثر في مسلسل 30 عملة 30 Coins الذي عُرض منه حتى الآن موسم واحد في 2020. وأعمال إغليسيا مزيج فريد بين الكوميديا السوداء والرعب الكوميدي ويقنعك حقاً أنه يمكن للكوميديا والتراجيديا (الرعب والضحك) أن يجتمعا (وكم ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكاء) على قولة المتنبي. وكأنه يقصد هنا جميع الأمصار.
وأعمال إغليسيا تحوي قدراً كبيراً من الغرابة التي تبهرنا عن السينما الإسبانية أو الكورية (يجب أن نتعرف على سينمات العالم أكثر) هي تقدم نظرة مختلفة إلى الأشياء يكشف جوهر الاختلاف الذي أراه أساساً صالحاً للسينما في أي زمان، وللتقريب الفهم إلى الذهن أكثر، نقترح مشاهدة فيلم أبجديات الموت 2012، أو حكايات برية، أو ثلاثية الموت لـ أليخاندرو غونزاليز إيناريتو، وهي مختارات سينمائية من السينما الإسبانية في الجانب الآخر من الأطلنطي (المكسيك والأرجنتين).
7. غالدر غازتلو أوروتيا
بفيلم واحد وحيد نختم قائمتنا بحضور هذا المخرج ذي المسيرة الواعدة وكلي أمل ورجاء ألا يخيب ظننا في هذا المخرج صاحب الاسم الإسباني الثلاثي غالدر غازتلو أوروتيا Galder Gaztelu-Urrutia، والذي وحتى وإن فشل لاحقاً، ورغم أني لا أقبل بوجود مخرج واحد وفيلم وحيد، إلا أن هذا استثناء ضروري تقتضيه ظروف العصر الذي نعايشه اليوم ومنذ تفاقم أزمة الوباء العالمي كورونا في نفس عام إنتاج الفيلم، والظروف تضيق أكثر على الفقراء، بينما لا نلحظ أي تأثر واضح على الأثرياء الذين يسلكون طرقاً وعرة ومرهقة صعوداً على أكتاف / رؤوس هؤلاء الذين يعيشون ويموتون وهم بالأسفل.
وفق نظام رأسمالي معروف ومعترف به عالمياً عدا في دول الشرق (أدناه وأقصاه)، التي يتم التعامل معها على أنها بلاد (غريبة عن العالم) وفيها بشر غير البشر الذين نعرفهم، وحتى قبيل الألفية الثالثة كان الشرق الأوسط منتمياً إلى المنظومة الشيوعية المضادة.
الفيلم يعرض مجتمعاً افتراضياً داخل سجن مصمم ليكون عبارة عن امتداد بين مجموعة من الزنازين المتراصة رأسياً فوق بعضها البعض حيث تمثل كل زنزانة طابقاً يعلو طابقاً ويعلوه طابق ولا وجود لأي باب أو فتحة للخروج عدا فتحة واحدة مهيئة تماماً لعبور مائدة محلقة ومترعة بمختلف صنوف الطعام تعبر يومياً من الأعلى إلى الأسفل عبر هذه الفتحة التي تماثل تماماً حجم المائدة الطائرة أو (المنصة) كما جاء في الترجمة الإنجليزية لعنوان الفيلم الإسباني.
والسجناء لهم دقيقتان فقط لكي يأكلوا قبل أن تنتقل المائدة إلى من بالأسفل. هناك أناس لا يتبقى لهم أي شيء. والسجن يمكن تطبيقه بسهولة على أرض الواقع -مع بعض التغييرات الضرورية وإن كانت شكلية لا تؤثر على المفهوم العام للتصميم- ما يُعطي القصة واقعية تحيلها إلى الوقت الراهن أكثر من كونها قصة مستقبلية من سينمائيات الخيال العلمي، بخاصة وأنه غير محدد وقت واضح لا بالتصريح ولا من خلال التعرف على أي صور مستقبلية قد تبعدنا مسافة عن زمن الفيلم. فعدا المائدة الطائرة نحن لا نشاهد أي سيارات طائرة أو ما شابه ذلك. هو مجرد سجن يمكن تنفيذه تقنياً، وإن كان الفيلم يقدم مقترحاً لنموذج ممتاز وصالح (لدراسة حالة) يعبر عن نمط من السجون الجديدة التي يتطوع بطل الفيلم نفسه فيصبح سجيناً من أجل إجراء دراسة اجتماعية لنيل الشهادة الجامعية، غير مدرك تماماً لأبعاد تضحيته والتي تجعله مساوياً تماماً لكل المسجونين معه دون أي امتياز بأكثر من حرية في اختيار شيء واحد يبقى معه أثناء السجن، وفي العادة يختار السجين سلاحاً، أما هو فاختار رواية سمينة يقضي أشهره في قراءتها وقد وقع اختياره على رواية دون كيخوتة للكاتب الإسباني ميغيل دي ثيرفانتس في إشارة واضحة إلى كوننا ضحايا لظروف اجتماعية قهرية فيما يشبه تبنياً للحتمية التطورية التي اقترحها داروين في نظريته الشهيرة حول الانتخاب الطبيعي، التي تنص بالقاعدة الشهيرة (البقاء للأقوى). وفي ظل هذا النظام تنبثق نوع من العدالة التي تحافظ على (الأكثر تمسكاً بالحياة) وتزيح الأضعف أو قليل الحيلة مفسحة المجال لأشخاص أكثر جدارة. بخاصة مع عشوائية في انتقال السجين من طابق إلى طابق آخر كل شهر (أعلى أو أدنى).
