قتلة أو ضحايا: 6 أفلام مصرية تُنمّط الإعاقات الذهنية
علاقتي بالإعاقات الذهنية تبدأ منذ الطفولة، حيث إن البيت الملاصق لنا كانت -وما زالت- تسكنه عائلة لديها ابنة ذات متلازمة داون. هذه الابنة لطالما تعاملت معي كصديق مقرب، فهي تكبرني بما لا يقل عن عشر سنوات، وحتى اليوم عندما تشاهدني في الشارع أو الشرفة تناديني وتحاول الحديث معي بكل بساطة وإنسانية.
قصة هذه الجارة دائمـًا ما أثرت فيّ؛ لأنني كنت ألحظ طريقة معاملة المجتمع معها، سواء أسرتها التي تهملها وربما تتركها تجلس في الشارع لساعات طويلة دون اهتمام بها فيما يخص الطعام أو النظافة الشخصية، أو على مستوى المجتمع الأكبر قليلًا الذي كان يسخر منها ويهزأ بها لأنها في ظنهم مصابة بعته مغولي، لكنها في نفس الوقت سخرية يحكمها الدين والعرف الذي يصور لهم أن هذه الجارة (بتاعة ربنا) أو تحمل بركة منحها الله إياها.
السينما بشكل خاص، والفنون عامة، قد تلعب دورًا مركزيـًا في خلق وترسيخ الصور النمطية عن فئة أو مجتمع ما. ومن خلال بعض المشاهدات لعدد من الأفلام لاحظتُ أن تمثيل الأشخاص ذوي الإعاقة في الأفلام المصرية ما زال سطحيــًا، ويحمل قدرًا كبيرًا من السلبية.
في هذا المقال سأقترب من 6 أفلام مصرية جسدت الإعاقات الذهنية في فترة زمنية تبدأ من نهايات خمسينيات القرن الماضي مع فيلم (باب الحديد) للمخرج يوسف شاهين إنتاج عام 1958، وصولًا لفيلم «مبروك وبلبل» للمخرجة ساندرا نشأت إنتاج عام 1998. يمكننا أن نقول إن عددًا كبيرًا من الأفلام قد أنتج عن الإعاقات الذهنية، لكن الواقع غير ذلك. فوفق البحث في محرك جوجل يظهر أن عدد الأفلام محدود، ولا يوجد حصر موثق يوضح العدد الدقيق للأفلام التي أنتجت عن الإعاقات الجسدية أو الذهنية أو كليهما.
الإعاقة الذهنية في مصر
تشير إحصاءات البنك الدولي أن حوالي بليون شخص من تعداد سكان العالم لديهم إعاقات بدرجات مختلفة، مع وجود نسب انتشار أعلى للإعاقات في الدولة النامية، ويوجد حوالي ما يقترب من110 لـ 190 مليون شخص حول العالم يعانون من إعاقات بدرجات كبيرة.
وفي مصر، تصل نسبة الأشخاص ذوي الإعاقة إلى حوالي 10.6٪ من إجمالي تعداد سكان مصر لعام 2017. وكان عدد سكان مصر في ذلك العام يزيد عن 94.5 مليون نسمة وفق إحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء. هذا يعني أن عدد المصريين من أصحاب الإعاقات بشكل عام يصل إلى حوالي 9 مليون أو يزيد قليلًا، لكن دون وصول لمعلومة واضحة لعدد الإعاقات الذهنية وحدها.
الإعاقة الذهنية أو الفكرية أو كما يصطلح عليه في الإنجليزية Cognitive/Intellectual Disability، هو وصف لشخص لديه صعوبات في أداء المهام الذهنية مقارنة بأشخاص آخرين. وتعد هذه الصعوبات التي يواجهها الشخص عائقــًا أمامه وسط ما يمكن تسميتهم بالأشخاص متوسطي القدرات أو Pverage Person، لذا فالصعوبات الذهنية أو الفكرية تعد إعاقة.
في العالم بشكل عام، وفي مصر خاصة، هناك خلط واضح لدى البعض بين الإعاقات الذهنية/الفكرية والأمراض النفسية والعقلية، فيحدث مزج بين المفاهيم، ويتم التعامل مع الإعاقات الذهنية مثل التوحد على أنها عَرَض نفسي مثل الاكتئاب أو الذهانية..، إلخ.
ومن الحب ما قتل
قدمت السينما المصرية على مدار تاريخها الطويل عددًا محدودًا من الأفلام التي تناقش قضية الإعاقات الذهنية. هذه المحدودية يمكن تأكيدها عندما نقارن عدد هذه الأفلام بأرشيف السينما المصرية الممتد على الأقل لمدة مئة عام.
ومن أبرز الأفلام التي تعرضت للإعاقة الذهنية والجسدية معـًا بشكل واضح، فيلم «باب الحديد» للمخرج يوسف شاهين الذي جسد فيه شخصية قناوي، والذي يراه من حوله في محطة سكك حديد مصر أنه «أهبل»، خاصة في ظل رغبته الزواج من فاتنة المحطة «هنومة» كما أن الفيلم قدم الشخصية ولديها إعاقة جسدية في القدم حيث إن قناوي كان أعرج.
قناوي (يوسف شاهين) الواقع في غرام هنومة (هند رستم)، يحلم بالزواج منها، رغم خطبتها من رجل آخر (أبو سريع- فريد شوقي). في واحد من أول المشاهد بالفيلم تجلس هنومة مع زميلاتها في محطة مصر، ويتحدثن عن قناوي، فتقول إحداهن لهنومة: «ده بيموت في دباديبك»، فترد أخرى: «ده بيحوش لك المهر يا هنومة»، فتقول هنومة: «ما تتجوزيه يا ست عزيزة، ما انتم لايقين لبعض قوي»، فترد زميلتها: «ليه ياختي هو أنا برمرم، انتي اللي مدياله وش ومعشماه»، فتضحك هنومة ساخرة وتقول: «عشم إبليس في الجنة هو ناسي إني مخطوبة لأبوسريع ولا إيه؟» فتقول لها زميلتها: «عارف بس مخبوط في عقله، متهيأله إنك هتسيبي أبوسريع وتتجوزيه هو».
