عام 2022 يعيد الرعب إلى السينما
تأتي 2022 سنة إضافية من التهديدات المستمرة بموت السينما وربما انهيار العالم كما نعرفه على كل الأصعدة، تهديدات بانتهاء مفهوم دار العرض وفتح مفهوم جديد للمشاهدة المنزلية بشكل حصري، هشاشة السينما كتجربة مكانية تتأثر بانعدام الاستقرار المادي والمعيشي والتقلبات الدائمة في الأوضاع العالمية، خصوصًا بعد وباء اجتاح العالم وأسكن الجميع بيوتهم مما أعطى الفرصة للأفراد ذوي الامتيازات المادية والمعيشية بمشاهدة عديد من الأفلام والمسلسلات في فترات العزلة المنزلية الطويلة أو التهديدات الدائمة بالحروب وعدم اختبار السكينة والسلامة الذاتية، فمن يشاهد الأفلام والعالم على وشك الدخول في حرب جديدة؟ لكن من المؤكد أن ذلك حدث مرارًا وتم تخطيه بعد حروب ضخمة أو أزمات مادية وصحية عالمية، الجديد هو البديل الجاهز، أن الذهاب لدار عرض بشكل مكاني له بديل منزلي، المثير للاهتمام في موجة نقاشات موت السينما تلك هو صحوة جديدة لنوع فيلمي عمره من عمر السينما نفسها وهو نوع الرعب، والطريف أن عدة من أفلام الرعب الصادرة في 2022 هي عن موت السينما أو ولادتها بشكل أو بآخر، تستكشف الوسيط نفسه وكيفية الحكي والصناعة وتعيد تعريف النوع أو على الأقل تحاول وضعه في سياق الواقع المعاصر المشبع بالرعب.
الرعب المرتفع
لم يكن الرعب أبدًا نوعًا ذا وجاهة وسط الأنواع السينمائية، فهو يعد تسلية رخيصة من قبل عديد من المتخصصين والجمهور، لكنه ذو شعبية ضخمة بالنسبة لآخرين ممن يريدون اختبار دفقات أدرينالين تسري في الأجساد، لكنه اتخذ مكانته كنوع مفضل للجماعات (Cult) مع الوقت وكلما مرت السنين عادة ما يتسم الرعب بتكوين يعلي النص الرئيس على ما وراءه أو على النص الفرعي، لدى النوع تلك القيمة التجريدية التي تجعله مفتوحًا على أكثر التأويلات جنونية، يمكن اعتبار وحش يجتاح مدينة ما مجازًا عن الرأسمالية أو الحرب أو الخوف من الغرباء، ويمكن أن يتغير التحليل كلما مرت السنوات أو عند مشاهدة الفيلم في حقبة زمنية ذات مخاوف مختلفة.
تمثل فكرة المخاوف نفسها مساحة مفتوحة لتحميل المخاوف الخاصة، في أفلام الرعب المعاصرة يتغير ذلك قليلًا لأن ما وراء النص أو النص الفرعي (Subtext) أصبح أكثر وضوحًا وسيطرة على النص نفسه، لم تعد الأفلام مجردة أو متروكة ليتم تحميلها بالمخاوف الخاصة بل غالبًا ما تكون المخاوف والمعاني ملقاة داخل النص أو هي الأساس قبل القيمة المخيفة المجردة، وبسبب ذلك الاتجاه الذي يعلي من المجاز أو المواضيع الثقيلة أصبحت موجة الرعب الجديدة تلك متوقع منها معاني أعمق من التخويف الأجوف، حتى إن البعض يسميها موجة ما بعد الرعب (Post-horror) أو الرعب المرتفع (Elevated horror)، وهو مصطلح تم انتقاده باعتباره مهينًا للرعب في حالته الأصلية التي لم تكن متدنية في الأساس.
أخذت الموجة شكلها وشهرتها في السنوات الأخيرة بعد فيلم جوردان بيل الأول «اخرج» 2016 (Get out) الذي استقى شكله من فيلم رعب مجازي آخر وهو زوجات ستيبفورد في «اخرج» تتساوى قيمة النص وما وراء النص، الرعب موجود وواضح لكن معناه موجود كذلك، خط السخرية من العنصرية متواز مع سمات الرعب التقليدية، بالتوازي مع «اخرج» ظهرت مجموعة مخرجين شباب مهتمين بذلك الرعب «الفني» منهم اري استر وروبرت ايجرز وفي عام 2022 صنع زاك كريجر فيلمه الأول «بربري» Barbarian فأنذر بميلاد مخرج رعب معاصر جديد. أصدر تاي ويست الفيلم الثاني من ثلاثية للرعب بعنوان «بيرل» (Pearl)، إضافة لصدور فيلم جوردان بيل الثالث «لا» Nope.
