صعود محدود: رحلة عرب 1948 إلى الكنيست الإسرائيلي
عقب هزيمة العرب في حرب 1948 وإعلان قيام إسرائيل كـ «دولة» فوق الأراضي الفلسطينية المحتلة، بقيت مجموعة من الشعب الفلسطيني، بعد عمليات القتل والترويع والتهجير من قبل العصابات الصهيونية، لم يغادروا قراهم ومنازلهم عند ما عُرف بـ الخط الأخضر أي خط الهدنة لحرب 1948.
عُرفوا بالعديد من الأسماء مثل عرب إسرائيل، وعرب 48، وعرب الداخل، وفلسطينيو 48. أمّا في وسائل الإعلام الإسرائيلية فيُشار إليهم بمُصطلحي عرب إسرائيل أو الوسط العربي، كما يُستخدم أحيانًا مصطلح أبناء الأقليات. العديد من المسميات أُطلقت عليهم لكنهم يُفضلون منها عرب الداخل أو عرب 48، ويعتبرون أن الفلسطينيين وباقي العرب يُحمِّلونهم أكثر مما يقدرون على تحمله، فهم يعانون من تهميش مزدوج، تهميش عربي فلسطيني، كما أنهم يعانون من التهميش والعنصرية من قبل الدولة والمجتمع الإسرائيلي.
بمقتضى قانون المواطنة الإسرائيلي، حاز المواطنة (الجنسية) كل من أقام داخل الخط الأخضر حتى تاريخ 14 يوليو/تموز 1952 (أي عندما أقر الكنيست الإسرائيلي القانون). ليبلغ عدد العرب المصنفين في هذه الفئة ولديهم مواطنة إسرائيلية اليوم 1.9 مليون نسمة، ويشكل المسلمون 83% منهم، والمسيحيون 12%، والدروز 5%. ويشكل مجموع الفلسطينيين نحو 20% من سكان إسرائيل، التي بلغ عدد سكانها نحو 9 ملايين نسمة. وتتركز معظم إقامة هؤلاء الفلسطينيين في ثلاث مناطق رئيسية، هي جبال الجليل ومنطقة المثلث وشمالي النقب.
بالرغم من أن السلطات الإسرائيلية منحت للمواطنين العرب حق الاقتراع وجوازات سفر إسرائيلية، إلا أنها في الوقت نفسه أعلنت الحكم العسكري على الكثير من المدن والقرى العربية لفترة طويلة. وفي عام 1966 تم إلغاء الحكم العسكري، وطرأ تحسن طفيف على وضعهم، خاصة من الناحية الاقتصادية، غير أنهم واجهوا العزلة من قبل الدول العربية، ومن قبل المجتمع اليهودي في الداخل. ولكن بعد حرب 1967 تغيرت أوضاع الفلسطينيين داخل الخط الأخضر جزئيًا، خاصة بعد فتح معابر الحدود لهم، كما خفّت العزلة العربية عنهم بعد توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في نهاية سبعينيات القرن الماضي.
غالبية الفلسطينيين داخل الخط الأخضر يرفضون الالتحاق بالخدمة العسكرية في إسرائيل، باستثناء الدروز. كما يواجه عرب الداخل بشكل مستمر موجات تحريضية دائمة من اليمين الإسرائيلي، ويُوصفون بأنهم القنبلة الموقوتة داخل إسرائيل، حيث يبدي التيار اليميني (خاصة حزب الليكود وأحزاب دينية متطرفة) قلقه من التزايد السكاني الملحوظ في الأوساط الفلسطينية داخل الخط الأخضر، فوفقًا للأرقام الرسمية فإن ربع مواليد إسرائيل هم من العرب.
انخراط عرب 48 في العملية السياسية الإسرائيلية
كان اتفاق أوسلو عام 1993 (الذي وقع عليه رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات عن الجانب الفلسطيني، ووزير الخارجية الإسرائيلي شيمون بيريز)، بمثابة إعلان اندماج فلسطينيي الداخل بمحيطهم اليهودي بشكل كبير. ويعتقد أكثر من باحث أن هذا الاتفاق شكّل ولا يزال دعمًا قويًا للتيار العربي الذي يدعو إلى التأقلم مع الواقع والاندماج في المجتمع الإسرائيلي. فيرى الباحثون أن اتفاق أوسلو أدى إلى ما يمكن أن نسميه بـ«فك الارتباط بين حل القضية الفلسطينية وبين تحسن مكانة وأوضاع عرب 1948، والذي كان راسخًا في الفكر السياسي لدى جميع التيارات السياسية العربية في الداخل». كما أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة روجت له، وساهمت قيادات فلسطينية وعربية في ترسيخه.