الجمل الحوارية لم تكن مجرد كلمات في الهواء، بل صاحبها انفعالات بالوجه واليد، تعبر عن نظرة هؤلاء النساء لقناوي (المخبوط في عقله)، فمثلًا عندما يشار إلى أبوسريع، تحاول صديقة هنومة أن تعبر بيديها عن ضخامة جسده وقوته، وهذا تحقق خلال الفيلم مع اختيار ممثل الأكشن وملك الترسو فريد شوقي المعروف عنه عبر تاريخه السينمائي أنه قاهر كل من يواجهونه في الأفلام، في حين أن قناوي ضعيف البنية الجسدية. ثنائية التضاد هذه تبين صورة الشخص صاحب الإعاقة وكيف ينظر له المجتمع بشكل سلبي.
وقد ركز الفيلم على إعاقة قناوي الجسدية، وكيف يراه من حوله (أعرج)، فإن أراد الزواج، عليه أن يجد عرجاء مثله. نوع سخرية معتاد ممن يعملون معه، لكنها تُواجه بقدر من التعاطف من بعض آخر، كما أن قناوي لا يصمت عن الرد، فعندما يسخر منه أحدهم يرد السخرية بنفس الشكل.
رسم الفيلم خطــًا عن الحرمان الجنسي الذي يعانيه قناوي، مما يبرز التحدي الذي قد تصنعه السينما في تحديد خطوط فاصلة في فهم الفروق بين الاضطرابات النفسية والإعاقة الذهنية مما يؤثر على الجمهور المتلقي. فنهاية قناوي كانت بارتداء بدلة مستشفى الأمراض العقلية، مما قد يسبب خلطـًا بين مفهوم المرض العقلي والإعاقة الذهنية ويجعله ملتبســًا، وبالتالي كان الأسهل هو التركيز على إعاقة قناوي الجسدية، وبناء حوار يؤكد هذا المعنى.
تواصل الشخصيات داخل الفيلم في التعامل مع إعاقة قناوي بسخرية شديدة، فيوصف بأنه «عروجة» التي كررتها هنومة له أكثر من مرة، ثم سخرت منه عندما حاول مداعبتها بإقامة سباق جري بينهما، فقالت له: «هو إحنا قدك، ده انت إكس؟» في إشارة واضحة لإعاقته ومقارنته بالقطار المعروف باسم الإكس أو الإكسبرس. هنومة ترى قناوي ضئيلًا، جسدًا وعقلًا، مقارنة بأبو سريع، فهي لا تنظر إليه كرجل مكتمل، ومهنته بائعـًا للجرائد وقدمه التي «يزك» بها، لا تؤهله للزواج من هنومة. وقد حاول قناوي قتل هنومة، لكنه أخطأ وقتل صديقتها «حلاوتهم»، لأنه ببساطة شعر برفض هنومة له.
جُمل قناوي الحوارية قليلة، وطريقة حديثه يشوبها قدر من التردد والتلعثم أحيانـًا، مما قد يعطي إيحاءً لدى المشاهد في لحظات أنه يعاني من مشكلة ذهنية، لكن من خلال التركيز مع نظرات عينيه وملامح وجهه التي اقترب منها الفيلم كثيرًا، يتبدى لنا أن قناوي يعاني من اضطراب نفسي ناتج عن هوس جنسي. وهذا يظهر من خلال صور النساء المُعلَقة في غرفته، ويحمل أغلفة المجلات التي يتصدرها صور فنانات أمريكيات مشهورات يرى فيهن الشبه مع حبيبته هنومة.
نظرات قناوي تجلب له المشاكل أحيانـًا، وتؤكد الخلط الموجود لدى الناس حوله فيما يخص اضطرابه نفسه. ففي أحد المشاهد يقوم أحد رواد المحطة بضرب قناوي لأنه كان ينظر لزوجته، فيأتي عسكري الشرطة ويحاول إنهاء الأمر قائلًا:
الشخص الأكثر تفهمـًا لقناوي ومعاناته هو مدبولي بائع الجرائد الذي أدرك أنه فقد عقله بسبب حبه لهنومة، وهو من حاول أن ينقذه من هوسه بإيداعه في مستشفى الأمراض العقلية. وربما يكمن التساؤل في نهاية الفيلم حول مشاعر المتلقي والصورة التي رسمها عن قناوي صاحب الإعاقة الجسدية والمرض النفسي، هل تعاطف معه؟ أم كان ناقمـًا عليه؟ وهل كان التعاطف ناتجًا عن حب الشخصية التي تم تجسيدها أم لأنه كان مريضـًا ولديه إعاقة؟ فقناوي انتهى مصيره بارتداء البدلة البيضاء، مما يعني أنه شخص قد يكون خطرًا على نفسه والمجتمع.
البريء تقتله سذاجته
في العام التالي (١٩٥٩) يُعرض فيلم «حسن ونعيمة» إخراج هنري بركات، وتظهر فيه شخصية «ابن صبيحة» التي يجسدها محمد توفيق. منذ بداية الفيلم يفهم المتلقي أن ابن صبيحة لديه تأخر ذهني، لكنه شخص رقيق وطيب كذلك، فهو يحنو على الجرو الصغير الذي ركله (عطوة- محمود السباع)، الشخصية الشريرة في الفيلم. بشكل تقليدي يظهر الشخص المصاب بإعاقة ذهنية أنه يتكلم ببطء ووجهه وجسده يقوم بعمل تعبيرات تمنح المشاهد انطباعـًا أن هذا الشخص مصاب بالبله، وعدم القدرة على اتخاذ القرار، وهو بطبيعة الحال لا يؤذي أحدًا.