Nope ومعنى الصورة
صنع جوردان بيل ثالث أفلامه ذلك العام ليجعله عامًا مغلفًا بالرعب السينمائي، عرض فيلم «لا» في دور العرض ثم لحق عرضه سريعًا إصداره بشكل منزلي، يتناول الفيلم خطين يمثلان النص الرئيسي والنص الفرعي، خط رعب كوني أساسي يتعلق بهجوم من كائن فضائي مجهول المصدر والهوية وخط آخر يتناول هوس توثيق المشاهد الكارثية، وحال العالم المعاصر وعلاقته بالصورة، بالسينما وتطوراتها وتهديدها المستمر بالموت كوسيط خام ومادي ، يعمل «لا» على مستويين مستوى الوعي النوعي الذي يتداخل مع أيقنوغرافيا أنواع أخرى مثل الغرب الأمريكي ومستوى مجاز صناعة الصورة والهوس الجمعي بالتقاط ما هو نادر ومخيف، وتحويل المعاناة إلى صور خالدة وأداة استعراضية.
في «لا» تتراجع المجازات قليلًا حتى مع وضوحها لصالح البذخ البصري والقيمة التشويقية، يمجد الفيلم الصورة الضخمة وأفلام الكوارث الكلاسيكية ويمكن بسهولة في خضم ضخامة التهديد تجاهل القيم المجازية والمعاني التي يصعب إخفاؤها، يفعل بيل النقد العرقي هنا أيضًا بمحاولة لتوثيق تاريخ خفي لبداية السينما، تاريخ تم تبييضه تمامًا فيخلق شخصيات أفريقية أمريكية خيالية تنحدر من شخصية حقيقية تدعم وجهة نظره في محو تاريخ السود في بداية صناعة الصورة المتحركة نهايات القرن التاسع عشر، وعلى الرغم من الثقل الظاهري لكل تلك المواضيع فإن اهتمام بيل النوعي بأفلام الكوارث وإعادة تعريف أفلام الغرب الأمريكي تجعل الفيلم مغامرة شيقة أكثر منه فيلمًا عن موضوعات عاجلة ذات أهمية.
Barbarian والوضع ما بعد الحداثي
في تلك الموجة الجديدة من الرعب يوجد توجه واضح للمراجعة سواء التاريخية أو تلك المتعلقة بالوسيط السينمائي والنوع، هنالك وعي يمكن تسميته ما بعد حداثي بالأنواع وتلاعب مقصود بها، يمكن ذلك الوعي الأفلام من تخطي سمات النوع كأدوات سردية ومناقشتها داخل الأحداث نفسها، يوجد ميل لتحدي الأنماط المتعلقة بنوع الرعب، يعي أبطال الأفلام حقيقة وجودهم داخل النوع ويتصرفون على ذلك الأساس، يظهر ذلك بشكل جلي في فيلم «بربري» Barbarian الفيلم الأول للمخرج زاك كريجري، يمضي الفيلم نصفه الأول في إرساء نوع رعب المنازل المهجورة، يرسم بتمهل ودقة مخاوف مكررة من الغريب في المنزل وفي الوقت نفسه يصنع نقدًا نسويًا لكنه ليس مباشر، فالفتاة تتفاجأ بشاب داخل منزل على أطراف المدينة وتعلم بشكل مؤكد أنها في خطر ليس فقط لكونه غريبًا في البيت ولكن لكونه رجلًا وكونها امرأة.
بعد إرساء تلك الديناميكية يقلبها الفيلم سريعًا ويغير نوعه ويقلب توقعات أرساها، مع تغيير الأنواع الداخلي يتغير الطابع البصري والنغمة (Tone) السينمائية مرات عديدة بعد التحول الأول، يصبح الفيلم تمرينًا في الأنواع السينمائية والأنواع الفرعية للرعب، يصبح مرة فيلم وحش قابع في المنزل بعدما كان أقرب لنوع القاتل المتسلسل، ثم يعود للماضي ويغير حجم الشاشة والطابع اللوني ليرينا صانع الوحش الأقرب لفرانكشتاين حتى في مظهره، ثم يعيدنا إلى سردية معاصرة عن قلة الإدراك الذكوري بالحدود الفاصلة بين العلاقات التوافقية الرضائية والتعدي، يعتمد بربري بشكل رئيسي على عدم الثبات وخلخلة الطمأنينة بإحداث التغيير كلما حل الثبات، ليس فقط في ما يخص الرعب بل في ما يخص الاطمئنان للنوع السينمائي وقواعده، تخلق الأنواع الفيلمية راحة بمعرفة المقبل بتوقع السمات والنبضات الحدثية والشعورية ، في الرعب المعاصر يتم التلاعب بذلك الاطمئنان بسبب الإفراط في اختباره في الماضي، يعمل «بربري» باعتباره قالبًا للأنواع ومحتضنًا لها في الوقت نفسه فحتى مع انتقاله من صيغة لأخرى يحتضن الخاتمات التطهيرية ونمط الناجية الوحيدة ويستقر في النهاية على كونه رعب انتقام.
