تحظى كلمة الانقلاب بدلالة ذات حمولة سلبية في الثقافة العربية الإسلامية الجمعية، إذ ارتبطت بمعاني الغدر والخيانة والخذلان، الأمر الذي ربطها بنوع من أنواع النفور -غير الواعي- والذي يتشكل في العقل الباطن لدى الإنسان الذي يسمع الكلمة.

ما نقصده بالانقلاب هنا، هو تغيير الولاء أو التبعية من جهة إلى أخرى، بسبب مجموعة من الظروف والعوامل، والتي تختلف من مكان إلى آخر بحسب السياقات التاريخية والاجتماعية والمذهبية والسياسية.

في هذا المقال سنستعرض خمسة نماذج لانقلابات فاشلة، لعبت –رغم فشلها- أدواراً مؤثرة في تغيير حركة تطور التاريخ الإسلامي على مختلف الأصعدة.

انقلاب العباس بن المأمون على المعتصم بالله: ازدياد النفوذ التركي وترهل الخلافة العباسية

في 218هـ، توفي الخليفة العباسي عبد الله المأمون في طرسوس أثناء مشاركته في بعض الغزوات ضد الإمبراطورية البيزنطية، وكما جرت العادة، فقد تم تنصيب ولي العهد أبي إسحاق محمد المعتصم بالله بن هارون الرشيد، كخليفة جديد في نفس يوم وفاة المأمون.

يتحدث ابن جرير الطبري، المتوفى 311هـ، عن تفاصيل بعض الاضطرابات التي وقعت هذا اليوم في معسكر المسلمين، فيقول في كتابه تاريخ الرسل والملوك: «إن الناس كانوا قد أشفقوا من منازعة العباس بن المأمون له في الخلافة، فسلموا من ذلك … أن الجند شغبوا لما بويع لأبي إسحاق بالخلافة، فطلبوا العباس ونادوه باسم الخلافة، فأرسل أبو إسحاق إلى العباس فأحضره، فبايعه ثم خرج إلى الجند، فقال: ما هذا الحب البارد! قد بايعت عمي، وسلمت الخلافة إليه، فسكن الجند».

المعتصم -والذي كانت أمه جارية تركية- مال كثيراً إلى الجنس التركي، فتوسع في شراء الأتراك، وألحقهم بالجيش، وأراد أن يغالب بهم الفرس الذين زادت أعدادهم في الجيش بسبب ميل الخليفة السابق لتجنيدهم.

المعتصم لم يكتفِ بتجنيد الأتراك فحسب، بل إنه أسند بعضاً من أهم المناصب القيادية في الدولة إلى مجموعة من قادتهم، من أمثال الأفشين وأشناس وإيتاخ، وأغدق عليهم الأموال مما سمح لهم بتقوية نفوذهم بين الجند، في الوقت الذي ضيق فيه على القادة العرب، من أمثال عجيف بن عنبسة، فقلت هيبتهم في الجيش، وتراجعت مكانتهم، الأمر الذي أشعل نيران الغضب والغيرة في قلوبهم.

أثناء غزوة عمورية في 223هـ -والتي قاد فيها المعتصم جيوش المسلمين إلى قلب الأناضول- وقع الكثير من الخلافات بين القادة العرب والقادة الأتراك، ويذكر الطبري أن عجيفاً قد ذهب للعباس ووبخه «على ما تقدم من فعله عند وفاة المأمون حين بايع أبا إسحاق وعلى تفريطه فيما فعل، وشجعه على أن يتلافى ما كان منه. فقبل العباس ذلك …»

بحسب الروايات فإن الكثير من القادة قد سارعوا لتأييد العباس، فأرسلوا له معلنين مباركتهم للانقلاب على عمه، وطلبوا منه قتل الخليفة أثناء الغزوة، ولكن العباس رفض ذلك مخافة أن تضيع جهود المسلمين وأن يهزموا في المعركة، فآثر أن ينتظر بعض الوقت، واتفق مع عجيف على قتل مجموعة من القادة الموالين للمعتصم، فحدد لكل قائد تركي قائداً عربياً مكافئاً له، مسؤولاً عن الفتك به عندما تحين اللحظة الحاسمة.

