1968: عندما تُغذي الثورة أعداءها
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
لم تُثر الذكرى السنوية الخمسين لأحداث عام 1968 موجة من المشاعر. لا أقصد بالطبع احتفالات أكاديمية وثقافية، فلا تزال الانتماءات السياسية وروح عام 1968 تلهم العروض الفنية والمؤتمرات الأكاديمية، التي مع ذلك تكشف عن عجزها التام عندما يتعلق الأمر بالسياسة. على عكس الثورات العظيمة الأخرى في الماضي، لم يتغير هاجس عام 1968 في نضالات معاصرينا، وحتى إرثها لم يعد مقتصرًا على ما يشاع من أكاذيب، بل صار مصدرًا للإحراج. ترى النخب في الغرب عام 1968 كمحل إجماع أكثر من كونها مصدر قلق، لأن هذه الأحداث لديها قدرة فريدة، على الرغم من مزاعمنا الساذجة، لتأكيد الحقيقة المحافظة القديمة بأن الثورات تقوي فقط الأشياء التي تعارضها.
فبدلًا من وضع حد للرأسمالية، غرستها ثورة 1968 بوجه جديد؛ الإبداع وطاقة التمرد الفردي. نجحت الأيديولوجيا المؤيدة للسوق -التي تتقن لغة احتجاجات الشباب التي جرت قبل 50 عامًا- في شن هجمات شرسة على القدرة على التنبؤ لاستعمار المستقبل ببراعة.
على مدار العقود الماضية، لاحظنا باستمرار تحول قيم عام 1968 الوهمية لأضدادها المتناقضة. يدل «التحرر الشخصي» الآن على الرغبة الجامحة في النجاح الفردي، في حين تحول التجلي الإبداعي للحياة إلى مجرد «إبداع»، وهو أهم سلعة في السوق. فُرّغت فكرة الثورة ذاتها، وجُرّدت من تغيير اجتماعي هادف وتقلصت إلى تعزيز القوى الساعية لتمرير نفسها إلى الناخبين المتعثرين كشيء «جديد» (تذكر «الثورات» الانتخابية الأخيرة لأوباما وماكرون). اعتاد رجل الأعمال أن يكون شخصية قاتمة تقف في طريق الشباب والإبداع. والآن يعاد تشكيله كمتمرد في يومنا وعصرنا، حالم ومثالي، كما يتضح من «مارك زوكربيرج» و«بافيل دوروف».
اعتبر اليسار الجديد تحرير الوعي وكأنه ليس أكثر من تحرير الحياة من المجتمع المنفلت الذي استعبده. بتحدي «الظروف» القوية التي تحدد وجود كل فرد، يتوقف الفرد عن التورط بها. لا يجب على الثوريين الواقعيين التصرف بحسم فحسب، بل عليهم قبل كل شيء تحرير أنفسهم من الأوهام، والنظر إلى العالم من جديد في نهاية المطاف ليتوقفوا عن التواطؤ في استنساخه. قدّم اليسار الغربي الجديد مجموعة واسعة من الممارسات لتحرير العقول، من المشاركة في حملات حرب العصابات إلى استكشاف «علم النفس الجغرافي» غير المعزول عن الفضاء المدني، من التعليم الذاتي الجماعي الذي رفض التدرج الجامعي إلى التجارب مع مخدرات قوية.
حتى في المثال الأخير -الأكثر عرضة للانتقاد- يمكننا أن نتبع بوضوح تحويل تقنية مقاومة الواقع إلى تقنية للمصالحة مع النفس. أقصد جرعةصغيرة، وهو الاستهلاك اليومي المنظم للمخدرات، والذي يشيع حاليًا بين مبدعي وادي السيليكون. لا تعتبر الجرعة مجرد اختلاف وزن خفيف عن الهدف الأصلي لاستهلاك المخدرات، لكنه غيّر معناه في الأساس. لن تغير جرعات المخدر القوي من موقفك تجاه العالم، لكنها ستساعدك على زيادة قدرتك التنافسية الفردية في ظل الوضع الحالي للعالم.
