وجه شابٌّ، يحتقن ببقيةٍ من براءة الطفولة، وتزين أسفله لحية قصيرة، من النوع الكافي بالنسبة للمصريين، لكي يمنحوا صاحبها لقب الشيخ فلان. جلسة واثقة على المكتب، ولسانٌ طلق، تصاحبه أوركسترا مقنعة – وإن كانت مبالغًا فيها – من حركة الجسد، وتعبيرات الوجه، التي تؤمِّن على كل حرفٍ ينطقه هذا اللسان. بامتلاك تلك الأدوات السابقة، مع استخدام جيدٍ للسوشيال ميديا، تستطيع بالتأكيد أن تصبح أكبر بكثير من طبيب قلب ذي شعبية في مصر، يحصل على مئات الجنيهات نظير الكشف الواحد.

لكن هل كل من يستطيع التسويق لنفسه في هذا العصر الغارق حتى النخاع في الاصطناعية والتظاهر هو بالفعل ذو كفاءة؟


لماذا حقق رامي إسماعيل كل هذا النجاح؟

طبيب قلب باطني شاب، لم يحصل بعد على درجة الماجستير في طب القلب – أي أنه لا يصلح بعد أن يكون أخصائيًّا في طب القلب – فهو أمام القانون، ممارس عام، روَّج لنفسه إعلاميًّا أنه من عباقرة طب وجراحة القلب معًا، مع أنهما تخصصان كبيران جدًّا، ومتشعبانِ، وتحت كل منهما تخصصاتٍ فرعية يتفرغ لها أساطين الأطباء من أجل مزيدٍ من الإتقان، وأصبحت عيادته من أنجح العيادات جماهيريًّا، وتتنافس الإشاعات في تضخيم ثمن الكشف، وكيف يدفعه المئات من المرضى عن طيب خاطر. وعلى مواقع التواصل تحظى صفحته الرسمية على الفيسبوك بأكثر من 600 ألف متابع، و قناة اليوتيوب أكثر من مائتي ألف متابع.

كيف نجح رامي في سنواتٍ معدوداتٍ في خداع الجميع، والحصول على كل تلك الشهرة التي قد لا يحظى بمثقال ذرةٍ منها، بعض الأطباء المخلصين، في عمرٍ كامل؟

اللا-منظومة الصحية

ما تزال العيادات الطبية هي الملاذ الأول لطالبي الخدمة الصحية في مصر، رغم أن الاتجاه الأكبر في العالم هو أن تكون المؤسسات الطبية الكبرى هي الأساس، وأن ترتبط الخدمة الصحية بشبكة واحدة لتنظيم العمل، وترسيخ الأسس الطبية والأخلاقية للتعامل مع كل حالةٍ مرضية، ولتوثيق بيانات المرضى، وأخطاء الممارسة، ومحاولة التغلب عليها … إلخ.

رغم وجود الكثير من الأطباء الفضلاء في مصر، الذين يجتهدون لتقديم مشورة طبية سليمة للمرضى عبر عياداتهم الخاصة، والذين كافحوا في مقتبل حياتهم، وقضوا سنين من العمر خارج بيوتهم في المشافي وأقسام الطوارئ، وخارج البلاد … إلخ، من أجل أن يصنعوا لأنفسهم اسمًا، وليدَّخروا ما يكفي لتأسيس العيادة، رغم تلك النماذج، فهناك نماذج غير قليلة، على غير تلك الصورة، تحترف الفهلوة في ظل الفوضى الشاملة، وتنظر إلى المريض كسلعة لا بد من الحصول على أعلى المكاسب منها. ولا يوجد ما يحمي المريض من هؤلاء، فما أسهل أن ينخدع بأي منهم طالما أنه يجيد التحدث.

