بعد 6 سنوات من هروب بن علي: تونس بعيون أبنائها
من تونس قبل 6 سنوات انطلقت شرارة الانتفاضات العربية من تونس، وهي البلد التي تواجه اليوم تحديات جمة، ومستقبلًا غامضًا، تحاول السطور التالية قراءة الماضي والواقع في تونس، واستشراف المستقبل، عبر استعراض آراء نخبة من الكتاب والصحفيين والمترجمين التونسيين من الشباب.
ماذا تحقق؟ وماذا بقي؟
الكاتب والمترجم التونسي «حبيب حاج سالم» يرى أن الإنجاز الأكبر في الجانب السياسي والمؤسساتي يتمثل في «بناء الحدّ الأدنى من مؤسسات حكم ديمقراطيّ؛ حيث صيغ دستور يحظى بموافقة السواد الأعظم من الأحزاب السياسيّة ومنظمات المجتمع المدنيّ ويؤسس لعقد اجتماعيّ جديد، كما نُظّمت انتخابات برلمانيّة ورئاسيّة، وتعمل هيئة الحقيقة والكرامة المستقلّة على إجراء مصالحة وطنيّة».
لكن في المقابل يرى أن «هذا المسار لم يكتمل رغم مرور ستّ سنوات؛ حيث لم تنظّم بعد انتخابات بلديّة، ولم يقع تنفيذ التقسيم الإداري اللامركزي الجديد للبلاد، كما توجد تهديدات حقيقيّة للحريات ومحاولات لتجاوز الدستور – كما في حالة قانون المصالحة الاقتصاديّة الذي اقترحه رئيس الجمهوريّة – أو تعديله – تسعى بعض الأحزاب لتعديل فصول في باب الحقوق والحريات مع بروز مسألة العائدين من بؤر التوتّر -».
أما من الناحية الاقتصاديّة الاجتماعيّة، فيرى «سالم» أنه رغم تسوية وضعيات عشرات الآلاف من عمال المناولة – الوقتيين -، وتحقيق زيادات مهمّة في الأجور، تبقى المشاكل الاقتصاديّة ونسبة البطالة العالية أهمّ المعوقات أمام تكريس العقد الاجتماعيّ الجديد الذي جاء به الدستور. كما لم يحدث تغيير لمنوال التنمية، حيث ما يزال الاقتصاد قائمًا أساسًا على الضرائب، وموارد السياحة والثروات الباطنيّة، وما يزال الاختلال الواضح في التنمية بين مدن الشريط الساحليّ ومدن الدواخل قائمًا.
ولم تتغيّر سياسة الدولة في الاقتراض الخارجيّ لتغطية عجز الميزانيّة؛ ما يدفع إلى تطبيق إجراءات – تسمى «إصلاحات» – نيوليبراليّة – خصخصة شركات عموميّة، تحرير الأسعار وتقليص الدعم – تطالب بها المؤسسات المانحة.
الصحفية التونسية «نائلة الحامي» ترى أن «ما حققته الثورة في تونس كان خاصة على مستوى الحريات، وهو أمر، على عكس استهانة البعض به، يعتبر مهمًا جدًا خاصة إذا قارنا وضع الحريات في تونس بمعظم الدول العربية الأخرى، وإن كانت هناك ارتدادات من حين إلى آخر، يتصدى لها جزء من الشعب والمجتمع المدني، في فطنة واضحة».
وتوضح الحامي أنه «على المستويات الأخرى، يتخبط التونسي في أزمة اقتصادية واجتماعية، ومن المنتظر أن يزداد ضغط غلاء الأسعار وارتفاع البطالة، خاصة مع تبني قانون المالية الأخير الذي يتبنى بعدًا تقشفيًا قي جزء منه، ويرفع من الضرائب والرسوم إضافة إلى اتجاه الدولة نحو إلغاء التوظيف الحكومي أو تقليله بشكل واسع في السنوات القليلة القادمة».
أما الباحث «كريم مرزوقي» فيرى أن «تونس لا تزال في نهج التأسيس، وهي حاليًا تحديدًا في مرحلة تفعيل مقتضيات هذا التأسيس على ضوء الدستور الذي يمثل أرضية البناء الديمقراطي وخط الدفاع الأول له، الإنجاز الأهم يتعلق بتحرير الفضاء العام بخصوص الحريات الفردية والجماعية، ولكن للآن لا زالت تسعى بعض القوى لكبح جماح تفعيل التأسيس وهو ما يمكن معاينته حاليًا بخصوص تعطيل السلطة التنفيذية لعمل الهيئات الوطنية المستقلة بالإضافة لمحاولتها التأثير على السلطة القضائية».