رغم السرية والكتمان، فإن خطة الانقلاب سرعان ما تكشفت للمعتصم، فقام بالقبض على العناصر الرئيسة في المؤامرة، ولا سيما كل من العباس وعجيف، وحبسهما، قبل أن يقتلهما في وقت لاحق.

فشل ذلك الانقلاب تسبب في مجموعة من النتائج بالغة الخطورة، إذ يمكن القول إن العنصر العربي بعد تلك الأحداث، قد خرج بشكل كامل من المعادلة العسكرية، وصار الجيش العباسي متألفاً من الأتراك بشكل شبه كامل، خصوصاً بعدما استكثر المعتصم منهم، في الوقت الذي أسقط فيه العرب بالجملة من ديوان الأعطيات.

النتائج الخطيرة لفشل انقلاب العباس بن المأمون لم تقتصر على الجانب العسكري فحسب، بل تعدت ذلك لتصل إلى ميادين السياسة والحكم، ذلك أن القادة الأتراك الذين حظوا بالقوة والتمكين في حياة المعتصم، سرعان ما سيتزايد نفوذهم بشكل هائل بعد وفاته، خصوصاً في عهد ابنه المتوكل على الله، إلى الدرجة التي ستسمح لهم بالإقدام على اغتياله في قصره سنة 247هـ، الأمر الذي سيتكرر كثيراً فيما بعد في عهود الكثير من الخلفاء العباسيين الضعفاء، والذين سيصيرون مع الوقت مجرد ألعوبة يتحكم بها القادة الأتراك، وسيبقى الحال على ما هو عليه حتى يدخل معز الدولة البويهي بغداد في سنة 334هـ، ليحكم قبضته على السلطة بها.

انقلاب البساسيري على الخليفة القائم بالله: السلاجقة يدخلون بغداد

في الربع الأول من القرن الرابع الهجري، دخل البويهيون الفرس بغداد، وفرضوا سيطرتهم على الخلافة العباسية، فصار السلطان البويهي هو الحاكم الحقيقي، فيما اقتصرت سلطة الخليفة العباسي على الجانب الروحي فحسب.

في أواسط القرن الخامس الهجري، ضعفت سلطة البويهيين كثيراً، وتمكن واحد من الأمراء الأتراك الأقوياء، وهو أبو الحارث أرسلان البساسيري، من الاستبداد بالملك في عاصمة الخلافة، ويتحدث ابن كثير الدمشقي، المتوفى 774هـ، عن تلك الظروف فيقول في كتابه البداية والنهاية: «كَانَ أَرْسَلَانُ التُّرْكِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْبَسَاسِيرِيِّ قَدْ عَظُمَ أَمْرُهُ وَاسْتَفْحَلَ، لِعَدَمِ أَقْرَانِهِ مِنْ مقدمي الأتراك، واستولى على البلاد وطار اسمه، وخافته أُمَرَاءُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَدُعِيَ لَهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَنابِرِ الْعِرَاقِيَّةِ وَالْأَهْوَازِ وَنَوَاحِيهَا، وَلَمْ يَكُنِ للخليفة قطع ولا وصل دُونَهُ …».

في سنة 447هـ جاهر البساسيري بمعارضته للخليفة العباسي القائم بأمر الله، وأرسل إلى القاهرة، ليعلن مبايعته للخليفة الفاطمي المستنصر بالله، فرد عليه المستنصر مرحباً بهذا القرار، وبعث له بالأموال ليستعين بها على تدبير أمر الانقلاب. ويذكر ابن كثير في أحداث هذه السنة: «وفيها تأكدت الوحشة بين الخليفة والبساسيري، وَاشْتَكَتِ الْأَتْرَاكُ مِنْهُ، وَأَطْلَقَ رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ -لقب عُرف به الوزير علي بن الحسن بن المسلمة-  عِبَارَتَهُ فِيهِ، وَذَكَرَ قَبِيحَ أَفْعَالِهِ، وَأَنَّهُ كَاتَبَ الْمِصْرِيِّينَ بالطاعة، وخلع ما كان عليه من طاعة الْعَبَّاسِيِّينَ».