الفرعون العاشق جاهز للإقناع

في كثير من المواقف الطبية، لا يكون هناك حل واحد قطعي، يمكن أن يقدمه الطبيب للمريض وذويه، إنما لا بد أن يضع أمامهم اختيارات، ولكل اختيار تكلفته الطبية والنفسية والمادية … إلخ، والفائدة المرجوة، ولا بد من كلٍّ من الطبيب والمريض وضع الاختيارات كلها على الميزان، واختيار الأمثل للمريض (مثلًا الاكتفاء بالعلاج الدوائي من خطورة تفاقم الحالة في أي وقت، أو العلاج الجذري بإجراء جراحة قلب مفتوح لتعويض الشرايين التالفة، مع الخطورة المحتملة أثناء وبعد الجراحة … إلخ.). لكن للأسف، لا يحب المريض المصري أن يضع أمامه الطبيب اختيارات، بل يفسرها الكثيرون أنها تردد من الطبيب، وضعف علمي.

لكن عندما يفرض الطبيب رأيًا واحدًا، بإصرار – حتى لو لم يكن هو الأفضل للمريض – ودون ترددٍ، أو تركِ مساحة للمريض للتراجع، فإن الأخير ما يلبث أن يذعن، خصوصًا إذا تكلَّل الأمر بغلافٍ من العواطف، والابتسامة المُقنعة، والثقة المطلقة في إطلاق الحكم.

فلكي تنجح كرامي إسماعيل، استبد برأيك، لكن بنكهة رومانسية. وتذكر دائمًا الجملة العبقرية التي تنسب لجوبلز، أستاذ الدعاية النازبة الذي نجح في إقناع ملايين الألمان بمشروعية محاربة العالم أجمع – وليس مجرد صرف آلاف المرضى المصريين عن عمل قسطرة قلبية أو جراحة قلب مفتوح – اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى تصدق نفسك، فحينها سيصدقُك الآخرون.

وعلى قناة رامي على اليوتيوب عشرات المقاطع المصورة التي تظهر أداءً عاطفيًّا تفاعليًّا مع المرضى في عيادته يساهم كثيرًا في اقتناعهم به.

السيولة الإعلامية واستغلالها جيدًا

تقرير مصور عن رامي إسماعيل عام 2013م يقدمه على أنه موهبة فذة، فهو أصغر جراح قلب في مصر – في المعتاد حتى يكون الطبيب جراحًا متمرسًا في القلب يحتاج على الأقل 10 إلى 15 سنة من التدريب العملي والنظري – وزميل الجامعات البريطانية والأمريكية … إلخ. من الواضح أن معد التقرير لا يعرف شيئًا عن المسار العملي لحياة الأطباء، ولم يكلف نفسه عناء تدقيق معلوماته ولو لدقائق.

ليس كل زيارة للخارج تعني أن من يقوم بها أصبح عالمًا على طراز أينشتاين، أو أنه حصل على زمالة أو معادلة أجنبية. تحتاج تلك الدرجات إلى خوض امتحانات عسيرة، وتدريب لن يقل عن 3 سنوات، ويختلف حسب التخصص والمكان.

على سبيل المثال، في الدقيقة 1.02 من الفيديو أعلى الفقرة، يظهر في الكادر شهادة تقدير تعود لعام 2008م، من أحد مشافي إنجلترا، تشكر رامي على أنه حضر لمدة شهر في ذلك المشفى، وكان ملاحِظًا جيدًا! زيارات التبادل الطلابي أثناء سنوات الدراسة بالكلية بين جامعات العالم معروفة، عبر الجمعية العلمية بكل كلية، أو غيرها من المبادرات الرسمية وغير الرسمية. وكاتب هذا المقال يعرف شخصيًّا 20 صديقًا أو أكثر قاموا بمثلها لمدة شهر أو أكثر لمشافٍ وجامعاتٍ متنوعة في الولايات المتحدة، وإنجلترا، وبولندا، والبرازيل … إلخ. هي خبرة مفيدة لا شك، وبعضهم بالفعل تأثر بها، وبدأ الطريق الطويل للحصول على المعادلات الأجنبية، للعمل بالخارج.

https://www.youtube.com/watch?v=Fq_ioPJ2D4A

مقطع لآخر لرامي على إحدى قنوات النيل الرسمية، تُظهر فيه المذيعة – التي يبدو جهلها الشديد بالقضية – اقتناعها الشديد بكلامه، رغم أنه يخلط المعلومات الصحيحة بالخاطئة، في قضية شهيرة، هي ساحة لدراسات كبرى تقارن بين فعالية العلاج الدوائي مقابل القسطرة العلاجية في حالات القصور الشرياني المزمن، حيث يبالغ رامي بأسلوبه المقنع في الأضرار المحتملة من القسطرة، ويبالغ في المقابل في فعالية العلاج الدوائي بمفرده، ويؤطِّر فقط الدراسات المؤيدة لوجهة نظره. ومثل هذا التدليس سمة أساسية في أسلوبه.

