4 أسئلة يجب أن تعرف إجاباتها عن نظرية التطور البيولوجي
إذا قررت زيارة متحف التاريخ الطبيعي في العاصمة البريطانية لندن، يمكنك الذهاب في جولة لمعرض التطور البشري، حيث يستعرض أصول الإنسان العاقل، ويتتبع سلالاتنا البشرية منذ سبعة ملايين سنة.
تبدأ الرحلة من إفريقيا مع أقربائنا من أشباه البشر الأوائل «early hominin»، الذين ارتبطوا بنا أكثر من الشمبانزي، ثم تستمر الرحلة لمقابلة أقربائنا من البشر القدامى أثناء انتشارهم في أوروبا وآسيا. أثناء الرحلة، يمكنك مشاهدة أشهر العينات من الأحفوريات القديمة في المتحف، وتتعرَّف إلى بعض آخر الأبحاث التي تلقي الضوء على ماضينا التطوري. تنتهي الرحلة بالبشر المعاصرين، باعتبارهم الجنس البشري الوحيد الباقي في العالم حتى اليوم.
لكن قبل دخولك إلى المتحف، ما الذي يجب أن تعرفه عن نظرية التطور؟ وهل هي مجرد نظرية، أم أنها حقيقة علمية؟ حسنًا، لنبدأ معًا رحلتنا التي تسبق رحلة متحف التاريخ الطبيعي.
1. ما هو التطور البيولوجي؟
التطور البيولوجي هو مجال فرعي من علم الأحياء، والذي يدرس العمليات التطورية التي أنتجت تنوع الحياة على الأرض، بدءًا من سلف مشترك واحد. وتشمل هذه العمليات الانتقاء الطبيعي، والنسب المشترك، والتفرع الحيوي.
تكيفت العصافير المنزلية مع مناخ أمريكا الشمالية، وتطور البعوض استجابةً لظاهرة الاحتباس الحراري، كما طورت الحشرات مقاومة لمبيدات الآفات، والأخطر هو تطوير البكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية، هذه كلها أمثلة على التطور .
يمكن تعريف التطور البيولوجي ببساطة على أنه التغير في الصفات الوراثية مع تلاحق الأجيال الجديدة استمرار النسل، مما يؤدي لظهور تغييرات جديد تورث أو حتى ظهور أنواع ومجموعات جديدة على مدى زمني أوسع مع تراكم التغييرات، وهذا يعني أن الكائنات الحية جماعات لها سلف مشترك في مرحلة عتيقة من الزمن.
من أجل البقاء على قيد الحياة تتكيف الكائنات الحية مع محيط بيئاتها. في بعض الأحيان، يعطي التباين الوراثي ميزة لأحد أعضاء فصائل الكائنات الحية. ينقل هذا العضو الجين المفيد إلى نسله اللاحق، ليبقى هذا النسل الجديد الذي يملك سمات جديدة على قيد الحياة، ثم ينقلها إلى ذريته أيضًا. إذا ظهر العديد من السمات المفيدة مع مرور الزمن، فإن نوعًا جديدًا يتطور، يملك إمكانيات أفضل لمواجهة تحديات بيئته المستمرة. لا يعني التطور أن البقاء للأقوى كما هو شائع، بل الأنسب والأكثر تأقلمًا وتكيُّفًا مع الظروف الطبيعية والبيئية التي يوجد فيها.
ولا يأتي التطور في شكل خط مستقيم، بل يمكن تمثيله بشكل شجرة تبدأ بجذع يمثل السلف المشترك، والذي تشترك فيه جميع الكائنات الحية، ثم يتفرع الجذع لمجموعة من الفروع، التي تتفرع بدورها لفروع أخرى تمثل العائلات والفصائل والأجناس المختلفة من الكائنات الحية.
التطور البيولوجي ليس مجرد مسألة تغيير بمرور الزمن فحسب؛ تتغير كثير من الأشياء بمرور الزمن: تفقد الأشجار أوراقها، وترتفع سلاسل الجبال وتتآكل، ولكنها ليست أمثلة للتطور البيولوجي؛ لأنها لا تنطوي على انحدار النسب من خلال الوراثة الجينية. إن الفكرة الأساسية للتطور البيولوجي هي أن كل أشكال الحياة على الأرض تملك سلفًا مشتركًا، تمامًا كما تتشارك أنت وأبناء عمومتك في الجد والجدة.