المؤرخ شمس الدين الذهبي، المتوفى 748هـ تعرض في كتابه سير أعلام النبلاء للتطورات الخطيرة التي وقعت في بغداد في تلك الفترة، فذكر أن البساسيري المؤيد من قبل الفاطميين قد أدخل بغداد في «الرايات المصرية، وضرب سرادقه على دجلة، ونصرته الشيعة، وكان قد جمع العيارين والفلاحين، وأطمعهم في النهب، وعظم القحط …». هذا التطور السياسي أثر كثيراً في طبيعة وشكل الشعائر الدينية في بغداد، إذ يذكر الذهبي أن البساسيري بعدما سيطر على عاصمة الخلافة، أمر خطباء المساجد في الجمعة المقبلة لسيطرته على المدينة «فدعي لصاحب مصر بجامع المنصور، وأذنوا: بحي على خير العمل»، وخندق الخليفة حول داره، ثم نهض البساسيري في أهل الكرخ -وهو الحي الذي تسكنه أغلبية شيعية- وغيرهم إلى حرب القائم، فاقتتلوا يومين، وكثرت القتلى، وأُحرقت الأسواق، ودخلوا الدار فانتهبوها …».

هذا الانقلاب السياسي المشبع بالروح المذهبية الشيعية سيؤثر بشكل عميق في تغيير موازين القوى السياسية القائمة في بلاد الإسلام حينذاك، ذلك أن الخليفة القائم بالله سيرسل إلى طغرلبك سلطان السلاجقة في إيران، وسيطلب منه العون والغوث، وسيسارع طغرلبك السني المذهب لتلبية الدعوة، وسيقدم إلى بغداد على رأس جيوشه، فيهزم البساسيري ويقتله.

مقتل البساسيري لم يكن الناتج الوحيد المتخلف عن ذلك الانقلاب الفاشل، بل كانت هناك بعض النتائج المتعلقة بالهوية المذهبية في بغداد، فالسلاجقة السنة الذين عُرفوا بالتعصب لمذهبهم، عملوا على اضطهاد شيعة بغداد بشتى السبل، وبحسب ما يذكر المؤرخ السني ابن كثير، فقد  «أُلْزِمَ الرَّوَافِضُ بِتَرْكِ الْأَذَانِ بِحَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ، وَأُمِرُوا أن ينادي مؤذنهم في أذان الصبح، وبعد حي على الفلاح: الصَّلَاةُ خَيْرُ مِنَ النَّوْمِ، مَرَّتَيْنِ، وَأُزِيلَ مَا كان على أبواب المساجد ومساجدهم مِنْ كِتَابَةِ: مُحَمَّدٌ وَعْلِيٌّ خَيْرُ الْبَشَرِ، وَدَخَلَ المنشدون من باب البصرة إلى باب الكرخ، ينشدون بالقصائد التي فيها مدح الصحابة، وذلك أن نوء الرافضة اضمحل، لأن بني بويه كانوا حكاماً، وكانوا يقوونهم وينصرونهم، فزالوا وبادوا، وذهبت دولتهم، وجاء بعدهم قوم آخرون من الأتراك السلجوقية الذين يحبون أهل السنة ويوالونهم ويرفعون قدرهم، وَاللَّهُ الْمَحْمُودُ، أَبَدًا عَلَى طُولِ الْمَدَى».

اضطهاد شيعة بغداد لم يقتصر على الناحية الشعائرية التعبدية فحسب، بل إن السلاجقة المنتصرين قاموا بتعقب شيوخ الشيعة البارزين، فقتلوا البعض وحبسوا البعض الآخر، ومن ذلك ما ذكره صاحب البداية والنهاية من قيام السلاجقة «بِقَتْلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَلَّابِ شَيْخِ الروافض، لما كان تظاهر به من الرفض والغلو فيه، فقُتل عَلَى بَابِ دُكَّانِهِ، فيما هَرَبَ أَبُو جَعْفَرٍ الطُّوسِيُّ ونُهبت داره …».

