6 أدلة تُبرئ «مجانية التعليم» من التهم المنسوبة إليها
منذ الإعلان عن النظام التعليمي الجديد والوزارة تتحدث عن المعوقات أكثر من حديثها عن الخطوات التنظيمية، تلك المعوقات التي بدأت بالتمويل، إلى أن أعلنت الوزارة عن منحة البنك الدولي لحل هذه الأزمة.
وما كادت الدراسة تبدأ حتى انتقل الحديث إلى سوء مستوى المعلمين والإداريين، من خلال نشر عدد من الفيديوهات التي تبرز تدني قدراتهم ومهاراتهم التربوية بما يحول دون نجاح المنظومة التعليمية الجديدة، ومنها فيديو «عاوز أنام يا حاجة»، وفيديو لمدير مدرسة يحلق شعر الطلاب، وثالث لمحافظ السويس يصدر أوامره بمنع دخول المنتقبات والملتحين إلى المدارس، ورابع لمدير مدرسة يقول للطلاب «هات لك كرسي أنا معنديش… اقعد جنب زميلك اقعد على الأرض».
بعدها انتقل الحديث إلى مجانية التعليم، التي ترى الوزارة أنها عائق يمنع تطوير التعليم، في ظل عجز الموازنة والتضخم وتفاقم الدين العام. وللوقوف على مدى صحة ذلك علينا أن نرصد علاقة المجانية بتطور التعليم وتأخره؛ لكي ندرك ما إذا كانت تمثل عائقًا، أم أن الأمر يتعلق بأمور أخرى، وأن المجانية «بريئة» من التهم المنسوبة إليها.
1. التعليم لم يعد مجانيًا
أول أدلة التبرئة هي أن التعليم لم يعد مجانيًا، بالمعنى الحرفي أو المجازي؛ فمصروفات الدراسة، والدروس الخصوصية، والكتب الخارجية، والأدوات المدرسية، وغير ذلك مما تتطلبه سنوات التعليم تؤكد أن الأسرة تنفق على التعليم أكثر من إنفاقها على أمور أخرى ضرورية كالصحة والملابس، كما أن مصروفات الدراسة وأدواتها ترتفع دون أن تتأثر بمجانية التعليم، إنما بارتفاع أسعار الخدمات والأدوات، مثل الطباعة ووسائل النقل والكهرباء.
2. تصريحات «بالونية»
تعددت تصريحات الإعلاميين والشخصيات العامة حول مجانية التعليم، منها تصريحات الإعلامي عمرو أديب الذي قال: إن «وصف التعليم بالمجاني مجرد نكتة»، ثم شرح وجهة نظره في تصريح آخر، فقال:
والدكتور مصطفى الفقي، المفكر السياسي ومدير مكتبة الإسكندرية، الذي صرح مرارًا بأن الدولة تنفق على الطلاب للحصول على شهادة «علشان يروحوا يتجوزوا بيها»، مؤكدًا أن «الجامعات أفرزت ملايين العاطلين بسبب التعليم المجاني»، ومتسائلاً: «هـل مصر تحتاج إلى تعليم للجميع؟ وهل الأفضل أن نركز مسألة تلقي التعليم الحكومي في مجموعة معينة من الشعب… بدلاً من إهدار مواردنا وجهودنا في تعليم الجميع دفعة واحدة؟»
والحق أن هذه التصريحات –المتشابهة لفظًا ومعنى- تأتي في إطار دعم الرئيس إعلاميًا، ومدح كل ما يحدث في عهده، والتعلل بالعوائق لتبرير الأخطاء والفشل، فضلاً عن كونها دعمًا إعلاميًا لكل الإجراءات التي يدعمها البنك الدولي من خلال قروضه لمصر، لكنها لا تؤكد أن مجانية التعليم هي السبب الوحيد للكارثة، كما أنها لا تذكر بقية أسباب تدهور التعليم.
3. الوزير يرد على نفسه
تستهدف خطط الوزير –وفقًا لتصريحاته- «تغيير عقلية المصريين فيما يخص مجانية التعليم، فالنظرة إلى التعليم المجاني كحق مكتسب آن لها أن تنتهي»، لذا فهو ينادي بإلغاء المجانية، ويرى أن الدولة مُطالبة بتفسير معنى مجانية التعليم المنصوص عليها في الدستور؛ لأن:
وهنا لن نرد على تصريحاته بذكر خطط الدول المتقدمة تعليميًا، وكيف نهضت هذه الدول دون إلغاء مجانية التعليم، لكننا سنكتفي بتصريحه الذي قال فيه إن في سنغافورة «هم بارعون في إعداد المعلم، ورؤية وزارة التعليم في شكل دائرة؛ تُشكل 50% منها بناء الشخصية وقيم المواطنة والأخلاق، و30% منها موسيقى ورياضة وفنون، و20% للتحصيل، فهو يبني مواطنًا، وشخصية، ولديهم دروس عن الأخلاق تحكي قصصًا خاصة تناسب عمر الطلاب؛فالقصة ليست في المناهج فقط».