2. هل التطور نظرية أم حقيقة علمية؟
يمكننا الإجابة أنه الاثنان في الوقت نفسه. لكن هذه الإجابة تتطلب نظرةً أكثر عمقًا في معاني الكلمتين: «نظرية» و«حقيقة علمية».
في استخدامنا اليومي، غالبًا نشير بكلمة «النظرية» إلى حدس أو تكهنات حول حدث ما؛ مثلًا عندما يقول أحدهم: «لديَّ نظرية حول سبب حدوث ذلك»، فهو غالبًا ما يستخلص استنتاجات تستند إلى أدلة مجزَّأة أو غير حاسمة حول هذا الأمر. بينما يختلف التعريف العلمي الرسمي لكلمة «النظرية» تمامًا عن المعنى اليومي الذي نستخدمه باستمرار؛ فهو يشير إلى شرح ووصف شامل لبعض جوانب الطبيعة أو لظاهرة ما. يدعم هذا الشرح والوصف مجموعةً كبيرةً من الأدلة القوية والمؤكدة على حدوث هذه الظاهرة.
هناك العديد من النظريات العلمية الراسخة لدرجة أنه من المستحيل علميًا أن يغيرها أي دليل جديد. على سبيل المثال، لن يثبت أي دليل جديد أن الأرض لا تدور حول الشمس (نظرية مركزية الشمس)، أو أن الكائنات الحية لا تُصنع من خلايا (نظرية الخلية)، أو أن المادة لا تتكون من ذرات. ومثل هذه النظريات العلمية التأسيسية تدعم نظرية التطور من خلال العديد من الملاحظات والتجارب الموثَّقة التي تؤكد ثقة العلماء من أن المكونات الأساسية للنظرية لن تُنقض بواسطة أدلةٍ جديدةٍ فيما بعد.
ومع ذلك، مثل كل النظريات العلمية، تخضع نظرية التطور للتحسين والصقل المستمر مع ظهور مجالات جديدة للعلوم البيولوجية، أو عندما تتيح لنا التقنيات الجديدة عمليات رصد وتجارب لم تكن ممكنة في الماضي.
واحدة من أهم الخصائص المفيدة للنظريات العلمية هي إمكانية استخدامها لعمل تنبؤات حول الأحداث أو الظواهر الطبيعية التي لم نلاحظها بعد. على سبيل المثال، تنبأت نظرية الجاذبية بسلوك الأجسام الموجودة على سطح القمر والكواكب الأخرى قبل زمن طويل من تأكيد هذا السلوك بواسطة التلسكوبات ومركبات الفضاء.
تنبأ علماء الأحياء التطورية الذين اكتشفوا أحفورة «تيكتاليك – Tiktaalik» (جنس أحادي النوع من لحميات الزعانف المنقرضة يعود زمنها إلى العصر الديفوني المتأخر، توضح الانتقال التطوري بين الأسماك السابحة في الماء والفقاريات ذات الأرجل الأربعة) بأنهم سيجدون حفريات وسيطة بين الأسماك والحيوانات الأرضية ذات الأطراف في الرسوبيات التي يبلغ عمرها حوالي 385 مليون عام. أكد اكتشافهم لهذه الأحفورة التنبؤ الذي تم بناءً على أساس نظرية التطور. يزيد صحة هذا التنبؤ من الثقة في صحة النظرية نفسها.
في العلم، يشير مصطلح «الحقيقة» عادةً إلى ملاحظة أو قياس أو أي شكل آخر من الأدلة التي يمكن توقع حدوثها بنفس الطريقة في ظل ظروف مماثلة. يستخدم العلماء أيضًا مصطلح حقيقة للإشارة إلى التفسير العلمي الذي تم اختباره وتأكيده مرات عديدة بحيث لم يعد هناك سبب مقنع لمواصلة اختباره أو البحث عن أمثلة إضافية لتأكيده.