على الصعيد السياسي، كان فشل انقلاب البساسيري إيذاناً بالدخول في عصر جديد، إذ ضعف ملك الخليفة الفاطمي المستنصر بالله بعدها ولم تقم له قائمة، فيما لمع نجم طغرلبك -الذي لقبه الخليفة القائم بالله بسلطان المشرق والمغرب- وخلفائه من سلاطين السلاجقة العظام، وأقاموا دولة عظيمة واسعة، قدمت الحماية والنصرة للمذهب السني، واستفرغت طاقتها في مناهضة المذاهب الأخرى.

انقلاب المعز بن باديس على السلطة الفاطمية: مسيرة بني هلال لتونس

من المعروف أن الفاطميين قد ابتدأوا ملكهم من المغرب، وأن خليفتهم الأول، عُبيد الله المهدي قد أسس في297هـ دولته واتخذ من مدينة المهدية عاصمة له.

بعد إتمام الفتح الفاطمي لمصر عام 358 هـ اختار المعز لدين الله الفاطمي القاهرة، لتكون عاصمة جديدة لدولته، فانتقل إليها، وكلف واحداً من كبار القادة المغاربة، وهو بلكين بن زيري الصنهاجي، بولاية المغرب، وكان مدفوعاً في ذلك بثقته في ولاء بلكين المُطلق للأئمة الفاطميين.

منذ تلك اللحظة تحول المغرب من مقر للخلافة إلى مجرد ولاية تابعة للقاهرة، وتعاقب الولاة الزيريين على كرسي الحكم في القيروان، وكانوا حريصين على إظهار تبعيتهم الكاملة  للخلفاء الفاطميين.

في 406هـ توفي الوالي الزيري باديس الصنهاجي، فحل محله ابنه المعز بن باديس، وأرسل إلى القاهرة خاطباً ود الخلافة الفاطمية كما جرت العادة، فأتته الكتب والمراسيم بتعيينه وإقراره على كرسي والده، وبعد بضع سنوات قام الوزير أبو محمد الحسن بن علي اليازوري باستصدار مرسوم من الخليفة المستنصر بالله بتسمية المعز بـ«شرف الدولة»، وهو لقب فخري تشريفي، عبَّر عن العلاقات القوية التي كانت قائمة بين القيروان والقاهرة في تلك الفترة.

في 435هـ وقعت إحدى التحولات المهمة، عندما قام عموم أهل القيروان، من متبعي مذهب أهل السنة والجماعة، بالتعرض للطبقة الأرستقراطية الشيعية الإسماعيلية، فجرى قتل الكثير من متبعي المذهب الشيعي الإسماعيلي، ونُهبت أموالهم وأملاكهم، ولم يستطع المعز بن باديس أن يفعل شيئاً أمام ذلك الحراك الشعبي الثائر، الذي أنتجته عددٌ من الدوافع الاجتماعية والمذهبية.

المعز، الذي كان متأثراً بأساتذته الفقهاء المالكيي المذهب، انقلب على الخلافة الفاطمية عندما أعلن عن مساندته للجماهير السنية، وتحول لاعتناق مذهب الإمام مالك، وعدَّه المذهب الرسمي للدولة، كما أنه أمر بأن يُخطب على المنابر للخليفة العباسي في 439هـ، فأتاه مرسوم من الخليفة العباسي القائم بأمر الله، بتعيينه على ولاية إفريقية، وذلك بحسب ما يذكر حسن عبد الوهاب في كتابه «خلاصة تاريخ تونس».

أمام تلك المتغيرات المتسارعة في المغرب كانت الخلافة الفاطمية تبحث عن حلول لتدارك هيبتها المفقودة في تونس، وسرعان ما أتى ذلك الحل على يد الوزير الحسن بن علي اليازوري.