Pearl وصناعة النجوم
ينتقل هوس تفكيك النوع السينمائي وتحليل الوسيط كعنصر فاعل في السرد الفيلمي إلى فيلم بيرل Pearl الإضافة الثانية لثلاثية تاي ويست التي بدأت بفيلم «إكس X»، يصف ويست الفيلم الأول بأنه رعب يضخم تأثير الأفلام المستقلة على مفهوم الشهرة والشعور بالذات ويتخذ من عالم الأفلام الإباحية المستقلة مسرحًا للتعامل مع رعب يتعلق بالجسد والصبا والرغبة أن يكون المرء عنصرًا للرغبة ومصدرًا لها، يصبح الجسد والجمال مصدرًا جاهزًا لتوليد الرعب وعملة يسعى إليه من يفتقدها ويسعى للحفاظ عليها من يملكها، في الفيلم التالي بيرل الذي يسرد أحداث تسبق «إكس»، يتعامل ويست مع قصة نشوء وحش ويصف تلك الإضافة بكونها تتناول تأثير بداية الأفلام الهوليوودية على إدراك الذات والهوس الوليد بالشهرة والرغبة في أن يتخطى المرء نفسه ليصبح كيانًا أكبر من ذاته يرى على شاشة كبيرة راقصًا ومغنيًا ومتلبسًا شخصيات أخرى.
يركز ويست على تلك التأثيرات في ما يخص الفتيات بشكل خاص تشاركه بطلته ميا جوث في كتابة الفيلم وصناعة نشيد وطني جديد للقتلة المتسلسلين الكاريزماتيين الممكن تفهم دوافعهم، نوع من الهوس الذي يحلو للجميع مؤخرًا مشاهدته على الشاشة، يتعلق الرعب الذي يتناوله تاي ويست بالوسيط السينمائي كمؤثر في دوافع أبطاله كما يستخدمه هو في تأطير قصصه فيختار أنماطًا سينمائية تستدعي ما يريد إيصاله، في فيلم «إكس» اعتمد صورة تدمج بين ما هو معاصر وما هو قديم وتم استدعاؤه في سياق الصناعة المستقلة مثل الخربشات على الأفلام والشاشة الضيقة، في بيرل يوسع الإطار عن آخره، يستدعي ملاحم ومشهديات هوليوود الشهيرة بألوان حية وحركة دائمة داخل كل إطار، ينبع الرعب في بيرل من رغبة في الهروب والفشل فيه، من كراهية للمساحات الضيقة بينما تريد أن تملك العالم وأن يعرف الجميع وجهك، يجاري ويست بطلته المحبة للبراح الحر في حجم إطاراته لكن تغلبها الضآلة فتتحول كائن دموي إذا لم يحصل على ما يريد يحرص على ألا يحصل عليه أحد.
لطالما كان الرعب جزءًا متأصلًا من أفلام الدرجة الثانية التي كانت ساحات للتجريب ومع موجة الرعب الفني الحالية أصبح هناك تهميش نسبي لجمهور الرعب التقليدي وأصبح الرعب الذي يتم توزيعه على نطاق واسع شحيح الإنتاج، لكن لم تخلُ 2022 منه فهناك أفلام مثل «ابتسم smile» الذي عرض لفترة لا بأس بها في صالات العرض عالميًا ونجح بشكل مقبول، لكن بجانب اعتماده على صيغة لغز البحث عن القاتل ورعب القفزات المخيفة لم يصنع تأثيرًا ضخمًا سواء وسط جمهور الرعب النوعي أو الرعب الفني، لكن في عام متوسط سينمائيًا يختبر نوع الرعب صحوة ممتدة من عدة سنوات تكثف مخاوف حالية وقديمة قدم الوسيط نفسه وتسمح بمساحة للتجريب في مناخ سينمائي يرفض الاستثمار في المجهول.