ناهيك عن اختيار اسمه (ابن صبيحة) الذي يدلل على أنه مرتبط بأمه التي أنجبته معاقـًا، وأنه لا يملك الحق في أن يكون له اسم خاص به. وهذه التسمية لا تتغير حتى مع من يتعاملون مع ابن صبيحة برفق أو عنف، لأن لديه إعاقة تجعله في مكانة أقل من الآخرين، والنسب لأمه هو أقل ما يمكن تسميته به.
العنف تجاه شخصية المعاق ذهنيـًا لم يُواجهه المجتمع، فعطوة يعتاد نهر ابن صبيحة، ولأن عطوة يمتلك قدرًا من السلطة والنفوذ في القرية لا يردعه أحد. وعندما أراد ابن صبيحة أن يعبر عن حبه لمحاسن وطلب منها الزواج قالت له: «امشي يا واد ما تفضحنيش بعبطك في كل حتة».
تتكرر نفس الثنائية الضدية بين ابن صبيحة الضعيف جسدًا وذهنـًا أمام عطوة صاحب السطوة، الذي توافق محاسن على الزواج منه. رفض ابن صبيحة أساسه إعاقته، فمحاسن تراه مثلما رأت هنومة قناوي، رجلًا غير مكتمل. والرجل غير المكتمل قد لا يُشتَهى، على عكس النساء ذوات الإعاقة، اللاتي يمكن استغلالهن.
مشهد آخر يوضح تصوير شخصية المعاق ذهنيـًا، وسهولة التلاعب به وهي تيمة متكررة خلال الأفلام المصرية، فابن صبيحة يستجيب بسهولة شديدة لما يُطلب منه، فأثناء هروب حسن ونعيمة من القرية للزواج، حاول صديق حسن أن يأخذ عهدًا من ابن صبيحة ألا يفشي سرهما، ودار حديث بينهما انتهى برضاء ابن صبيحة أن يتم تقييده بحبل في الشجرة حتى لا يقول شيئـًا لأهل القرية.
إن فرضية إفشاء السر في حد ذاتها تأكيد على المعنى الخاص بعدم القدرة لدى الشخص ذي الإعاقة في الحفاظ على الأسرار لأنه غير مؤهل. اللافت للتعجب في المشهد التالي لمشهد الشجرة أن ابن صبيحة وقف وسط أهل القرية يحكي قصة هروب حسن ونعيمة دون أن يبدو عليه أي علامات للتأخر الذهني، وفي نفس الوقت حكيه لما حدث يؤكد فرضية أنه لا يحفظ سرًا لأنه غير قادر.
وكعادة كثير من الأفلام المصرية في تلك المرحلة ينتهي الفيلم بطريقة تميل للميلودراما، فالصراع على نعيمة بين حسن وعطوة ينتهي في الموال الشعبي بموت حسن، في حين أن الضحية التي تموت في فيلم هنري بركات هو ابن صبيحة، دون أن يكون له أي ذنب في المعركة سوى أنه كان إنسانـًا محبـًا، فيقول جملته الأخيرة قبل الموت: «مع السلامة يا غرام».
نفس الشعور بالتعاطف الذي قد نلمسه مع قناوي، نشعر به مع ابن صبيحة، فكلاهما وقع في مساحة الضحية، سواء ضحية بسبب عداء شخصي أو مجتمعي، فالنتيجة واحدة إما الموت أو العزلة بالنسبة لهذا الشخص صاحب الإعاقة.
تطرح نهاية فيلم «حسن ونعيمة» تساؤلات أخلاقية مهمة حول اختيار المخرج والمؤلف لموت ابن صبيحة والإبقاء على حسن حيـًا، فلماذا ضحى بالشخص الذي يراه المجتمع متأخرًا ذهنيـًا وانتهى الفيلم نهاية سعيدة؟ وكيف يمكن أن تكون النهاية السعيدة بزواج حسن ونعيمة، قد لعبت دورًا في نسيان الجمهور لحادثة موت ابن صبيحة التي وقعت منذ ثوانٍ قليلة في المشهد السابق؟
عبدون يعيد إنتاج شخصية قناوي
بعد أكثر من عشرين عامـًا تظهر شخصية رمادية جديدة، لا نعلم هل لديها إعاقة ذهنية أم إدمان للكحوليات أو جنون، ففي فيلم «وكالة البلح» عام 1982 من إخراج حسام الدين مصطفى، نشاهد شخصية (عبدون- محمود عبد العزيز)، التي تكاد تكون نسخة مطابقة لشخصية قناوي في «باب الحديد». فعبدون لديه إعاقة في قدمه (أعرج)، ولديه مشكلة واضحة في الكلام، لكننا لا نعرف بالتحديد ماهية المشكلة وأسبابها، وهل هي ناتجة عن حادثة أو متأصلة منذ الطفولة، لكنها تجعله يبدو غير قادر على التواصل الذهني بشكل عادي بالنسبة للمجتمع. كذلك فعبدون لديه هوس بالمعلمة (نعمة الله-نادية الجندي)، لا يختلف عن هوس قناوي بهنومة. وكما حاول قناوي قتل هنومة فقتل صديقتها، يقع عبدون في نفس الموقف لكنه كان يود قتل منافسه (عبد الله- محمود ياسين) الذي وقعت نعمة الله في غرامه، لكنه قتل حبيبته بالخطأ وكان مصيره السجن.
الضعف الواضح في رسم شخصية عبدون على المستوى الدرامي يطرح تساؤلات كثيرة من بينها: لماذا يتحدث عبدون بهذه الطريقة؟ هل أصيب بهذه الحالة بسبب إدمانه للكحول أم أنها ملازمة له منذ طفولته؟ وهل كان يعاني من هذه المشكلة عندما كان زوجـًا لنعمة الله؟
الإجابة على هذه التساؤلات صعبة لأننا نواجه نفس التحدي كمشاهدين، وهو عدم وجود خط واضح بين الاضطراب النفسي والإعاقة الذهنية. ورغم أن شخصية عبدون إحدى الشخصيات الرئيسية في الفيلم، إلا أن الإعاقة الخاصة به لم تكن جزءًا مهمـًا طول أحداث الفيلم، ولم يقترب المشاهد منها على الإطلاق، لأن شخصية عبدون مرسومة بالأساس من أجل الدوران حول بطلة الفيلم نعمة الله، فهو يقتل من أجلها ولا يهتم بشيء سوى أن تكون راضية عنه.