في نفس الوقت مع مقترح (بقاء النظام وتدعيمه عبر السلطة العمودية للإدارة الذاتية) يقترح صناع العمل (من مخرج أو كاتب) في نهاية ملتبسة ومترددة أو مشتتة وجاءت بشكل أضعف من التسلسل القوي للفيلم وغير المتوقع منذ أول مشهد، وجاء المقترح بالإشارة إلى حلين؛ أحدهما عبارة عن (انتظار المنقذ) الذي سوف يكون المسيح أو المهدي أو الزعيم السياسي أو القائد الثوري. والآخر هو الأخذ بمبدأ «لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم». الفيلم يقترح ولا يحكم، فهو وإن جاء في أغلبه نقد صادم، ولكن صادق للمنظومة الرأسمالية إلا أنه يقترح بقاء النظام، بكل ما فيه من عيوب ولكن مع ميزة الانتخاب الطبيعي التي نشهدها اليوم في ظاهرة انتشار كتب التنمية البشرية والكل يحسب نفسه المختار الجديد أو فناء النظام بالارتكان إلى مختار يهتم بالآخرين أو ببساطة يمكن أن نعمل على فناء النظام الرأسمالي إذا اهتممنا بالآخرين، فعلى ما يبدو لا وجود حقيقياً لما يسمى التضامن الاجتماعي. الفيلم يعرض حالة مجتمعية ويكشف مجريات الأمور كما هي تقريبا من دون أي تدخل كبير في حبكته -التي كانت لتكون مكررة لولا تقلب الأدوار داخل الطوابق تارة بالأعلى وتارة بالأسفل- عدا النهاية الغامضة والتي حملت عديداً من التأويلات. إلى حد كبير حاول أن يكون المخرج حيادياً، وربما لذلك السبب لا نرى أي مواقف إخراجية متميزة داخل العمل، ولا حتى أداءات تمثيلية فوق العادة، وإن تقلد الممثلين أدوارهم بتماسك مذهل لم يفصلنا عن أحداث الفيلم. عدا عن ذلك، ركز المخرج على الجانب البصري عبر التقاط زوايا تصوير معبرة بخاصة تلك التي تقدم لنا منظور الحفرة من الأعلى، والحفرة أو الثقب هو الاسم الأصلي الإسباني للفيلم (The Hole). ولأن الفيلم كله يدور حول صراع الطبقات، اختار المخرج (والكاتب) تمثيل هذا الصراع عبر عنصرين غاية في الأهمية داخل أي منظومة اجتماعية؛ المأكل والمسكن. والأكل يجتر معه، عبر قيء ذهني من الذاكرة، عشرات الصور الأدبية والسينمائية المدهشة من أوروبا، وكأن أوروبا وحدها من عرفت (ثورة الجياع) و(عذابات الجوع)!. عناقيد الغضب، وإله الذباب، وآلة الزمن، ومشهد المائدة في لقاء السيدة مولي Molly من رواية الآمال الكبرى Great Expectations لتشارلز ديكنز. والمقولة الشهيرة المنسوبة لملكة فرنسا ماري أنطوانيت «إذا لم يجدوا الخبز.. دعهم يأكلون الكعك»، تم إعدامها لاحقاً تحت المقصلة على أيدي الثوار. أما عن الأفلام فحدث ولا حرج؛ الوليمة الكبيرة La Grande Bouffe 1973، دماء الوحوش Blood of the Beasts 1949 (أو المسلخ)، السجل Rec 2007، مشهيات Delicatessen 1991.
أما عن البناء، فالمساكن، كانت وما زالت معياراً أولياً لتقييم الساكن إن كان من حي راق أم شعبي أو عشوائي. والسجن عبارة عن معمار رأسي يرص الطوابق حرفيا فوق بعضها البعض، في تجسيد حي لمفهوم الرأسمالية على شاكلة عمود رأسي، وفي بناء أسهل ما يمكن تحققه لو استبدلنا المائدة بمصعد كهربائي مفتوح من جنباته، وهذا يعيد إلى الذاكرة العمل الكتابي الضخم للفيلسوف البريطاني جيرمي بنثام وفيه تخيل لسجن تحت عنوان الكتاب الذي احتوى على وصفه وتصميمه؛ سجن البانوبتيكون Panopticon، وهو سجن أفقي عبارة عن زنازين تدور حول برج مراقبة يسمح بمراقبة الجميع دون أن يتمكن أي من السجناء من رؤية من بداخله. وهو النظام المعتمد اليوم في معظم السجون والمعتقلات حول العالم. والفيلم بالتأكيد يستدعي إلى الذكر معادله محطم الثلج Snowpiercer 2013، الذي عُرض في فترة أخرى حرجة عقب ثورات الربيع العربي.
وفي الأخير, يجب أن لا ننسى أن هذا الفيلم, هو أول ظهور إخراجي لصاحبه الذي ننتظر منه المزيد.
- ذلك العبقري الذي جعل الفيلم كقصيدة شعر / أمين صالح / عين على السينما.
- فيلم «pain and glory»: رغبة ملحة في المكاشفة والبوح
- السينما التدميرية / آموس فوجل / دار الكنوز الأدبية, ص 46.