كما يرى أن النقطة السوداء هي «غياب الغطاء السياسي لمسار العدالة الانتقالية بتونس وهو ما انعكس منذ تقديم رئيس الجمهورية باجي قايد السبسي لمشروع قانون موازٍ للمصالحة الاقتصادية يسمح بالإفلات من العقاب، بالإضافة للتعطيلات التي تواجهها هيئة الحقيقة والكرامة التي تشرف على تنفيذ مسار العدالة الانتقالية».
ويتفق «رضا السكرافي» وهو طالب وناشط جمعياتي مع ما ذهب إليه «مرزوقي»، فتونس بنظره قد «وضعت على سكّة الانتقال الديمقراطي، وتجسم ذلك أساسا عبر تركيز مؤسسات الجمهورية الثانية، ولعل أهمها دستور 2014 الذي جاء مستجيبًا لتطلعات التونسيين في رسم نظام سياسي متوازن يعمل على التفريق بين السلطة وضمان حدّ أدنى من الديمقراطية.
وقد سعى الدستور عبر تركيزه لمجموعة من الهيئات المستقلة إلى ضمان عدم رجوع الدولة إلى سياسة الحزب الواحد وإلى عدم هيمنة السلطة التنفيذية على بقية سلطات الدولة، إلى جانب ذلك ساهمت الثورة في تطوّر دور المجتمع المدني الذي أصبح بفضل قواه الشبابية يمثل سلطة خامسة ووسيلة ضغط لها وزن هام في توجيه الرأي العام وإبلاغ مشاغله، بالنسبة للأداء السياسي للأحزاب السياسية المختلفة».
أما الطالبة بكلية العلوم القانونية والاجتماعية والسياسية بتونس، «أمان العياشي» فتري أن «الثورة لم تقم بعد بتغيير القوانين وإرساء الديمقراطية والإعتراف الفعلي بالحريات والإختلاف». وإن كانت تقر أن «التونسيين قد أصبحوا أحرارًا مقارنة بالماضي،لكن في المقابلل الثورة لم تقم بعد بفرض الديمقراطية بالمعني الصحيح للكلمة».
وتقول العياشي- في وصفها لحال البلاد حاليا- :« تم إقرار العديد من القوانين التي لاشك أنها ضد سياسة التنمية والتطور الإقتصادي والإجتماعي، زادت نسب الإنتحار و الإغتصاب ولم تتدخل الدولة كما يجب. لم يعزف الشباب عن حلمه في الهجرة، لم تتغير منظومة التعليم ولنا أن نتطرق إلى موضوع الأسلحة والتهريب وعلاقة تونس بليبيا وعلاقة تونس بالإرهاب حول العالم »، ثم تضيف «السلبيات متعددة لكن رغم ذلك أنا ممتنة لهذه الثورة ولم أندم يوما، ولن أندم إلى إنضمامي إليها ولم أنكر يوما شرعيتها».
كيف تقيم أداء الأحزاب المختلفة على الساحة السياسية التونسية؟
يرى «حبيب حاج سالم» في معرض تقييمه للتجربة الحزبية في البلاد بعد الثورة أن «مسألة ما يسمى بــ«الإسلام السياسيّ» قد حسمت في تونس؛ حيث تخلى نداء تونس عن الخطاب المضاد للنهضة كحركة ذات مرجعيّة إسلاميّة، في المقابل فهمت النهضة بعد تجربة حكم صعبة وتقييم ما حصل في مصر للإخوان المسلمين أنّها يجب أن تغيّر من نفسها. حيث رفضت المشاركة بمرشّح، أو دعم مرشّح بشكل رسمي في الانتخابات الرئاسيّة، كما أعلنت الفصل بين الجناحين الدعويّ والسياسيّ داخلها. وكانت نتيجة ذلك قيام تحالف بينها وبين نداء تونس».
من ناحية ثانية – كما يضيف «سالم» – يبدو أنّ التحالف وإن وفّر استقرارًا سياسيّا نسبيّا قد فشل على الصعيد الاقتصادي الاجتماعيّ حيث حُلّت حكومة الحبيب الصيد، ووُسّع التحالف ليشمل أحزابًا وشخصيات معارضة في ما يعرف بـ«حكومة الوحدة الوطنيّة» الحاكمة حاليّا. لم يبقَ خارج الحكومة إلاّ الجبهة الشعبيّة، التكتّل اليساريّ الأكبر في البلاد، وبعض الأحزاب الديمقراطيّة الأصغر حجمًا.