استُخدم «استهلاك الماريجوانا» باعتباره تحديًا للنظام، ومرتبطًا بقوة مع الستينيات وحركة الهيبي، وتبدو التحركات لإضفاء الشرعية على الولايات المتحدة بسطحية انتصارًا حاسمًا آخر للعقول المحررة على العقول المتزمتة والمحافظة القمعية العقل التي سادت هناك. غير أنه وللمفارقة ينطوي إضفاء الشرعية على الماريجوانا اليوم بالفعل على استحضار قيم السوق الحرة الأمريكية التقليدية والمسئولية الفردية للمستهلك. تحت هذا الستار، يختلف الأمر قليلًا عن الحجج المؤيدة للبيع غير المقيد للأسلحة النارية والسجائر.
في الواقع، يمكن أن يكون استخدام جرعات دقيقة بمثابة انعكاس لما حدث لمعظم الأفكار التحررية في الستينيات. أدى كفاحالأقلياتللاعتراف -والذي كان مرتبطًا بشكل معقد مع الطلب للتقدم الاجتماعي والسياسي العام- إلى الدمج الرسمي والكاذب لما يسمى بالحقيقة السياسية. فبدلًا من تدمير الحدود بين الأغلبيات والأقليات -كما يفعل النظام- لم تؤدّ الحقيقة السياسية لتحصينها إلا عبر جعل لغة القيادة السياسية الحقيقية وغير القمعية امتيازات لأقلية من المتعلمين والمطَلعين. لم يُعترف بالجميع في عالم العقول المحررة، وظهرت الثورة على ما يبدو في الجامعات والمجال الثقافي بينما تجاوزت الطبقات الدنيا تمامًا.
كانت الفروق الثقافية -التي ضخمتها روح الجرعات الدقيقة لعام 1968- هي التي مكنت الشعبويين اليمينيين الأوروبيين اليوم من مهاجمة التعددية الثقافية والصواب السياسي نيابة عن عامة الناس، لأن هذه المفاهيم لا تمثل الآن أي شيء سوى تبرير الوضع الراهن، مما تسبب في تزايد السخط على مستوى القاعدة.
وعلى الرغم من حقيقة أن عام 1968 لم يترك أي أثر تقريبًا في روسيا الحالية، إلا أن دوره الطبيعي نجح جدًا في طائفة الحنين إلى الماضي التي ولّدتها «ثورةخروشوف»، التي شاعت في الثقافة الروسية لعدة عقود. وللمفارقة تجمع الأسطورة الحديثة للثورة المعادية للسوفييت بين (الحداثة، والحرية الشخصية، والكوزموبوليتية «اللاقومية»، ومكافحة أفكار ستالين، وفوز الفردية) والعناصر السوفيتية (الطيران في الفضاء، ومكانة القوة العظمى). يبدو أن النظام الروسي الحالي يعمل كمحطة لهذا التجميع، عبر تمكين ما يسمى بـ الأغلبيةالوطنية والطبقات المتعلمة من التعايش بشكل مريح.
الآن، خلال الذكرى السنوية الخمسين لثورة 1968، ربما نتخيل أن روحها الشائعة لم تكن سوى شيء من الاستسلام، فكانت تنفصل عن نفسها بنفاق كانتصار. غير أن هذه الحالة المتشائمة لا يمكن أن تكون بمثابة أساس للحكم النهائي. إن تراث عام 1968 -من باريس إلى وارسو، ومن براغ إلى إسلام أباد، ومن روما إلى مدينة مكسيكو- متشابكة في الثورات التي لا يزال من السابق لأوانه الحكم عليها. بالنسبة للنازحين، فإن ثورة 1968 الحقيقية -الكفاح ضد إخضاع الحياة البشرية إلى سراب النجاح والإنتاجية- لاستعادة أهميتها بين الجيل الجديد، يجب أن نقبل مأساة هزيمتها التاريخية. وفي النهاية، لا يعد إهدار الأوهام خسارة، بل مكسبًا.