تمثل الأفلام التي تم إنتاجها ما بين الخمسينيات والثمانينيات محاولات غير ناضجة تتسم بعدم الوضوح في رسمها للشخصيات ذات الإعاقة الذهنية. ويظهر ذلك من خلال عدم الاقتراب بأي شكل تجاه تسمية هذه الإعاقات أو الأمراض بمصطلح علمي، أو ظهور شخصية طبيب متخصص مثلًا يساعد المشاهدين في معرفة طبيعة المرض وهل هو إعاقة ذهنية أم اضطراب نفسي.
كما يمكن متابعة النمط الواضح في الأفلام الثلاثة، حيث تم التضحية بالشخص صاحب الإعاقة حتى لو كان بطلاً، وهذه التضحية سببها الرئيسي أنه لا يمكن أن ينتهي الفيلم نهاية سعيدة ويكون أحد أطرافها شخص لديه إعاقة ذهنية، ولو كانت النهاية حزينة فهو طرف أساسي فيها. فالجمهور قد لا يقبل أن يتزوج شخصًا ذا إعاقة من بطلته المفضلة أو أن يهزم هذا الشخص نجمه المحبوب.
التسعينيات وثلاثة أفلام لا تميل للتنميط
شهدت التسعينات مجموعة من الأفلام التي ركزت على موضوع الإعاقة من بينها «الصرخة»، و«الكيت كات»، و«تووت تووت» و«ديك البرابر». أربعة أفلام شهيرة ظهرت في النصف الأول من التسعينيات، ويمكن أن نتعامل مع هذه الأفلام أنها مثلت بداية لتوجه سينمائي محوره موضوع الإعاقة الجسدية والذهنية والأشخاص المصابون بها. لكننا في نفس الوقت لا نستطيع حسم الأسباب وراء ظهور هذه الأفلام في ذلك التوقيت، هل لدوافع شخصية خاصة بالمؤلف أو المخرج، أم لظروف تتعلق بعدم وجود سيناريوهات جيدة، أم لأسباب اجتماعية تهدف للتوعية بالإعاقة؟
مع نهاية النصف الثاني من التسعينيات عُرض فيلم «مبروك وبلبل»، والذي ناقش قصة حب بين شخص لديه إعاقة ذهنية مع امرأة يعرفها منذ طفولته. ومن بعد هذه المرحلة لم تركز السينما في الألفية الجديدة على سينما الإعاقة إن جاز تسميتها بذلك.
الديك الذي قتل صاحبه
في فيلم «ديك البرابر» إنتاج 1992 وإخراج حسين كمال، نشاهد شخصية (خلف تايكون-فاروق الفيشاوي) الذي يعاني من إعاقة ذهنية بشكل واضح. وهي من المرات القليلة التي نشاهد فيها فيلمـًا مصريًا يتحدث عن الإعاقة الذهنية دون خلط مع الاضطراب النفسي . وهذا يرجع إلى السيناريو الذي كتبه محمود أبو زيد، مؤلف مجموعة من الأفلام المهمة في تاريخ السينما المصرية مثل «العار»، و«الكيف»، و«البيضة والحجر»، و«جري الوحوش»، فالكتابة مالت للواقعية، ورسم شخصية الإنسان ذي الإعاقة كان أكثر دقة من النماذج السابقة.
يظهر خلف للمشاهد مصابًا بإعاقة ذهنية، ملامحه توحي بأن لديه خللاً ربما يكون جينيًا أو كيميائيًا في المخ، لكننا أيضـًا لا نعلم ماهية الإعاقة، ربما تكون متلازمة داون، وربما شيء آخر. خلف لديه اهتمام ببطلة الفيلم (عشرية- نبيلة عبيد) لكنه في النهاية غير أهل لذلك.
أفعال خلف الطفولية سواء لعبه بالبندقية أو النبلة أو شراء المصاصة والحلوى، أو كلماته غير المكتملة والمتلعثمة، تتماشى مع سمات التأخر العقلي لمتلازمة داون، إلا أن ملامحه الجسدية لا تتماشى مع المتلازمة، فمن سمات الشخص المصاب بها: الوجه المسطح والرأس الصغير، قصر الطول، قصر الرقبة، اللسان البارز، الجفون المائلة..، إلخ.
لكننا نعرف بوضوح مع مرور الأحداث أن إعاقة خلف الذهنية ناتجة من حمى شوكية أصيب بها في الطفولة، وليست ناتجة من خلل وراثي، ووصفه الطبيب أثناء حديث مع والده أن لديه تخلفًا عقليًا، ورغم أن كلمة تخلف عقلي قد لا تكون خاطئة على المستوى العلمي مثلها مثل التأخر العقلي، إلا أن مردود الكلمة وصورتها الذهنية عند الجمهور قد تكون سلبية. فالتخلف في اللغة يعني التراجع والتواجد في الخلف أو الوراء.
نظرة المجتمع لخلف مزدوجة، فهم يرونه «أهبل»، لكن في نفس الوقت يخشونه لأنه ناضج جنسيـًا ويمكنه ممارسة العملية الجنسية، لذا فوصف أهبل ممزوج بوصف آخر هو «نمس» لأنه فاجأ إحدى نساء الحارة، وأظهر لها جزءًا من جسده داخل أحد البيوت.
في نفس الوقت فتايكون الدخاخري والد خلف لا يرى ابنه رجلًا كما كان يتمنى، مما يجعله شاعرًا بالإحباط، فخلف «عيل يُعامل معاملة الأطفال» على حد وصف الأب. وإحباط تايكون له أسباب أخرى منها أنه أنجب إناثـًا، ثم جاء الذكر ولديه إعاقة ذهنية تجعله غير مكتمل في عيون أهل الحارة التي يسودها الأب ذو السطوة.