إذن وفقًا لتصريحه فالأمر يتطلب خطوات أخرى كثيرة لم تقم بها الوزارة لتحقيق مستوى تعليمي جيد، فسنغافورة التي ضرب بها المثل اعتلت قمة التصنيف العالمي بتطبيق منظومة متكاملة في وجود المجانية، التي لم تكن عقبة في طريق تقدمها، مما يؤكد أن الوزارة تتعلل ولا تعمل.
فقد أعلنت الوزارة عن تدريب مالا يزيد على 2% من المعلمين على المنهج الجديد، وهي نسبة ضئيلة جدًا، تشير إلى سعي الوزارة لتطبيق النظام الجديد بغض النظر عن استعداد المعلمين والتلاميذ.
هذا فضلاً عن ضعف البنى التحتية للمدارس والفصول، وتدني الأدوات التكنولوجية، وعدم تغيير محتوى المناهج، والاكتفاء بتغيير شكلها وطباعتها فقط، إلى جانب تأخر طباعة وتسليم الكتب الدراسية، والعجز في أعداد المعلمين، والسعي إلى تطبيق المناهج الجديدة دون الانتهاء من تدريب المعلمين وتجهيز الأدوات اللازمة، وكل هذه الأخطاء لم تكن المجانية مُسبَبة لها، مما يعني أن الوزارة تتعلل بالمجانية ولا تتحدث عن أخطائها.
4. التفاف الوزارة على مجانية التعليم
قامت الوزارة بالالتفاف والتحايل على مجانية التعليم كثيرًا، بداية بإنشاء المدارس التجريبية، ومرورًا بالتوسع في المدارس الخاصة والنموذجية والقومية، وشراكة القطاع الخاص للوزارة، ووصولاً إلى المدارس الدولية الحكومية والمدارس اليابانية، وكل تلك المسميات إنما هي حيلة لتبرير زيادة المصروفات، بالزعم أنها تقدم خدمة متميزة، لكنها في الواقع تقدم المستوى المفروض توافره في أي تعليم محترم، وفي مقابل ذلك تُحصِّل الحكومة آلاف الجنيهات؛ تحايلاً على النص الدستوري بمجانية التعليم، وهذا التحايل يزيد من تراجع وتدهور الخدمة بالمدارس المجانية.
وتكمن الكارثة في أن هذا التعليم غير المجاني الذي تقدمه الدولة، يتم على أرض عامة، وفي مبانٍ وتجهيزات مُولت من الميزانية العامة، ويقوم بالتدريس والعمل فيها أشخاص يتقاضون أجورهم من الأموال العامة.
أما أبرز نماذج التحايل الفج على المجانية هو تصريح الوزير نفسه بأن «اليابان طلبت أن تكون المدارس اليابانية في مصر مجانية» إلا أن ذلك لم يحدث، فطلبت اليابان ألا تزيد المصروفات على 4000 جنيه؛ لأنها بالأساس موجهة إلى محدودي الدخل، وفي النهاية وصلت مصروفاتها إلى 10 آلاف جنيه.
5. تدني الإنفاق على التعليم
الإحصاءات الدولية التي رصدت التعليم المصري لم تتهم المجانية بتدني مستوى التعليم، إنما اتهمت تدني مستويات الإنفاق على التعليم، وهو ما جعل مصر تحتل المركز 141 من إجمالي 140 دولة (أي خارج التصنيف) في مؤشر جودة التعليم 2014، والمركز قبل الأخير عام 2015، والمركز 135 عام 2016، وفي 2017، احتلت المركز 100، من بين 137 دولة.
ويُعد تدني الإنفاق على التعليم أمرًا مفصليًا، تؤكده تصريحات الوزير بأن الأجور الأجور تلتهم أكثر من 85% من ميزانية الوزارة؛ بمعنى أن أقل من 15% فقط هو حجم الإنفاق على العملية التعليمية بكل مراحلها ومتطلباتها، كما أكد الوزير أمام مجلس الشعب أن «المكافآت بالوزارة أكبر من المرتبات الأساسية، وتوزيعها به تشوهات ضخمة، واقتحام هذا الملف من أصعب ما يمكن مواجهته بالوزارة»، كذلك تصريحه بأن «ميزانية الوزارة أقل من الاستحقاق الدستوري».