ويقول في ذلك عضو الكنيست العربي «توفيق زياد»: يبدو أنَّ فكرة تعريف إسرائيل كدولة لمواطنيها كافة، هي فكرة أضحت مقبولة لدى دوائر واسعة (يقصد من عرب الداخل)، وهؤلاء الذين يطالبون بإلغاء تعريف الدولة على أنها دولة للشعب اليهودي كما حددها قانون 1985.
لقد مر على الكنيست الإسرائيلي 77 نائبًا عربيًا، منذ تأسيسه عام 1944، كما تفاوت هؤلاء النواب في مواقفهم، وحدتهم في التعامل مع حقوق العرب الذين يسكنون الأراضي المحتلة، بعد أن حصلوا على حقوق المواطنة فيها، حيث شهد الكنيست مرارًا صراخًا عربيًا، كما شهد رفع الآذان، واستقالة عضو عربي، إضافة إلى تعرض أعضائه لأحكام تعسفية وسجن بعضهم.
وفي ضوء هذا الانخراط والتمثيل التدريجي للعرب في إسرائيل، سنحاول تسليط الضوء على فوز العرب في الانتخابات التشريعية الأخيرة ليُمثَّلوا بـ 17 نائبًا في الكنيست الإسرائيلي. فكيف تحولت الأحزاب العربية لعنصر قد يكون حاسمًا في تحديد اسم رئيس الوزراء القادم في إسرائيل؟
العرب وانتخابات الكنيست (مارس/آذار 2020)
إذا رجعنا قليلاً للانتخابات الإسرائيلية قبل الأخيرة (سبتمبر/أيلول) 2019، والتي خاضتها القائمة العربية المشتركة وحصدت فيها 13 مقعدًا من إجمالي المقاعد البالغ عددها 120 في الكنيست، مما يجعلها ثالث أكبر تكتل خلف حزب الليكود اليميني بزعامة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي حصل على 31 مقعدًا، وحزب الوسط (أزرق-أبيض) الذي ينتمي إليه «بيني غانتس» وحصد 33 مقعدًا.
وقد دخلت الأحزاب العربية هذه الانتخابات والتالية لها موحدة تحت مظلة «القائمة العربية المشتركة»، وهو هدف طالما سعى له العرب في الداخل الإسرائيلي بعد أن توصلوا إلى قرار المشاركة في الحياة السياسية (أو إن جاز التعبير سُمح لهم بالمشاركة قانونيًا وسياسيًا) في تدرج هائل لوضع الفلسطينيين العرب داخل إسرائيل. فظهرت القائمة العربية في الفترة الأخيرة كتحالف سياسي يضم أربعة أحزاب عربية في إسرائيل، وهي: الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، والتجمع الوطني الديمقراطي، والقائمة العربية الموحدة، والحركة العربية للتغيير. كان قد توصلت الأحزاب إلى هذا التحالف بعد مقترحات قدمتها لجنة عُرفت بـ «لجنة المصالحة» تشكلت من أكاديميين وقادة محليين وشخصيات أخرى، بهدف أساسي وهو تقوية الصوت العربي والدفاع عن الحقوق العربية داخل الكنيست.
لكن وبسبب أزمة سياسية داخلية حادة عرقلت تسمية رئيس حكومة لإسرائيل تتفق عليه جميع الكتل، تم إجراء انتخابات جديدة. وكان للتقدم الذي أحرزته القائمة العربية في انتخابات سبتمبر/أيلول 2019 صدى كبير، مما استفز اليمين الإسرائيلي تجاه العرب في الداخل لدرجة أن وصفهم نتنياهو بالإرهابيين. فقال في حوار بثه من مكتبه:
وأكمل قائلاً:
فحديث نتنياهو كان تحريضًا متطرفًا ومستمرًا، يتبناه اليمين الإسرائيلي ضد الصعود العربي والنتائج التي حققتها القائمة العربية مؤخرًا، مفاده أن هذا الصعود العربي سيقابله انهيار للدولة الإسرائيلية.
نائبة محجبة في الكنيست الإسرائيلي
بعد أن فشل زعيما الليكود أزرق-أبيض في التوصل لحكومة ائتلافية، توجه الإسرائيليون في الثالث من مارس/آذار 2020 لصناديق الاقتراع لانتخاب أعضاء الكنيست للمرة الثالثة خلال 11 شهرًا، بمشاركة 29 قائمة حزبية، كان من بينهم القائمة العربية المشتركة. دخلت القائمة العربية المشتركة الانتخابات منتشية بما حققته في الانتخابات الأخيرة، وتطمح لحصد أكبر عدد من المقاعد، كما تهدف إلى إفشال مخطط رئيس حكومة تصريف الأعمال وزعيم حزب الليكود بنيامين نتنياهو لتشكيل حكومة جديدة، خاصة بعد الهجمة الشرسة التي أطلقها ضدهم، وبسبب تحركاته الخارجية الأخيرة.