نحن أمام معضلة مزدوجة على مستوى العائلة والمجتمع الذي لا يقبل خلف بسبب إعاقته. فأخواته البنات يكرهنه ويتمنين موته، لأن والدهن يفضله عليهن رغم الإعاقة لأنه ذكر، وهن مضطرات لخدمته طوال الوقت إرضاءً لوالدهن. وكراهية أخواته وصلت لدرجة أنهن كُن يحذرن بعضهن بعضًا منه على بناتهن الصغار، فقالت إحداهن: «قايلة لهم إوعوا إوعوا تلعبوا مع خالكو المساكة أبدًا».
أما أهل الحارة فيرونه خطرًا على نسائها بسبب نضجه الجنسي الذي جعله يمتلك قدرات تلصصية تمنحه قدرًا من المتعة، ليس بالضرورة جسدية، لكنها متعة وتلذذ يرتبط بمشاهدة أجساد النساء داخل حمام التلات، مما يعني أنه ليس أهبل بالكلية، كما يتصوره بعض الناس.
الجميع يدور حول خلف، لأنه ديك (ذكر) البرابر (إناث) الذي سيرث المال كله بعد وفاة أبيه. ورغم ذلك، فخلف يعتبر ضحية في وسط الصراع بين تايكون وأخواته من ناحية، وعشرية من الناحية الأخرى. فخلف غير كامل الأهلية على المستوى القانوني، وبالتالي لا يستطيع الزواج أو اتخاذ قرارات، وقد عرف القانون الشخص غير كامل الأهلية واندرج تحت هذا البند العته والجنون والسفه والغفلة، وفي العته والجنون تنعدم أهلية الشخص، لكن لم يتضح في القانون كيف يقيم العته مثلًا سوى من خلال جملة تقول إن العته آفة تصيب العقل وتؤدي لاختلاله، مما يصيب الفرد بقلة الفهم وخلط الكلام وفساد التدبير٠
والد خلف لا يهتم بكل هذا، لأنه يريد الحفيد العاقل الذي سيكمل سلسال عائلة تايكون الدخاخري، وكذلك عشرية التي استخدمت خلف كوسيلة للانتقام من تايكون. والزواج ليس إلا صفقة واضحة، لأن خلف «عبيط»، وعشرية في حاجة للمال بعد أن قام تايكون بحرق منزلها والقضاء على المهنة التي تتكسب منها، لكن خلف لا يعي أصلًا أو يهتم بقيمة المال، بل يأكله لأن العالم بالنسبة له مجموعة ألعاب وترفيه.
أحد المحاور الواضحة في الفيلم تعلقت بعدم قدرة خلف الجنسية، أو على الأقل في علاقته مع عشرية، والدليل أنها عندما حملت طفلًا فكان نتيجة علاقة بالإكراه مع طليقها. فيظهر من جديد مفهوم عدم القدرة بشكل عام، وذلك في استخدام ألفاظ مثل (أهطل- عبيط-حمار) سواء من عشرية أو أبيه أو من أشخاص لا يعرفونه لكنهم يرون أفعاله.
ثم يأتي مقتل تايكون على يد ولده خلف، وإن كان قتلًا غير عمد، عن طريق الخطأ، فيمكن تفسيره أن الخير تخلص من الشر، فخلف تجسيد لكل ما هو خير -حتى لو كان خيرًا عاجزًا- وتايكون تجسيد للشر. وهنا يظهر البطل الخَيِر في شكل غير تقليدي، لأنه غير مفتول العضلات أو مكتمل العقل، بل عبيط وأهطل يرى المسدس البلاستيك الخاص بالأطفال مثل الرشاش الآلي المدجج بالرصاص. وهذا يمثل تحولاً جوهريًا في رسم شخصية الإنسان ذي الإعاقة الذهنية إذا ما قارنناه بأفلام سابقة.
كريمة تأكل البسبوسة ومحروس يأكل بعقلها الحلاوة
في العام التالي 1993 قدمت نبيلة عبيد فيلم «تووت تووت» للمخرج عاطف سالم وتجسد فيه شخصية كريمة المصابة بإعاقة ذهنية، وهي متلازمة داون. تروي عبيد أنها اعتبرت الدور تحديـًا بالنسبة لها، وكيف اندهش المحيطون بها من قبولها للدور، حتى المؤلف نفسه، لكنها قبلته بعد أن حكى لها المؤلف القصة وصعوبة دورها الذي يعتمد على الأداء الجسدي بشكل كبير، خاصة مع قلة كلمات الحوار التي وصلت لـ ١٥ كلمة فقط وفق رواية عبيد.
إذا كان خلف اُستغل من أجل ثروته، فكريمة استغلت من أجل جسدها، فهي «مجنونة» يجري وراءها الأطفال ويقذفونها بالحجارة، وكثير من أهل الحارة يضحكون مما يحدث، وقليلون متعاطفون معها، ويطالبونها بستر جسدها العاري لأنها خلعت رداءها كي تبعد به الأطفال عنها.
النظرة لكريمة كجسد بدون عقل يسيطر على الرجال المحيطين بها، لأنهم يرونها امرأة مكتملة النضوج واستغلالها جنسيـًا لن يؤدي لأي مخاطر لأنها غير كاملة الأهلية. هذا الاستغلال لا يستثني أو يجعل أحدهم خيرًا تجاهها والآخر شريرًا، فـالشيخ العطار (محمد توفيق) ينظر إليها نفس النظرة التي نظرها محروس (سعيد صالح) الذي مارس معها الجنس بالإكراه.
