الاحتجاجات في تشيلي: ثورة على إرث بينوشيه
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
بعد أسابيع من الاحتجاجات المستفحلة في كل أنحاء البلاد والعنيفة أحيانًا، أذعن الرئيس التشيلي سبستيان بنييرا للمطالب بإعادة كتابة الدستور التشيلي. يقول المحتجون إنهم يريدون دستورًا جديدًا، يتناول عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية.
يعود الدستور التشيلي الحالي إلى عام 1980، حيث كُتب في ظل حكم الجنرال أوغستو بينوشيه، الدكتاتور الذي حكم الدولة من 1973 وحتى 1990. أدين بينوشيه لإشرافه على عدة آلاف من عمليات الإعدام خارج نطاق القانون والتعذيب والإخفاء القسري. واعتُقل عام 1998 بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، لكنه مات قبل محاكمته.
لكن نفذ بينوشيه إصلاحات السوق الحرة، التي غالبًا ما تُنسب إلى النشاطات الاقتصادية الشهيرة لتشيلي. بعد نموه بمعدل 4.7% سنويًّا، أصبح اقتصاد تشيلي اليوم أعلى تسع مرات مما كان عليه عام 1990.
منذ رحيل بينوشيه، تعتبر تشيلي على نطاق واسع قصة نجاح مستقرة وحيوية في أمريكا اللاتينية. لذا، حتى الحكومات ذات الميول اليسارية تركت النظام الاقتصادي لعهد الديكتاتورية على حاله. لكن في الخفاء، كانت إصلاحات بينوشيه للسوق الحرة تمزق النسيج الاجتماعي لتشيلي.
نمو دون عدالة
تعتبر تشيلي واحدة من أعلى دول العالم في عدم المساواة، مع توزيع دخل أقل عدلًا من جيرانها، بيرو وبوليفيا والأرجنتين. يزداد الأمر سوءًا. في عام 2006، حقق أعلى 10% من أصحاب الدخل في تشيلي دخلًا يزيد بمقدار 30 مرة عن الـ 10% الأدنى. في 2017، حققوا دخلًا يزيد بمقدار 40 مرة.
تعكس هذه الإحصاءات حقيقة يعرفها معظم التشيليين بوضوح. استفاد الأثرياء من النمو الاقتصادي الهائل في تشيلي، لكن لا تزال تعاني الطبقة العاملة والمتوسطة من انخفاض الأجور وعدم الأمان الوظيفي. وكما يشير المتظاهرون باستمرار، فإن كسب ما يكفي ببساطة للتأمين الصحي والمعاشات صار بالنسبة لهم صراعًا دائمًا.
يشير ارتفاع معدلات التهرب الضريبي بين أغنى مواطني تشيلي إلى أن مشكلة عدم المساواة في الدخول في الدولة من المحتمل أن تكون أعمق مما تشير إليه الأرقام الرسمية.
بدأت هذه المشاكل بإصلاحات بينوشيه للسوق الحرة. بعد توليه السلطة في انقلاب عام 1973 على الرئيس سلافادور أليندي، بدأ الديكتاتور اليميني في تفكيك دولة الرفاه التي بدأ بناءها الاشتراكي أليندي، وحُفظت التغييرات السياسية التي أجراها في دستور 1980.
استهدف بينوشيه ثلاثة مجالات؛ حقوق العمل والمعاشات والرعاية الصحية. هذه الإصلاحات النيوليبرالية التي جاءت بدعم قوي من الحكومة الأمريكية، حوَّلت المسئولية الرئيسية عن إدارة الاقتصاد وتوفير الخدمات الاجتماعية من الدولة إلى القطاع الخاص. وجدتُ في بحثي أن أهم عامل في عدم المساواة، هو إبطال الديكتاتور حقوق العمال التشيليين في التنظيم والتفاوض مع أصحاب العمل.
فعل بينوشيه هذا عبر خلق طرق جديدة للشركات لتوظيف العمال، بما في ذلك السماح بأنواع مختلفة من العقود المؤقتة. في تشيلي، لا يتمتع العمال المؤقتون بالحق في بعض الإجراءات الحمائية، مثل مدفوعات نهاية الخدمة والإصابة في مكان العمل والحق في تكوين النقابات.
تجعل هذه القواعد العمال المؤقتين من العمالة الرخيصة، وتعطي أصحاب الأعمال دوافع قوية للحفاظ أو توسيع اعتمادهم عليهم. نتيجة لذلك، بات أقل من 3% من العمال التشيليين هم المشمولون بعقود تسمح لهم بالتنظيم الجماعي للتفاوض مع الإدارة.