المؤتمرات الطبية

د.جمال شعبان، العميد السابق لمعهد القلب، متحدثًا عن فيديو جمعه برامي إسماعيل في أحد المؤتمرات، واستخدمه الأخير للترويج لنفسه.

ينبهر المصريون كثيرًا بالطبيب الذي يكثر حضوره للمؤتمرات الطبية، خاصة الدولية منها. بالفعل للمؤتمرات أهمية كبيرة في تبادل الخبرات عن أحدث المعلومات والتطبيقات، وفي توسيع دائرة المعارف، وتنمية مهارات الإلقاء، ومخاطبة الجمهور … إلخ. لكن ليست المؤتمرات الطبية سواءً في قوتها العلمية، ودقة اختيار المحاضِرين والمشاركين، ومدى الفائدة العملية والعملية التي تقدمها.

مجرد حضور طبيب لجلسات مؤتمر ما – حتى لو كان خارج مصر – أو عرضه لإحدى الحالات، أو حتى تقديم محاضرة قصيرة، لا يعني أنه بالضرورة طبيب ناجح ومتفوق، إذ قد يكون نجاحه الوحيد هو قدرته على تبادل المصالح مع شركات الأدوية الراعية، وأيضًا بالنسبة لعدد غير قليل من الأطباء، تمثل المؤتمرات نشاطًا اجتماعيًّا وترفيهيًّا، فهي فرصة للخروج من الروتين المعتاد، والتنزه، والحصول على شهادة وشنطة المؤتمر … إلخ. إذًا فتسويق رامي أو غيره لنفسه من خلال الحضور الكثيف للمؤتمرات، والتقاط الصور – وهو عادة شائعة بالمؤتمرات – مع الأستاذ الفلاني أو الاستشاري الترتاني … إلخ، لا يعني أنه أصبح مساعدًا لهذا، أو صديقًا لذاك، أو أن طريقته في تقديم الخدمة الطبية تتفق مع أحدث الأدلة العلمية الطبية.

وتر المؤامرة

للمصريين تاريخ عريض من الهوس بنظريات وشائعات المؤامرة في كل المجالات، مهما كانت تبدو غير منطقية. وما البوكيمون الملحد، أو المياه الغازية ماركة لا محمد لا مكة … إلخ منا ببعيد. ما أسهل أن يلعب أحدهم على هذا الوتر الحساس، فيدعي أن القسطرة، وجراحات القلب المفتوح – والتي ترسَّخت أبحاثها بدراسات علمية كثيفة على مدى عشرات السنين واستفاد منها ملايين الملايين من الحالات – ما هي إلا مؤامرة من مافيات الصناعات الطبية والأطباء، لاستنزاف أموال المرضى المساكين، وأن بضعة علاجات دوائية، ومتابعة مع الطبيب، تغني عن كل هذا.

الهلع من التدخل الطبي بكل أشكاله

رغم التحسن الكبير الذي شهدته مصر في نتائج كل أنواع الجراحات، والتدخلات الطبية كالقسطرة القلبية … إلخ، ما يزال هناك رأي عام غالب، يفترض الأسوأ دائمًا، ويعتبر أن طلب الطبيب عمل قسطرة قلبية طبية – مثلًا – يساوي على الأرجح أمرين لا ثالث لهما:

الأول: أن الحالة خطيرة للغاية بشكل يدفع للتشاؤم، ويجعل المريض وذويه يتمنون التعلق بأية قشة تخبرهم أن قرار الطبيب خاطئ، تبعًا للنظرية الطبية المصرية: أحيِني اليومَ، وأمِتني غدًا!

الثاني: الطبيب سيئ النية، ويطمع في أجر القسطرة، وبالتالي سنصدق فورًا أول شخص نقابله على الباب يخبرنا أن أطباء القلب جميعًا لصوص جشعون.