الشيخ العطار الذي يشتهي كريمة، يتظاهر بالعطف عليها، ويرى أنها «بركة» فيشتري لها غزل البنات، الذي تسميه «بسبوسة» ويرتبط في عقلها بصوت صافرة بائع غزل البنات فتقول «تووت تووت». غزل البنات هو الأداة التي ستسهل استغلالها، فالسكر المغزول يروق للأطفال ويسيل لعابهم، واستخدام البسبوسة الحقيقية كان الأداة المباشرة لاغتصابها من قِبل محروس الرجل الثري. والبسبوسة وغزل البنات هما ثنائية تعبر عن الفقر والثراء الذي ينتمي له كل من كريمة ومحروس. والفقر هنا ممزوج بإعاقة ذهنية، لذا فاستدراج كريمة سيكون سهلًا لأنها طفلة في جسد امرأة شديدة الأنوثة.
تحمل كريمة صفتين متناقضتين فهي «بركة» لكنها «مجنونة»، والجنون هنا ليس بمعناه الشائع كمرض عقلي، لكنه اصطلاح للتعبير عن التأخر الذهني الذي يأتي في مرادفات أخرى مثل «مناخوليا»، و«مجذوب». ويقدم الفيلم تفسيرًا ساذجـًا عن حالة كريمة مرجعه إصابة أمها بنفس الحالة حيث قامت بحرق نفسها في النهاية. تفسير يعمد إلى الخرافة دون الاستناد لسبب علمي قد يؤمن به المجتمع، فتكون النتيجة ترديد المجتمع لهذه الخرافات حول شخص لديه إعاقة ذهنية ما.
معادلة القدرة تستمر في هذا الفيلم أيضـًا، لكنها تأخذ معنى أوسع يتعلق بمفهوم السلطة والنفوذ الذي يملكه محروس في سيطرته على كريمة البلهاء. ودور كريمة يعد التجسيد الأنثوي الأول لإعاقة ذهنية في الأفلام الستة، فجميع الأدوار قام بها رجال، لذا فالمشاكل هنا مختلفة، فاشتهاء جسد رجل من قِبل النساء لن نشاهده كثيرًا، لكن العكس وارد ومؤسَس له اجتماعيـًا. وهذا يمكن فهمه في سياق نظرية النظرة الذكورية، أحد الأسس المهمة في تفسير السينما من منظور نسوي. فنظرة الرجل للمرأة تأتي في إطار كونها مجرد شيء.
وتتجلى هذه النظرة الذكورية المتلذذة التي يظهر فيها قدر من التلصص في مشهد خلع كريمة لملابسها في الشارع اعتراضـًا على إهانة الأطفال لها، فيقف أهل الحارة ووسطهم محروس يشاهدون جسدها العاري، ويتلذذ به محروس مثل بقية الرجال.
شخصية محروس تجسيد لذكر نمطي، يستخدم ثروته في الإيقاع بكريمة، ظنــًا منه أن المنزل الفخم سيغريها، لكنه لم يدرك أن كريمة لا تعي التفاصيل الخاصة بالجنس والعلاقة بين رجل وامرأة وأن المادة عمومـًا والمال خصوصـًا لا يمثل شيئـًا بالنسبة لها، فعندما تحدث معها عن النوم إلى جانبه على السرير، لم تدرك سوى نومها في الشارع والكلب يمر حولها، ربما ليحميها، فظن محروس أنها تريده أن يتقمص دور الكلب كي تنام إلى جانبه ثم تمارس معه الجنس.
وهذا تصور مضاد لما ظهر عليه خلف في فيلم ديك البرابر، الذي يعي ما هو الجنس. وربما يمكن تفسير الوعي وعدم الوعي بالجنس في تصوير الأشخاص ذوي الإعاقة الذهنية أنه مرتبط بالنوع (Gender)، فالرجل من الطبيعي-وفق تفسير ورؤية وتصورات المجتمع- أن يعرف الجنس، أما المرأة فهذا غير طبيعي ويعد عيبـًا، وإن حدث فالمرأة هنا تعتبر غير صالحة، وتمثل خطرًا على المجتمع حتى لو كان الرجال هم من يستدرجونها، وهذا يقال بوضوح أثناء الفيلم في أحد المشاهد عندما تقول إحدى نساء الحارة: «ما هي المهبولة برضه تعرف الرجل اللي جابت منه العيل»
وبالعودة لمحروس، فهو لم يعبأ أثناء ممارسته الجنس باستخدام وسائل الوقاية، لأنه لا يرى أن كريمة أنثى مثل بقية النساء في مسألة الحمل، هي امرأة تُشتهى في المضاجع فقط، لذا عندما علم بحمل كريمة صُدم وقال: «حتى الهِبل بيحملوا!».
هذه النظرة القاصرة لا ترتبط بالضرورة بالذكور، لكن الإناث أيضـًا قد يؤمنون بهذه الصورة النمطية أن النساء ذوات الإعاقة الذهنية لا يمكنهن حمل جنين في أرحامهن، لأنهن غير قادرات وغير مكتملات.
الرجال حول كريمة ذئاب سواء كانوا متدينين، أغنياء، متسكعين أو لصوص، ومن لم يكن ذئبـًا كان متعاطفـًا بالمال. والمجتمع الذي كانت في وسطه وحيدة، لم يستطع أن يقدم لها عونـًا بمعنى التمكين أو الدعم المؤسسي، بداية من المستشفى حتى النيابة. فطبيب المستشفى ووكيل النيابة لم يتحركا لتقديم أي مساعدة قانونية أو مؤسسية رغم مواقعهم التي تتيح لهم ذلك، واكتفى كل منهما إما بتقديم دعم معنوي أو مالي، مما يعني صراحة أن المشكلة لا ترتبط فقط بالجهل لدى الأشخاص البسطاء في الحارة، بل يمتد أيضـًا إلى الأشخاص الذين يعملون في مؤسسات الدولة المختلفة، وهذا دليل على أن المشكلة أكبر من مجرد المعرفة، بل الوعي.