اليازوري أقنع الخليفة المستنصر بإصدار قرار في 442هـ بتحريك قبائل بني سليم وقبائل بني هلال -والتي كانت تسكن في شرقي مصر- لتتوجه غرباً، وأذن لهم في استيطان إفريقية، بل منح كل رجل منهم ديناراً كاملاً لتحفيزهم على التحرك والتوجه لقتال ابن باديس.

بحسب ما تذكر الدكتورة ريم هادي في بحثها «دور الوزير اليازوري وسياسته الداخلية والخارجية لمصر»، فإن ما يقترب من نصف مليون نسمة، من القبائل العربية، قد تحركوا باتجاه المغرب، فاستولوا على برقة، ولما خرج لهم المعز بن باديس، قاتلوه وهزموه، ثم دخلوا إلى إفريقية فحاصروا مدنها، فخرج لهم المعز بن باديس في جيش بلغ ثلاثين ألف مقاتل، ولكنهم هزموه مرة أخرى.

ابن باديس لم يجد أمامه سوى التحصن داخل أسوار عاصمته، ثم جمع جيشاً آخر، عدَّته ثمانون ألف مقاتل، وخرج لقتال قبائل العرب، ولكنه هُزم للمرة الثالثة، وقُتل الكثير من أفراد الجيش الصنهاجي.

في 449هـ أدرك المعز بن باديس أنه لن يتمكن من التصدي لتلك الهجمة القبلية الشرسة، فرضخ للأمر الواقع، وترك القيروان، وانتقل إلى مدينة المهدية، وتنازل عن الحكم لابنه تميم، وعاش في معزل عن الحياة السياسية إلى أن توفي حزيناً مكلوماً في 453هـ، وقد وصفه شمس الدين الذهبي في كتابه الأشهر «سير أعلام النبلاء» بقوله: «وكان ملكاً مهيباً، وسرياً شجاعاً، عالي الهمة، محباً للعلم، كثير البذل، مدحه الشعراء …»

تداعيات الانقلاب الفاشل الذي قام به المعز بن باديس على السلطة الفاطمية لم تقتصر على النواحي السياسية فحسب، بل إنها قد تعدت ذلك، لتمتد إلى إحداث تأثيرات إثنية وديموغرافية حقيقية في منطقة المغرب الأوسط، إذ امتزج العرب بالأمازيغ في تلك المنطقة، وانعكس ذلك على الثقافة الجمعية السائدة في المنطقة.

العقل الشعبي اهتم بإدخال سيرة المعز بن باديس إلى الملحمة الهلالية، ولكن لما كان من المعتاد أن يلجأ الفنان إلى تغيير أسماء الشخصيات بما يتناسب مع البعد الخيالي المرتبط بالسيرة، فإن شخصية المعز بن باديس قد تحولت في السيرة الهلالية لتأخذ اسماً آخر أكثر شيوعاً وشهرة، وهو الزناتي خليفة.

انقلاب المغيرة بن عبد الرحمن الناصر على هشام المؤيد: ظهور الدولة العامرية

في سنة 366هـ توفى الخليفة الأموي الثاني في الأندلس، الحكم المستنصر ابن عبد الرحمن الناصر، بعد أن عهد بولاية عهده إلى ابنه هشام المؤيد بالله الذي لم يبلغ الثانية عشرة من عمره بعد.

العديد من الأمراء الأمويين لم يرضوا عن ولاية هشام، وتعللوا في ذلك بصغر سنه وحداثته، إلا أنه لم يكن من الممكن أن يبدي هؤلاء الأمراء رأيهم في حياة الخليفة الحكم.