تخيل معي كم ألف إنسان تعلقوا بقشة رامي إسماعيل – وهي الذي يسوق نفسه على أنه عبقري القلب الصغير – التي ستوفر لهم وفق منطقه عشرات الآلاف من الجنيهات، مقابل بضعة آلاف سنويًّا هي تكلفة الكشف الطبي، وثمن الأدوية.


هل كلنا كأطباء قلب مذنبون ولا يُستثنى أحد؟

النماذج السلبية، مهما قلَّت، قد تسيء إلى عشرات الآلاف منا؛ لأن الناس يميلون للتعميم، وهذا ظلم بيِّن لآلاف من أطباء القلب المخلصين لرسالتهم ومهنتهم، والذين يحاربون على ألف جبهة لكي يتقوَّوْا علميًّا، وعمليًّا، وماديًّا في الوقت نفسه. لكن لا بد أن نعترف أن ممارسات البعض منا قد فتحت ثغراتٍ أمام المنتفعين ليزايدوا، مستغلين الفقر الشديد في الوعي الطبي لدى جموع الناس.

  • من يسارعون بأقل شكٍّ في شكوى المريض، لتشخيصه بقصور متقدم بالشرايين التاجية، ويقفزون فورًا إلى القسطرة، بدلًا من الصبر أولًا على تغيير نمط الحياة، والتحكم في عوامل الخطر، والعلاج الدوائي الأولي، ثم الانتقال إلى وسائل التشخيص الأقل تدخلًا كاختبارات المجهود البدني والدوائي، أو المسح الذري، أو الأشعة المقطعية … إلخ، ثم القسطرة على أسس راسخة، على تفصيل كل ذلك في المراجع الأوروبية والأمريكية التي يتم امتحاننا فيها في امتحانات الماجستير والدكتوراه، ونحمل تطبيقاتها على هواتفنا الذكية حيثما ذهبنا.
  • من لا يخصصون الوقت الكافي للشرح الجيد للمريض، ويتركونه حائرًا في حالته المرضية يتقلب بين عيادةٍ وأخرى.
  • من يخدعون المريض بإيهامه أنه مريض بالقلب، لمجرد وجود ارتخاء بسيط في أحد صمامات القلب، أو بطء نسبي في سريان الدم في أحد شرايينه … إلخ، ليستمر زبونًا في عياداتهم. أو يخبرون من أظهرت القسطرة سلامة شرايينه، أنهم قاموا بتسليك الشريان … إلخ.
  • من يضعون لافتات براقة على عياداتهم أنهم زملاء جامعة كذا الأوروبية، أو حاصلون على الدكتوراه لمجرد أن سجلوا أسماءهم في أول خطوات الطريق الطويل للحصول على الدرجة … إلخ.

مقطع لرامي إسماعيل مع أحد المرضى الذي يمتدح علاجه، ويذم الطبيب السابق الذي طلب منه جراحة قلب مفتوح (بالطبع لا يمكن التأكد من موثوقية تفاصيل الحالة من مصدر مستقل)


متى سينتهي عصر الرامي إسماعيل؟

سيستمر هذا العصر في الازدهار، وتتفاقم كوارثه، ما لم نأخذ خطواتٍ جدية في أن تمتلك مصر منظومة تعليمية حقيقية، تؤسس العقل الناقد منذ السنين الأولى، فيصبح طبعًا لا تطبعًا، وتتوَّج بنظام امتحاني يقتبس من الأنظمة الناجحة للمعادلات الأمريكية والبريطانية … إلخ في طرق التدريس والتقييم.

لا بد أيضًا أن يكون لمصر منظومة صحية شاملة موحدة، تكون هي العصب الرئيس لتقديم الرعاية الصحية العادلة، وفق ما يحتاجه كل مريض، مع تحسين الأوضاع المالية للأطباء وفقًا للأطر العالمية، يحيث يستطيعون الاكتفاء بتقديم الخدمة الطبية المؤسسية، دون الحاجة للدوران في ساقية العمل الخاص الشهيرة، والتي تستنزف أكثرهم معنويًّا ونفسيًّا، وتوارب الأبواب أمام الشيطان، وتحرم المريض من الخدمة اللائقة الفعالة.