إن مصير كريمة غير الواضح لا يختلف كثيرًا عن بقية التجسيدات في الأفلام السابقة، فتحركها الفردي لأخذ حقها لا يعني حلًا نهائيـًا، لأنها في النهاية مجرد شخص «مبروك» يعيش وسط مجاذيب السيدة، والدراويش الذين يحصلون على الدعم من الله لا من البشر. وآلية الانتقام إن لم تكن ذاتية بيد الضحية، فلن تحدث من خلال مؤسسة، لكن عن طريق منحة إلهية وهذا ما قيل بوضوح في الفيلم على لسان أحد سكان الحارة: «دي بتاعة ربنا.. وربنا هينتقم من اللي ضحك عليها».
ينتهي الفيلم نهاية مفتوحة، دون أن يضع حلاً لمشكلة كريمة، على عكس الأفلام السابقة، فالآخرون إما قتلة أو مقتولون أو مساجين. أما كريمة فهي أم ذات إعاقة ذهنية قد ينتهي بها حالها إلى قتل نفسها أو أن تعيش وسط مجاذيب السيدة كما فعلت طوال حياتها الماضية.
مبروك يتزوج فتاة ليل ويواجه العالم
بعد خمس سنوات يظهر فيلم من إنتاج اتحاد الإذاعة والتليفزيون بعنوان «مبروك وبلبل» إنتاج 1998 وإخراج ساندرا نشأت. صيغة الإنتاج لها تأثيرها، لأن الجمهور المستهدف هنا جمهور التليفزيون، مما يعني أن وصول الفيلم سيكون أسرع وأسهل مقارنة بجمهور قاعات السينما.
بطل الحكاية هو (مبروك – يحيى الفخراني)، شخص لديه إعاقة ذهنية، لكن مرحلته غير متأخرة في وعيه بالعالم المحيط، فمن أول المشاهد في الفيلم نجد مبروك يجلس في حضرة مأذون كي يكون وكيلًا لأخته في زيجتها. هذا المشهد تحديدًا غير واضح، لأن مبروك غير كامل الأهلية، فكيف يشارك في هذا التعاقد؟
اختيار الاسم مبروك إشارة مباشرة لكيفية تفكير المجتمع في الطفل المولود ولديه إعاقة ذهنية، إذ ترتبط البركة به منذ لحظة خروجه للعالم، وتتأصل هذه النظرة المجتمعية مع كل أفعاله، لكنها تتوقف عند حد معين، عندما تمثل هذه البركة (الإلهية) خطرًا على الآخرين. وهذا سيتضح أكثر في سياق الفيلم، وهو تنميط متكرر مثل الفيلمين الآخيرين مع شخصيتي خلف وعشرية.
لا يتوقف تكرار الصور النمطية المرتبطة بعدم قدرة الشخص ذي الإعاقة الذهنية أن يساعد نفسه، تحديدًا فيما يتعلق بالنظافة الشخصية، وهذا المشهد يحدث في فيلم مبروك وبلبل، بعد أن حدث مثله في فيلم ديك البرابر. فعدم القدرة والاعتماد على الآخرين يتجلى في حكاية مبروك، فهو مرتبط بأمه للغاية، ووفاتها مع بداية الفيلم يُحدث لديه هزة في علاقته بالعالم حوله حتى تظهر (بلبل- دلال عبد العزيز)، صديقة طفولته والتي تعمل في مجال الجنس التجاري.
أضاف الفيلم صورة نمطية أخرى عن الشخص ذي الإعاقة الذهنية، فهو لديه قدر من الفوضى والهمجية إن جاز التعبير، فهو يأكل بشكل فيه عدم تنظيم، ويتحرك بشكل غير متوقع، وردود أفعاله كذلك لا يمكن توقعها. هذه الطريقة نراها مع مبروك، وكذلك نشاهدها مع كريمة عندما كانت تأكل البسبوسة وغزل البنات. وهذه الطريقة ناتجة عن عدم قدرة المعاق إذا لم يجد شخصـًا عاقلًا يوجهه تجاه الفعل الصحيح والفعل الخطأ.
مبروك عالمه طفولي، ويجد نفسه مع الأطفال أكثر طول الوقت، وهذا يظهر بصريـًا في عدد من المشاهد المتنوعة، وذلك على عكس باقي الشخصيات في الأفلام الأخرى، فانخراطهم مع الأطفال كان محدودًا إن لم يكن منعدمـًا. وطفولية مبروك تشجع من حوله على استغلاله ومحاولة التخلص منه، وهذا يظهر من خلال حسنين زوج أخته الذي يريد أن يحصل على الثروة، وخاصة أن مبروك سيرث أكثر من أخته، تشابه واضح مع قصة خلف وأخواته البنات.
طفولية مبروك مربوطة عند من حوله بأنه «أهبل وعبيط»، وهي كلمات تكررت كثيرًا خلال أحداث الفيلم، وهذه الكلمات رمادية المعنى، فالمشاهد غير قادر على فهم معنى العبط والهبل، هل معناه قادم من الجنون أم الإعاقة الذهنية، وهذا يطرح سؤالًا حول دور الفيلم/السينما في طرح موضوع ما. هل تنقله كما يحدث في الواقع؟ أم توضح للجمهور الفروق بين الأشياء فيستطيع المشاهد بعد الخروج من تجربة الفيلم أن يفرق بين المفاهيم الملتبسة أو المجهولة؟ وهذا الأمر قد تقوله السينما بشكل مباشر، فتظهر شخصية الطبيب كي تفصل في الأمر، إلا أن هذا النمط لم يظهر في أي من الأفلام التي شاهدتها.
أحد المشاهد المهمة في الفيلم، يظهر فيه مبروك وسط ركاب أتوبيس متجهًا للقاهرة، والركاب يعتدون عليه لأنه لا يريد دفع الأجرة، وبالطبع هو لا يدفع الأجرة لأنه لا يعي الأمر. وبعد طرده من الأتوبيس تتوقف الحافلة، فيخبر السائق الركاب أنه غير متفائل وأن عدم ركوب مبروك سيجلب عليهم المصائب. هذا المشهد يلخص التناقض المتجذر في الثقافة والتراث الشعبي، فهذا الشخص الذي يبدو مجذوبــًا في نظرهم له نفحات إلهية لا يجب نكرانها أو رفضها. خرافة متكررة حول رؤية المجتمع للشخص المختلف.