كل هذه التصريحات تشير إلى أن الخلل ناتج عن قلة الإنفاق، وليس المجانية.
يؤكد ذلك البيان المالي لموازنة 2018/2019، الذي يبرز بوضوح تدني مستوى الإنفاق على التعليم. وبالمقارنة بين الإنفاق على التعليم في موازنة 2013/2014 (84.1 مليار جنيه)، وفي موازنة 2018/2019 (115.7 مليار جنيه)، يتضح أن نسبة الزيادة متدنية، وتعود إلى الزيادة السكانية وليس الارتقاء بالتعليم، مما يعني أن التعليم ليس ضمن أولويات الإنفاق بالموازنة.
وجدير بالذكر أن الحكومة أصرت على احتساب نسبة للتعليم وفقًا للناتج المحلي الإجمالي، بالمخالفة للدستور الذي ينص على تخصيص النسبة من الناتج القومي الإجمالي، لذا فلا حديث عن مجانية التعليم قبل اكتمال نقص الموازنة التي نصّ عليها الدستور.
وبعيدًا عن دستورية موازنة التعليم أو عدم دستوريتها، فقد صرّح رئيس لجنة الخطة والموازنة قائلاً:
وهذا التصريح يُحمِّل الوزير والبرلمان والقيادة السياسية مسئولية تدني الإنفاق، ويعد دليلاً دامغًا على براءة مجانية التعليم.
6. المجانية لا تعيق التقدم
لم تقف المجانية عائقًا أمام تقدم الدول تعليميًا، إذ إن العديد من الدول التي تتصدر مؤشر التنافسية العالمية 2017/2018 تُطبق مجانية التعليم، ومنها: سنغافورة (الأولى عالميًا)، والولايات المتحدة الأمريكية (الثالث عالميًا)، وسويسرا (الخامس عالميًا)، وكندا (الـ 13 عالميًا)، وألمانيا (الـ 15 عالميًا).
وفي فنلندا (الثانية عالميًا)تُطبق المجانية بكل المراحل التعليمية، من مرحلة ما قبل الابتدائي حتى التعليم العالي، كما يتم توفير الكتب الدراسية، والوجبات اليومية، ووسائل النقل للطلاب المقيمين بعيدًا عن المدرسة مجانًا، في مرحلتي التعليم قبل الابتدائي والأساسي.
وفي مصر، لم تمنع المجانية تنفيذ خطط الوزير، ولم تقف عائقًا أمام تحقيق سياساته التي جعلته ينفق مليار جنيه على المنهج الجديد للصف الأول الابتدائي، فضلاً عن تصريحه بأن «مصر ارتفعت من المركز 137 إلى المركز 100 في التصنيف العالمي لمجرد أن لدينا رؤية، وفي ظل أن الوزارة صنعت معجزة بكل المقاييس»، ووفقًا لهذا التصريح فإن هذا «الارتفاع» وتلك «المعجزة» قد حدثا في وجود مجانية التعليم.
الخلاصة
أن المجانية ليست متهمة؛ فالأمر يحتاج إلى مناهج متطورة ومتغيرة، ومعلمين مدربين، إلى جانب مشاركة رجال الأعمال والمؤسسات الخيرية والمجتمعية، والمشاركة مع الدول المتقدمة تعليميًا، بعيدًا عن «البروباجندا» الإعلامية، والتعلل بحجج واهية لإخفاء عوار المنظومة، التي تحتاج إلى رؤية واضحة غير مستوردة، وخطة تعتمد على رقي الطالب والمعلم وأدوات الدراسة وأماكنها، ولا تعتمد على العبارات الإعلامية الفضفاضة أو على «ورقة للبنك الدولي قاصرة وعاجزة، ولا تتماشى مع الواقع المصري،وتجعلنا في ذمة خطة البنك الدولي».
يجب الاعتماد على الخطط الزمنية المحددة، والآليات التنفيذية الملائمة للواقع، فضلاً عن ربط التعليم بسوق العمل، واعتبار المجانية التزامًا مجتمعيًا، واستثمارًا تقوم به الدولة؛ لتحقيق المساواة وبناء الإنسان، والاستفادة من القوى البشرية المتعلمة العالمة، التي تعد -وحدها– قاطرة التنمية، وقبل كل ذلك تجب إعادة النظر في موازنة التعليم، والمبالغ المتدنية المُخصَصة للإنفاق على القطاع، والتي تلتهم الأجور معظمها، مع وضع خطط واضحة لكيفية إنفاق الموازنة بما يؤدي إلى إحداث تطور حقيقي.
حينما يحدث ذلك كله يمكن أن نتناول دور المجانية، بعد حدوثه لا قبله.