جنوب أفريقيا بعد 25 عامًا: من العنصرية إلى عدم العدالة
في 29 يونيو/ حزيران 1949 تم تطبيق سياسة الفصل العنصري «الأبارتيد» في جنوب أفريقيا من قبل الأقلية البيضاء الحاكمة، وكان يبلغ عدد السكان البيض في ذلك الوقت 5 ملايين نسمة في مقابل 25 مليون نسمة من البانتو «أصحاب البشرة السوداء» و4 ملاين نسمة من السكان الملونين -المنحدرين من أب أبيض وأم من أصحاب البشرة السوداء- والهنود؛ أي أن إجمالي عدد السكان غير البيض في جنوب أفريقيا يقترب من 29 مليون نسمة عانوا سياسة الأبارتيد طوال ما يقرب من نصف قرن.
كيف تقنن العنصرية؟
كانت كل الامتيازات بل والحقوق الطبيعية للإنسان مخصصة للأقلية البيضاء، فكانت المطاعم والمتاجر والشواطئ تعمل لخدمة تلك الأقليلة بينما على غير البيض أن يسكنوا في الغابات وضواحي المدن غير المعدة للاستعمال الآدمي.
ففي عام 1949 صدر قانون منع الزواج بين الأعراق على حسب لون بشرتهم، ومن أجل تفعيل القانون صدر قانون تسجيل السكان بعام 1950 والذي قسم السكان إلى 4 أجناس على حسب لون بشرتهم.
كما كان يحدد أوجه حياتهم وأنشطتهم منذ ميلادهم وحتى وفاتهم، وإكمالًا للعنصرية صدر قانون السكن المنفصل والذي فصل بين تلك الأجناس في سكنهم وأزال أحياءً كاملة مثل: صوفيا تاون في جوهانسبرغ، كما تم تجريد أصحاب البشرة السوداء من ممتلاكتهم ومنازلهم ونقلهم إلى مدن صفيحية ليسكنوا بها وإعطاء ممتلاكاتهم تلك إلى الأقلية البيضاء.
وكان يجب على أصحاب البشرة السوداء الحصول على تصاريح مرور من أجل أن يتحركوا في الشوارع التي يسكنها البيض، إلى جانب حرمانهم من حق التصويت والمشاركة في الحياة السياسية.
كيف تمت مواجهة سياسة الأبارتهيد؟
في خمسينات القرن الماضي تشكلت حركة مناهضة سياسات التميز العنصري في جنوب أفريقيا وتم تنظيم العديد من أساليب المواجهة السلمية، ففي عام 1952 تم تدشين «حملة تحد» والتي شملت اتحاد عدد من الكيانات التي تعمل على مناهضة التميز العنصري مثل حزب المؤتمر الوطني الأفريقي والمؤتمر الهندي الجنوب أفريقي والمؤتمر الشعبي للملونين، وقد تقدم أكثر من 800 متطوع إلى المحكمة مطالبين بإسقاط قوانين التميز العنصري تلك إلا أنه تم إلقاء القبض عليهم جميعًا، وتم توجيه تهم خرق حظر التجوال ودخول المرافق المخصصة للمواطنين البيض دون الحصول على تصريحات.
كما قامت بعدد من الحملات السلمية لمناهضة التميز العنصري مثل حملة مقاطعة الحافلات محتجين خلالها على انخفاض أجورهم، وغيرها من أساليب العصيان المدني؛ مما دفع الحكومة إلى إصدار قانون السلامة العامة في عام 1953 والذي يهدف لمواجهة عمليات العصيان المدني تلك وفرض عقوبات تصل إلى الحبس لمدة 5 سنوات. ومن أبرز فاعليات المقاومة ما قامت به السيدات في 17 إبريل/ نيسان 1954 عندما شكلوا اتحاد المرأة الجنوب أفريقي في جوهانسبرج والذي شارك في جميع فاعليات المناهضة فيما بعد، وفي 9 أغسطس/ آب 1956 نظم الاتحاد مسيرة إلى مقر مجلس الوزراء مطالبين دعاوى بإسقاط قانون المرور، وشاركت بها ما يقرب من 20 ألف سيدة من جميع الأعراق والمناطق.
تعتبر مرحلة الستينيات من نقاط التحول في عملية المقاومة تلك، ففي عام 1960 تحرك مجموعة من السكان السود لمدينة شاربفيل إلى مركز الشرطة مطالبين باعتقالهم كنوع من أنواع المقاومة ورفض سياسة التفرقة تلك، وقد وصلوا إلى المركز دون الحصول على تصاريح المرور مما دفع قوات الشرطة لإطلاق النار عليهم وتسببت في مقتل 67 محتجًا وإصابة ما يزيد عن 180 من المحتجين؛ مما دفع العديد من سكان شارفيل إلى مخاطبة قادة المؤتمر الشعبي بأن العمل السلمي لا يفيد ويجب أن تتم مواجهة تلك السياسة مواجهة عسكرية؛ مما دفع المؤتمر لتكوين عدة أجنحة عسكرية. وفي عام 1963 تم إلقاء القبض على نيلسون مانديلا والذي استمر حبسه ما يقرب من 27 عامًا، حيث كان يعد أنشط المعارضين لسياسة الفصل العنصري والذي أسس حزب المؤتمر.