منذ عهد تشارلز داروين قدمت التخصصات البيولوجية التي ظهرت مؤخرًا، مثل علم الوراثة والكيمياء الحيوية وعلم البيئة والسلوك الحيواني وعلم الأحياء العصبية وبشكل خاص البيولوجيا الجزيئية، أدلة إضافية قوية وتأكيدًا مفصلًا على صحة نظرية التطور.
في هذا الصدد، يمكن اعتبار حدوث التطور في الماضي وكذلك استمرار حدوثه حقيقةً علمية؛ لأن الأدلة التي تدعمه قويةً للغاية، بحيث لم يعد يسأل العلماء عمَّا إذا كان التطور البيولوجي قد حدث وما زال يحدث بالفعل أم لم يحدث. بدلًا من ذلك، يبحثون في آليات التطور، ومدى سرعة حدوثه، والأسئلة الأخرى التي ترتبط بدراسة هذا الموضوع.
3. ما هي قصة التطور البشري؟
قصة التطور البشري ليست قصة من خط درامي واحد أنيق، مع بداية ونهاية معروفين. إنها قصة شجرة عائلة تمتد أفرعها المعقدة والكثيفة على مدى العديد من آلاف السنوات وعبر قارات العالم. تضم مجموعة متنوعة من الممثلين القدامى، والعديد من المجهولين، ونهايات تطورية مغلقة. يوفر التكيُّف والبقاء والانقراض الخلفية الديناميكية لهذه القصة المثيرة.
عملية التطور تنتج نمطًا من العلاقات بين الأنواع المختلفة من الكائنات الحية. في حين تتطور وتنقسم السلالات، وتُورث التعديلات الجينية، تتباين مساراتها التطورية؛ وهو ما ينتج نمطًا متفرِّعًا للعلاقات التطورية بينها.
التطور البشري، مثل التطور في الأنواع الأخرى، لم يتحرك في خط مستقيم. بدلًا من ذلك، جاءت الفصائل المختلفة من أجداد مشتركة، والتي يمكن تشبيهها بالفروع على الأشجار. جنسنا البشري، الإنسان العاقل «هومو سابينز»، هو من تبقى على قيد الحياة من فصائل الإنسان الأخرى، والتي عاصر بعضها بالفعل في أزمان سابقة.
يمكن للعلماء حاليًّا التعرف على حوالي 15 إلى 20 نوعًا مختلفًا من البشر الأوائل. العديد من الفصائل البشرية الأولى، وبالتأكيد معظمها، لم تترك نسلًا على قيد الحياة. يناقش العلماء أيضًا كيفية تحديد وتصنيف الفصائل المحددة للبشر الأوائل، وما هي العوامل التي أثرت في تطور وانقراض كل نوع.
إن أكثر ما يميز البشر عن الفصائل والكائنات الأخرى هي قدرتنا على الوقوف بشكل مريح على قدمين لفترات طويلة من الزمن. لقد جاء هذا التطور مع مرور الوقت، من خلال سلسلة من التغييرات التشريحية في هيكلنا العظمي، التي أثرت على قاعدة الجمجمة والعمود الفقري والحوض وعظام الفخذ والركبتين والقدمين. عرفنا ذلك أول مرة من خلال أحفورة أوائل أشباه البشر «أورورين توجنسيس – Orrorin tugenensis» البالغ من العمر ستة ملايين عام. لكننا لم نرَ الأرجل الطويلة سوى مع ظهور «الإنسان المنتصب – Homo erectus» قبل حوالي 1.9 مليون عام، والتي تشبه الأرجل التي نملكها اليوم، وتلائم تمامًا مهمات الجري والمشي لمسافات طويلة.
يمكن اعتبار التطور البشري لغزًا مكونًا من آلاف القطع الأحفورية، ومليارات من أجزاء الحمض النووي. مع استمرار اكتشاف حفريات جديدة وإضافتها إلى شجرة العائلة البشرية، حيث تقدم لنا التقنيات الحديثة، في تحديد تاريخ الحفريات وبيانات المناخ، صورةً أكثر دقة للظروف التي تطور فيها أقاربنا القدامى.