شكل جديد حاول أن يؤسس له الفيلم من خلال زواج مبروك وبلبل، فبلبل تعمل في مجال يُنظر له نظرة سلبية من قبل المجتمع، لأسباب تاريخية متنوعة. وهي في قرارة نفسها تعلم أنها تعمل في مهنة منبوذة، مما يضعها في تحدٍّ نفسي دائم. ومع ظهور مبروك سنحت لها فرصة يمكن استغلالها، أو بالأحرى استغلاله (أي مبروك)، من أجل التطهر -ربما- ويظهر هذا في عبارات مثل: «ما هو لو مخك زي بقية الناس هتتجوز واحدة زيي ليه؟».
ورغم ذلك، فقدرة بلبل على الزواج عكس قدرة خلف، فالأخير كان لعبة في يد أبيه، أما مبروك فعبر لبلبل عن هذه الرغبة حتى لو لم يكن يعلم حقـًا ما هو الزواج. وزواج بلبل من مبروك كان أصله الاستغلال، لأن مبروك لن يفهم طبيعة عملها، ولن يدرك معنى وجود رجال آخرين معها من حين لآخر، وفي الأوراق الرسمية هي متزوجة، وهذا يعيد نفس مشكلة الأهلية، فكيف يمكن لرجل لديه إعاقة ذهنية أن يقوم باتخاذ خطوة زواج دون التأكد من قدرته الكاملة على ذلك؟
وهذا يطرح سؤالًا جديدًا عن مدى دقة الفيلم في المسألة الفقهية الخاصة بزواجه، فالفتاوى في الإسلام -الذي ترتكز عليه قوانين الأحوال الشخصية- تقول إن الزواج جائز من الشخص الذي عنده إعاقة ذهنية، ما دام شرط الإخبار كان موجودًا عند الطرف الثاني. وما حدث في الفيلم هو أن بلبل تعرف إعاقة مبروك، لكن هل يجوز أصلًا الاعتماد على توقيعه القانوني في هذه الحالة؟ الفيلم أجاب بنعم.
يقع الفيلم، كعادة كثير من الأفلام المصرية، في فخ التنميط والنهايات السعيدة، فتقع بلبل فجأة في غرام مبروك بعد أن أصيب أثناء دفاعه عنها، فهو الرجل القوي الذي يمكنه أن يدافع عنها، وهذا تناقض جديد يظهر في تجسيد الأشخاص ذوي الإعاقة، فعندما يقارن بشخص آخر (عادي) يظهر ضعيفــًا، لكن حال وجوده وحده دون مقارنة مع ذكر آخر، يصبح قويـًا جدًا ويمكنه ضرب أكثر من شخص بكل سهولة، وهذا يظهر مع خلف ومبروك وكريمة، وينتفي مع قناوي وابن صبيحة وعبدون.
انتهى الفيلم بتحول مشاعر بلبل من مجرد الشفقة إلى حب بين رجل وامرأة فيه رغبة. وبعد مشاهد قليلة تصبح بلبل حاملًا من مبروك وينجبان طفلًا ليس لديه أي إعاقات. كل هذا حدث في مشاهد معدودة ولم يقترب الفيلم من أي مساحة علمية أو طبية بخصوص هذا الأمر.
التنميط يحكم الشاشة لمدة 40 عامـًا
لم تقترب الأفلام الستة من الشخصيات وإعاقاتها بشكل علمي، ولم يكن سهلًا أن يتعلم المشاهد شيئـًًا عن هذه الإعاقات في إطار معلوماتي. ولا يمكن من خلال الأفلام معرفة المصطلح العلمي للإعاقة خلال الأحداث، كما أن ظهور طبيب متخصص كان هامشيـًا للغاية أو منعدمـًا ولم يكن دوره مؤثرًا في التعامل مع البطل أو توصيل معلومات طبية دقيقة للمشاهد.
لم نشاهد في جميع الأفلام أي حديث عن أنواع الإعاقات مثلًا، وأن هناك إعاقة بسيطة ومتوسطة، ووقعت الأفلام في فخ تعميمي يتعلق بأن الإعاقة ترتبط حتميـًا بإصابة ما في الجسد أو مرحلة الميلاد. في حين أن الواقع يشير إلى أن الإعاقة تنتج من تفاعل عوامل مختلفة ليست بالضرورة عضوية فقط، فالبيئة المحيطة تلعب دورًا مهمــًا في زيادة حجم الإعاقة أو تخطيها.
كذلك لم تقدم الأفلام نموذج الشخص البطل الذي يكافح الأهوال وينتصر عليها، لكن الأفلام عمدت لتقديم نمط الضحية حتى لو كان قاتلًا. فالأشخاص ذوو الإعاقة عمومـًا والذهنية خاصة إما قَتلة، بداية من قناوي، ثم عبدون، وانتهاء بخلف، أو قُتِلوا مثلما حدث مع ابن صبيحة.
تكررت خلال الأفلام ألفاظ مترسخة في الذهنية المصرية مثل «عبيط»، و«أهبل»، و«بتاع ربنا»، و«بركة»، وكأنها انعكاس لرؤية المجتمع عن كل ما هو مختلف، والمختلف إما يكون مقبولًا فيكون مبروكـًا، أو مرفوضـًا فيكون عبيطـًا، وهذا التناقض كان سمة مشتركة في أكثر من فيلم. والبركة تصنع ارتباطًا مباشرًا بين الشخص ذي الإعاقة وصورة الشخص المجذوب أو الدوريش، وهي صورة نمطية لها تراث ثقافي ممتد. فالمجاذيب بآل البيت ينظر لهم أنهم مجانين، وفي نفس الوقت الأشخاص ذوو الإعاقات يدخلون في دائرة المجانين، إذن فهم مجاذيب، يمكن أن نضعهم جميعــًا في نفس السلة دون تفرقة.