وفي عام 1976 نظم آلاف الطلاب مسيرة تندد بفرض اللغة الأفريكانية –اللغة الرسمية آنذاك وهي مزيج من اللغات الهولندية والإنجليزية والألمانية-، فقامت الشرطة بالتصدي للمسيرة تلك بالغاز المسيل للدموع والرصاص الحي.
أظهرت تلك الحادثة لدول العالم كذب الصورة التي كان يتم الترويج لها على أن نظام الفصل العنصري يهدف إلى رخاء وسلام جنوب أفريقيا، إلى جانب الركود الاقتصادي والقمع الذي عانت منه جنوب أفريقيا؛ مما دفع مجلس الأمن بالأمم المتحدة للتصويت بالحظر الإلزامي لبيع السلاح لجنوب أفريقيا، وفي عام 1985 قامت كل من الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة بفرض عقوبات اقتصادية على جنوب أفريقيا.
وفي فترة الثمانينيات توالى فرض الضغوط الدولية على جنوب أفريقيا مما دفعها إلى إلغاء العديد من قوانين التفرقة، وفي عام 1989 أجبر الرئيس بوتا للتنحي وتولية محلة الرئيس دي كليرك الذي أسقط باقي قوانين التفرقة العنصرية وتم إعداد دستور جديد عام 1990 والذي منح المواطنين ذوي البشرة السوداء حق الاقتراع مع باقي الأقليات، والذي دخل حيز التنفيذ عام 1994 بإجراء أول انتخابات تشارك بها الأغلبية السمراء ويفوز حزب المؤتمر بالأغلبية وحق تشكيل الحكومة؛ ليضع نهاية نظام الفصل العنصري واضطهاد الأفارقة وباقي الأقليات.
غياب العدالة بعد سقوط الفصل العنصري
مر 25 عامًا على سقوط نظام الفصل العنصري بجنوب أفريقيا، إلا أن عدم العدالة ما زالت حاضرة وبقوة خلال تلك الأعوام، فيقول عالم الاقتصاد الفرنسي «توماس بيكيتي» خلال محاضرته بجامعة جوهانسبرج «نحن الآن بعد مرور 25 عامًا على سقوط نظام الفصل العنصري إلا أن عدم المساواة ليست المؤشر الوحيد الذي لا يزال مرتفعًا، بل إنه ارتفع عما كان عليه قبل 25 عامًا، بالإضافة إلى ارتفاع مؤشر عدم عدالة توزيع الدخول».
كما أن الفجوة في توزيع الأجور والثروة تتزايد بين الطبقة المتوسطة والأغنياء خلال العشرة سنوات الأخيرة، فـ 65% من الثروات الجنوب أفريقية تتركز في يد 10 % من السكان، فهناك قطاع كبير من العمالة ما زالت غير مؤهلة لسوق العمل وهو ما يفسر ذلك التفاوت، كما لا يزال هناك العديد من المدن والأحياء التي تعاني من سوء الخدمات على الرغم من قربها من العاصمة كيب تاون والتي كانت قد صممت في وقت تطبيق سياسة الفصل العنصري، إلا أنه لم يصلها أي من عمليات التنمية والتطوير.
ففي أكتوبر/تشرين الأول 2015 خرج طلاب الجامعات في جوهانسبرج في واحدة من أكبر التظاهرات عقب تظاهرة الطلاب عام 1976 معترضين على خطة الحكومة و وزارة التعليم في زيادة المصاريف الجامعية بنسبة تترواح ما بين 10:12%؛ ما رآه الطلاب أنها زيادة سوف تعمق عدم المساواة، فسوف تؤدي تلك الزيادة إلى خروج العديد من الطلاب من دراستهم الجامعية وحرمان العديد من الطلاب الفقراء من فرص الالتحاق بالتعليم الجامعي.
يبدو أن نظام الفصل العنصري قد انتهى منذ ما يقرب من ربع قرن تقريبًا، إلا أن هناك العديد من السكان الذين ما زالوا يعانون من الفقر وسوء توزيع الثروة والدخول، فما زالت العشوائيات التي أسسها نظام الفصل العنصري لتسكن بها الأغلبية السمراء موجودة ومأهولة بآلاف السكان الذين ما زالوا يعانون من الفقر، كما أن هناك صعوبة في الالتحاق بالتعليم الجامعي؛ فتكاليفه مرتفعة والملتحقون به من الأغلبية السمراء يجب عليهم البحث عن وظائف حتى يستطيعوا فقط سداد تكاليف الدراسة تلك. صحيح أن الأغلبية حصلت على حقوقها السياسية والمدنية، إلا أنها ما زالت تعاني اقتصاديًا واجتماعيًا ولم تتحسن ظروفها كثيرًا على الرغم من انتهاء الفصل العنصري.