فرصة الانقلاب تهيأت بعد أن لفظ الحكم أنفاسه الأخيرة في قصره في قرطبة، فبحسب ما يذكر المستشرق الهولندي رينهرت دوزي في كتابه المسلمون في الأندلس، فإن الفتيان الصقالبة الذين كانوا يعملون بالخدمة في قصر الخلافة -ولا سيما فائق وجوذر- أرسلوا ليستدعوا أحد الأمراء الأمويين وهو المغيرة بن عبد الرحمن الناصر، وكان يبلغ من العمر سبعة وعشرين عاماً في هذا الوقت، واتفقوا معه على تنصيبه خليفة جديداً بعد أن تتم الإطاحة بهشام الصبي.

بحسب ما يذكر ابن عذاري في كتابه البيان المغرب، فإن خطة الصقالبة كادت أن تنجح لولا تدخل أحد الأعوان القريبين من هشام، وهو الوزير محمد بن أبي عامر، وكان أحد المعينين على الوصاية على الخليفة الصبي حتى يبلغ سن الرشد.

ابن أبي عامر تحرك بسرعة قبل أن يستفحل الخطر، فقاد جماعة من الجند البربر إلى دار المغيرة وقتله ثم دفن جثته فى بيته، وبمقتله فشل الانقلاب، وتم أمر البيعة للخليفة هشام المؤيد بالله، واستقرت الأمور في أرض الأندلس.

ولكن ماذا ترتب على فشل هذا الانقلاب؟

الباحث في تاريخ الأندلس سيندهش من كثرة الآثار الخطيرة التي ترتبت على فشل هذا الانقلاب، ذلك أن الوزير محمد بن أبي عامر، سيترقى كثيراً في سلم السلطة، ولن يمر وقت طويل حتى يتخلص تماماً من جميع المنافسين له، وسيحكم قبضته على هشام، وسيحبسه في قصره بعيداً عن أعين الناس، بل سيستصدر منه مرسوماً بتعيينه في منصب الحجابة وتولي مقاليد الحكم والإدارة وإضافة الألقاب الملوكية إلى اسمه، ليتحول ابن أبي عامر إلى الملك المنصور ابن أبي عامر، وهو الاسم الأشهر له في المدونات التاريخية.

صناعة الديكتاتور المستبد لم يكن هو الأثر الوحيد الناجم عن فشل الانقلاب، بل الأخطر من ذلك أن المنصور الذي فتك بقوى المعارضة الأموية التي عارضته فيما حافظ على بقاء الدولة الأموية اسماً، شيد دولته التي عُرفت بالدولة العامرية، والتي حكمت الأندلس في الحقيقة، بما يعني أن السلطة في الأندلس كانت مقسومة بين دولتين، الأموية والعامرية.

هذا الصراع الصامت بين السلطات سيتفجر بعد فترة قصيرة من وفاة المنصور، وذلك في 399هـ، في عهد ابنه عبد الرحمن المعروف بشنجول، إذ ستثور ثائرة مختلف الطوائف في الأندلس، وستندلع الفتن في قرطبة، وسيظهر العديد من مراكز القوى العامرية والأموية والبربرية، وسيدعي كل منها حقه في الحكم والخلافة، الأمر الذي سيمهد لدخول الأندلس فيما يُعرف باسم عصر ملوك الطوائف.

انقلاب الأمير مصطفى على السلطان سليمان القانوني: بداية ضعف الدولة العثمانية

في سنة 1520م، اعتلى الأمير العثماني سليمان بن سليم الأول عرش السلطنة العثمانية، ليصبح عاشر سلاطين دولة بني عثمان. السلطان سليمان شاه عُرف بقوته وسعة نفوذه في قارات العالم القديم الثلاث -أوروبا وآسيا وأفريقيا- الأمر الذي ظهر في الألقاب التشريفية التي خلعها عليه أعداؤه قبل حلفائه، ومن أهمها لقب العظيم الذي عُرف به بين الأوروبيين لقوته، ولقب القانوني الذي لقبه به العثمانيون لاهتمامه بوضع التشريعات والقوانين الضابطة لدولته.

في 1553م، وقعت حادثة في منتهى الأهمية في تاريخ الدولة العثمانية، وكان لها دور مؤثر في تبديل أحوال تلك الدولة العظيمة، ألا وهي حادثة إعدام الأمير مصطفى الابن البكر للسلطان سليمان.