وإن كان اليسار بنظر «سالم» يمثّل اليوم الجسم المعارض الأكبر، فهو يعاني بدوره من مشاكل تحدّ من فاعليّته السياسيّة، حيث يبقى امتداد الجبهة الشعبيّة والأحزاب اليساريّة الأخرى في الوسط الشعبيّ محدودًا، كما يطغى على نشاطها الخطاب الاحتجاجيّ والشعاراتيّة في غياب برنامج حكم بديل وواقعيّ.
أما «نائلة الحامي» فترى أن «الأداء السياسي لمختلف القوى الفاعلة في المشهد التونسي كان متذبذبًا، وارتبط في أحيان كثيرة بالسياق العالمي وضغوطات اللوبيات الفاعلة في تونس والعالم. وحتى التحالف الحكومي القائم والذي قوامه حزبا النداء والنهضة فيبدو ضعيفًا، غير متجانس، وقابل للانكسار مع أي معطى جديد يبرز على الساحة التونسية، وهو بشكل عام تحالف لا تقبله قواعد الحزبين وإن أظهرا عكس ذلك من تآلف وتوافق ولا يثق به الشارع التونسي، وقد ساهم في إضعافه انقسام نداء تونس إلى تيارات مختلفة، إضافة إلى خلافات داخل صفوف النهضة، وإن كانت غير واضحة جدًا للعموم لقدرة الحزب ومؤسساته على التكتم في هذا السياق».
وداخل هذا المشهد الذي تطغى عليه ثنائية النهضة والنداء،ترى «الحامي» أن ثمة أحزاب أخرى تحاول «التموقع في المعارضة الراديكالية حينًا أو بالقرب من التحالف الحكومي حينًا آخر، أو في موقع وسط، ضمن تحالفات معينة، للضغط من أجل مصالح معينة”.
كما «تحافظ أحزاب اليسار وأساسًا الجبهة الشعبية، إضافة إلى ما يعرف بـ«الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية» ومنها حراك تونس الإرادة للرئيس الأسبق محمد المنصف المرزوقي والتيار الديمقراطي على معارضتها لتوجه السلطة الحالي، وتحاول الوقوف ندًا له في قرارات البرلمان التونسي وترسل صورة البديل الثالث للنهضة – التيار الإسلامي المحافظ المتصالح ظاهريا بشكل كلي مع النظام السابق – أو النداء – جزء مهم من النظام السابق – لكن هذه الأحزاب تفتقر للوحدة والتجانس أيضًا وتبقى أصواتها أقلية ونخبوية في جزء كبير منها».
ويحلل «كريم مرزوقي» الوضع الحزبي في البلاد، فيرى أن «حزب نداء تونس هو واجهة حزبية هجينة للنظام القديم تم تطعيمه بوجوه مستقلة محسوبة على التيار اليساري أو النقابي، ومهمته الوحيدة حينما تم تأسيسه هو إسقاط الطبقة السياسية التي أتت بعد أول انتخابات ديمقراطية في البلاد وتعديل الكفة في مواجهة هذه القوى الجديدة بعد تحقيق هذه المهمة في انتخابات 2014، انطلقت معركة التموقع داخل الحزب وصراع فرض الخيارات السياسية مما أدى لانقسامه. اليوم رئيس الجمهورية هو الذي يقوم بضبط العملية السياسية في تونس في ظل تفكك حزبه ومحدودية فاعلية بقية الأحزاب، ولذلك أعلن السبسي رغبته في تعديل الدستور لتركيز الصلاحيات بيده وهذا ما يجب اليقظة حوله».
أما حركة النهضة فهي – بنظر مرزوقي – «تعيش تفاعلًا فكريًا داخلها زادها تمايزًا عن الحركات الإسلامية في المجال العربي بعد مقررات مؤتمرها الأخير بالتخصص الوظيفي في الشأن السياسي فقط، ويبدو أنها اتخذت قرارًا استراتيجيًا بالتواجد في السلطة تحت ما يتم تصديره بأنه عمل على الإصلاح من داخل الدولة، وهو خيار بتقديري تأسيسه الحرص على فرض نفوذها داخل أجهزة الدولة في ظل الخشية من استغلالها قوى نافذة للانقلاب على المسار الديمقراطي، والحرص على الترويج داخليا ودوليا بأنها تحولت من حركة احتجاج من داخل المجتمع إلى حزب إصلاح من داخل الدولة».