حتى العمال الدائمون رأوا أن حقوقهم النقابية تتناقص بشكل ملحوظ، بموجب قانون بيونشيه للعمل. انتهى الأمر بالكثير من العمال التشيليين إلى ما يسمى بجماعات المفاوضة، التي لا تمنح العمال الحق في الإضراب، وعليه صار إجمالي عدد أعضاء النقابات في تشيلي اليوم أقل من نصف ما كان عليه في عهد أليندي.
شبكة أمان سيئة
جادل مؤيدو إصلاحات بينوشيه للسوق الحرة بأنها ستقلل من عدم المساواة وتزيد فرص العمل، لا سيما بالنسبة للعمال الأقل مهارة في تشيلي.
حدث العكس، رغم النمو الاقتصادي الهائل على مدى العقود الثلاثة الماضية، لا تزال معدلات توظيف العمال في الطرف الأدنى من السلم الاقتصادي متناقصة بصورة استثنائية.
أظهرت بيانات الحكومة أن معدل البطالة للعاملين في الصف العاشر الأدنى من سلم تشيلي الاجتماعي الاقتصادي بلغ حوالي 30% منذ 1990. وفي الوقت نفسه، ظلت نسبة البطالة لأكبر 10 مانحين حوالي 2%. أدت التغيرات التي حدثت في عهد بينوشيه بخلق نظام التقاعد في تشيلي إلى تفاقم أوجه عدم المساواة في سوق العمل.
تماشيًا مع أيديولوجية السوق الحرة المتطرفة، استبدل نظام بينوشيه العسكري نظام التقاعد الأصلي – الذي كان قائمًا على مساهمات مشتركة من العمال وأرباب العمل والدولة – بنظام معاشات تدعمه جهات خاصة. بموجب هذا النظام، كان جميع العمال – باستثناء الشرطة العسكرية والوطنية – مسئولين وحدهم عن حسابات التقاعد الفردية. ولم تساهم الدولة وأصحاب الأعمال في شيء.
في ظل حكم الرئيس اليساري بيشيل باشيليت، بدأت تشيلي عام 2008 في توفير الحد الأدنى من المعاشات التقاعدية لأفقر المتقاعدين. نظرًا لأن أصحاب العمل لا يساعدون الموظفين في الادخار لأجل التقاعد، تكلفة العمالة في تشيلي منخفضة نسبيًّا، ما يزيد من قدرة تشيلي على المنافسة في الاقتصاد العالمي. ومع ذلك، فظروف المتقاعدين في تشيلي مزرية، ومعظمهم لا يستطيعون توفير ما يكفي للحفاظ على أنفسهم في سن الشيخوخة.
ضاعفت خصخصة بينوشيه لنظام الرعاية الصحية في تشيلي هي الأخرى الفجوة بين الأغنياء وبقية الشعب.
في عهد أليندي، اتجهت تشيلي نحو رعاية صحية مجانية وشاملة. أنشأ نظام بينوشيه نظام رعاية صحية خاصًّا يهدف إلى الربح للتنافس مع النظام الذي تديره الحكومة، لكنه مكلف للغاية لدرجة أن 90% من أفقر ثلث من التشيليين ما زالوا يعتمدون حصريًّا على النظام العام، الذي يعاني من نقص شديد في التمويل ويوفر رعاية صحية بجودة أقل من النظام الخاص.
إرث بينوشيه الحقيقي
تظهر الكسور في قشرة «الاقتصاد النموذجي» التشيلي منذ عام 2006 على الأقل، عندما اندلعت احتجاجات طلابية ضخمة على مستوى البلاد بسبب ارتفاع تكاليف التعليم.
كما كان الوضع في الاحتجاجات السابقة، فالطلاب في طليعة الاحتجاجات اليوم، الكثير منهم أصغر من أن يتذكروا انتهاكات حقوق الإنسان والقمع السياسي والحرمان الاقتصادي من نظام بينوشيه، لكن لديهم تجربة شخصية مع عدم المساواة الاجتماعية التي خلقها هذا النظام.
ويمكن القول إن الاحتجاجات الجماهيرية الحالية هي النتيجة المباشرة لأمرين؛ ترسخ الديمقراطية إذ يتوقع المتظاهرون التشيليون الحصول على حصة أكثر عدالة من ثروة البلاد، وهم ليسوا من كبار السن بما يكفي لخوفهم من القمع الاستبدادي لإعلان حقوقهم.