تتفق المصادر العثمانية على أن السلطان سليمان كان قد خرج في واحدة من حملاته العسكرية في هذه السنة، وأنه قد أُطلع على بعض الرسائل المتبادلة بين ابنه الأمير مصطفى من جهة والشاه الصفوي طهماسب من جهة أخرى، وأن تلك الرسائل كانت تدور حول ضرورة التخلص من سليمان، وأن يحل مصطفى محله على كرسي السلطنة.

بحسب ما يذكر المؤرخ أحمد بن يوسف القرماني، المتوفى 1610م، في كتابه أخبار الدول وآثار الأول في التاريخ، فإن السلطان سليمان القانوني لما اقتنع بدور ابنه البكر في المؤامرة التي تستهدف الانقلاب عليه، أرسل مستدعياً إياه ليقدم عليه في معسكره في منطقة إيريجلي، ولما دخل عليه مصطفى خيمته ليقدم له التحية، تم إعدامه خنقاً على يد مجموعة من الجلادين المتربصين.

بطبيعة الحال، فإن الأمير مصطفى لم يتمكن من الدفاع عن نفسه، ولم يستطع تبرئتها من تهمة الخيانة وتدبير الانقلاب، ويشير العديد من الباحثين إلى نفي تلك التهمة عن الأمير المغدور، ومنهم على سبيل المثال المؤرخ التركي أحمد أق كوندوز في كتابه الدولة العثمانية المجهولة، إذ يقول: «كان قتله -أي الأمير مصطفى- بتهمة عصيانه للدولة، ولكن الأدلة كانت خاطئة، وكان الشهود شهود زور. ومع أن إعدام الأمير مصطفى أُدخل ضمن إطار قانوني وأقنع الناس بأدلة زائفة، إلا أنه أحدث بلبلة كثيرة داخل البلد …». وفي السياق نفسه، أكد المستشرق الألماني كارل بروكلمان في كتابه «تاريخ الشعوب الإسلامية» أن الأمير مصطفى قد راح ضحية لحيلة من حيل السلطانة خرم -الزوجة الأثيرة لدى السلطان سليمان- والتي كانت تريد التخلص من ولي العهد مصطفى، لتتاح الفرصة لوصول أحد أبنائها إلى السلطة مستقبلاً.

إذا تماشينا مع الرواية الرسمية والتي تؤكد اضطلاع الأمير مصطفى في الانقلاب على أبيه، فإننا سنصل إلى حقيقة مفادها أن فشل هذا الانقلاب كان ذا أثر كارثي على مستقبل الإمبراطورية العثمانية، ذلك أن إعدام مصطفى قد حرم الدولة من الوريث الأكثر كفاية ومقدرةً على حكمها، كما أنه قد أتاح الفرصة لوصول أخيه الأصغر -غير المؤهل- سليم لكرسي العرش.

يتحدث بروكلمان عن تلك النقطة تحديداً، فيقول: «وهكذا انتهى سليم، أقل أولاد سليمان كفايةً، وكان عربيداً سكيراً، إلى أن يصبح وارث العرش غير منازع». فبمجرد وفاة سليمان القانوني في سنة 1566م، ووصول سليم للحكم، بدأت الإمبراطورية العثمانية تعاني من مظاهر التردي والضعف، إذ زاد نفوذ قادة الجيش الإنكشاري، ونجحوا في فرض سيطرتهم على السلاطين، وكثيراً ما قاموا بخلعهم وإبعادهم عن العرش. أما على المستوى العسكري، فقد لحقت بالعثمانيين مجموعة من الهزائم المدوية والتي لم يعتد العثمانيون عليها من قبل، وكان أول تلك الهزائم، الهزيمة التي مُنيت بها أساطيل سليم الثاني في موقعة ليبانتو البحرية سنة 1571م، وهي المعركة التي كانت إيذاناً بانتهاء عصر التفوق العثماني على أوروبا.