ويؤكد مرزوقي أن «الأحزاب اليسارية والقومية لا زالت حبيسة تفاعل أيديولوجي منغلق يبلغ درجة الهيستيريا أحيانا، وهي بحاجة لمراجعة فعلها السياسي وفرز خياراتها. وهذه الأحزاب تسعى اليوم لترميم نفسها وفرض نفسها على الساحة السياسية بالتكتل والتوحد فيما بينها. ووجود فاعل لهذه الأحزاب يمثل ضمانة حيوية لتأمين الحزام السياسي لعملية الانتقال الديمقراطي في تونس».
ويعتبر «رضا السكرافي» أن «مرحلة ما بعد 2011 قد أثبتت ضعف التجربة السياسية لأغلبية القوى السياسية التي بان بالكاشف أنها تعاني ضعفًا هيكليًا وقدرة ضعيفة على الاستقطاب في ظل غياب البرامج، وأكدت هذه التجربة قدرة حركة النهضة على التعامل مع الضغوط السياسية وخاصة الاندماج في الساحة السياسية والخروج من العزلة التي حاولت بعض القوى السياسية حشرها فيها.
من جهة أخرى ساهم صعود الحركة الإسلامية الى الحكم في الجمع بين تيارات سياسية متباينة تاريخيًا، وما تبين من خلال التعاون بين أحزاب يسارية وأخرى يمينيّة والتقاء شخصيات من توجهات مختلفة تجسمت عبر حزب حركة نداء تونس الذي نجح في اعتلاء الحكم ولكنّه انتهى هيكليًا مجرد تحقيق هدفه».
تونس إلى أين؟
يرى «حبيب حاج سالم» أنه «من الصعب أن ترتد تونس إلى الديكتاتوريّة حيث تشبعت على مدى السنوات الستّ الماضية قطاعات شعبيّة واسعة بالثقافة الديمقراطيّة، كما تكوّن نسيج مدنيّ وسياسيّ متينًا، يشمل الجمعيات والحركات الشبابيّة والأحزاب، رافضًا لأيّ ارتكاس سياسيّ يهدد مكتسباته. لكن تبقى مسألة اجتراح بدائل اقتصاديّة تحافظ على مكتسبات دولة الرعاية الاجتماعيّة وتصلّبها أهمّ تحد يقف في وجه تونس ويعسّر اكتمال تجربتها».
وهو الرأي الذي يتفق معه «كريم مرزوقي» إلي حد كبير، فهو يرى أن تونس «هي بصدد بناء نظام ديمقراطي جمهوري ومن هذا المنطلق تمثل نموذجًا في محيطها ولكنه نموذج الحد الأدنى حينما خرج الشارع العربي للإطاحة بالأنظمة الديكتاتورية في 2011، ولكن حينما نرصد تونس من منظور راهن فلم يقع بعد تأمين التحول الديمقراطي في ظل غياب الإرادة السياسية لتنفيذ العدالة الانتقالية، وتعطيل السلطة التنفيذية لإرساء الهيئات المستقلة وضمان استقلال السلطة القضائية، إضافة لعدم تفكيك شبكات الفساد السياسي والمالي التي لا زالت تنشط في تونس».
وتطرح «نائلة الحامي» وجهة نظر مختلفة قليلا، إذ ترى أن «من الصعب تخيل عام هادئ في تونس سياسيًا أو اقتصاديًا أو اجتماعيًا إذ تشير عديد المعطيات إلى أن تونس أمام عودة لجزء من المقاتلين التونسيين في سوريا مثلًا، وهي أمام تحديات أمنية مهمة جدًا لمجابهة عودتهم، من جانب آخر، لا تظهر الحكومة أي سيطرة على الوضع الاجتماعي أو أي ملامح لتحسن اقتصادي».
وتذهب «أمان العياشي» إلي الرأي ذاته فتقول «لم أعد أرى تلك الشحنة والقوة في أعين ونقاشات التونسيين حول الوضع الحالي للبلاد. في أغلب الأوقات، أجسد لامبالاة أو عدم إهتمام لما يحدث. وطالما أن رغبه الشباب في مغادرة البلاد مازالت قائمة، وإن علت النسبة وعلا الإصرار، فإن الوضع السياسي الحالي قد فشل. وللأمانة، أضم صوتي لهذه الأغلبية من الشباب».