4. هل كل التشابهات ناتجة عن المسار التطوري نفس ه؟
عندما اقترح تشارلز داروين لأول مرة فكرته عن الانتقاء الطبيعي، استخدم في الغالب الأدلة المستندة من السمات التشريحية للكائنات الحية التي درسها. يمكن تصنيف هذه التشابهات في الهياكل التشريحية بطريقتين مختلفتين: إما على أنها هياكل متماثلة، وإما هياكل متشابهة.
التشابه «Analogy»، أو الهياكل المتشابهة، هو الذي لا يشير إلى وجود سلف مشترك حديث بين كائنين. على الرغم من أن الهياكل التشريحية لهم تبدو متشابهة، وربما تؤدي نفس الوظائف، إلا أنها جاءت في الواقع نتاج تطور متقارب. لمجرد أنهم يشبهون بعضهم بعضًا، ويتصرفون بنفس الشكل، لا يعني أنهم مرتبطون بشكل وثيق في شجرة الحياة.
التطور المتقارب «Convergent evolution» هو عندما يخضع نوعان منفصلان من الكائنات للعديد من التغييرات والتعديلات ليصبحا أكثر تشابهًا. عادةً، يعيش هذان النوعان في مناخ وبيئة مماثلة في أجزاء مختلفة من العالم تؤدي إلى تطور هذه التعديلات. ومن ثَم تساعدهم على النجاة في هذه البيئة.
المثال الأوضح على الهياكل المتشابهة هو أجنحة الخفافيش والطيور والحشرات الطائرة. تستخدم الكائنات الثلاثة أجنحتها بغرض الطيران، لكن الخفافيش تُصنف كثدييات وليست مرتبطة بالطيور أو الحشرات. في الواقع، ترتبط الطيور ارتباطًا وثيقًا بالديناصورات أكثر من ارتباطها بالخفافيش أو الحشرات الطائرة. تكيفت الكائنات الثلاثة مع بيئاتها من خلال تطوير الأجنحة. ومع ذلك، فإن هذه الأجنحة لا تشير إلى وجود علاقة تطورية وثيقة بينهم.
مثال آخر هو زعانف القرش والدلافين، تُصنف أسماك القرش داخل عائلة الأسماك، بينما تُعد الدلافين من الثدييات. ومع ذلك، يعيش كلاهما في بيئات مماثلة في المحيط، حيث تطورت الزعانف للحيوانات التي تحتاج إلى السباحة والتحرك في الماء. إذا تم تتبعهم بشكلٍ كافٍ على شجرة الحياة، فسنجد سلفًا مشتركًا للاثنين، لكن لن يُعتبر سلفًا مشتركًا حديثًا، وبالتالي تعتبر زعانف القرش والدلافين هياكل متشابهة.
أما التصنيف الآخر للهياكل التشريحية فيُسمى التماثل «Homology»؛ حيث تطورت الهياكل المتماثلة من سلف مشترك حديث. ترتبط الكائنات ذات الهياكل المتماثلة ارتباطًا وثيقًا ببعضها على شجرة الحياة، وخضعت للتطور المتباين.
التطور المتباين «Divergent Evolution» يحدث عندما تقل التشابهات بين الأنواع المرتبطة ارتباطًا وثيقًا في الهيكل والوظائف بسبب عمليات التكيف التي اكتسبتها أثناء عملية الانتقاء الطبيعي. يمكن للهجرة إلى مناخات جديدة، والمنافسة مع الأنواع الأخرى، وحتى التغييرات التطورية الدقيقة مثل طفرات الحمض النووي أن تسهم في حدوث عملية التطور المتباين. على سبيل المثال، تملك جميع الحيوانات الفقارية، مثل الضفادع والطيور والأسماك والبشر، هياكل عظمية؛ لأن السلف المشترك للفقاريات كان يملك هيكلًا عظميًا، ومرر هذه السمة إلى نسله.
تكمن أهمية التطور في كلا التصنيفين من خلال اكتساب صفات جديدة تمكِّن الكائنات من مواكبة التغيرات وتمنحها القدرة على التكيف مع البيئة المحيطة بسهولة.
في النهاية، أتمنى لك رحلة سعيدة في متحف التاريخ الطبيعي، لحظات بسيطة تقضيها مع أنواع قليلة من الكائنات الحية، لكنك تسافر معها ملايين السنوات إلى الماضي.