فقد شن حزب الليكود وزعيمه نتنياهو حملة شديدة وهجمة شرسة ضد الأحزاب العربية والساسة العرب، فاتهمهم بكل التهم الممكنة قبل الانتخابات التي كانت مقررة في مارس/آذار الماضي، لكن هذه الحملة لم تؤتِ ثمارها بل حدث العكس تمامًا. حيث استطاع العرب في الداخل الإسرائيلي أن يحصلوا على 17 مقعدًا، منهم 15 للأحزاب العربية، ومقعدين لعرب ترشحوا على قوائم أحزاب يهودية. فوصفت صحيفة «هاآرتس» الإسرائيلية، النتائج التي حققتها الأحزاب العربية بأنها «زلزال»، وصحف أخرى استعملت عبارات مثل «فوز تاريخي للأقلية العربية»، أو «المجتمع اليهودي في خطر»، أو «صعود العرب للترتيب الثالث في الكتل المُمثلة داخل الكنيست بعد الليكود وأزرق أبيض»، وغير ذلك من العبارات والأخبار التي حاولت البحث في أسباب هذا الصعود. خاصة وأن من ضمن الفائزين أول امرأة محجبة تكون عضوًا في الكنيست وهي «إيمان ياسين خطيب» (55 عامًا).
في البحث عن أسباب الفوز
يمكننا هنا الحديث عن 4 أسباب رئيسية:
- خطة السلام للرئيس الأمريكي دونالد ترامب والمعروفة باسم «صفقة القرن»، والتي أعطت الأحقية لإسرائيل بسحب الجنسية من المواطنين العرب في مناطق يقطنها نحو 350 ألف عربي، مما أدى إلى زيادة كبيرة في إقبال الناخبين العرب داخل المجتمع الإسرائيلي على التصويت بنسبة وصلت إلى 65% وهي نسبة غير مسبوقة في محاولة منهم لسد الطريق على حكومة جديدة برئاسة نتنياهو قد تُمرِّر هذه القوانين.
- إعلان زعيم حزب أزرق-أبيض «بيني غانتس» بعدم رغبته بالحصول على أي دعم من التحالف العربي، دفع الأصوات العربية إلى تحويل دفتها لصالح القائمة العربية. وكان الناخبون العرب قد صنعوا الفارق لصالح حزب غانتس في الانتخابات السابقة، إلا أن موقفه الجديد اعتبر ضربة مهينة للعديد من المواطنين العرب، مما دفعهم لسحب دعمهم والتصويت للتحالف العربي.
- تراجع دعم الأحزاب اليهودية داخل الأوساط العربية، وتوجيه هذا الدعم مؤخرًا للقائمة العربية.
- موقف الحكومة الإسرائيلية تجاه العرب في الداخل الإسرائيلي شكّل دافعًا آخر، في ظل الخطاب المعادي للعرب الذي تبناه الليكود، والتحريض الذي تعرض له التحالف الانتخابي العربي من نتنياهو واليمين، وكذلك حزب أزرق-أبيض كان سببًا في رغبة الناخبين العرب بتشكيل كتلة قوية ومؤثرة في الكنيست تُدافع عنهم.
مجرد مناورة سياسية
بعد استعرض المسار السياسي للعرب داخل إسرائيل، تبقّى لنا أن نُجيب على سؤال محوري: هل يمتلك العرب في الداخل قوة المناورة وأوراق اللعب السياسي أم لا؟
لم تسفر الجولة الثالثة من الانتخابات التشريعية التي عُقدت في مارس/آذار 2020 عن تقدم أي من الحزبين المتصدرين (الليكود، وأزرق-أبيض) بشكل يُمكِّنه من تشكيل الحكومة المقبلة. وبدأت تظهر ملامح انتخابات تشريعية جديدة في حالة عدم تمكن أي من الحزبين من تأمين 61 مقعدًا لتشكيل الحكومة. وبدأت القائمة العربية تبحث عن كيفية سد الطريق على نتنياهو في تشكيل حكومة جديدة، مدفوعة بما حققته من مقاعد جعلتها في المرتبة الثالثة. فأوصت القائمة العربية المشتركة بالإجماع، الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين، بإسناد مهمة تشكيل الحكومة الجديدة إلى بيني غانتس، لمنع بنيامين نتنياهو من تشكيل حكومة يمين متطرف.
لكن تحالفًا كهذا لا يبدو واقعيًا في الوقت الحاضر، ففكرة أن يشارك العرب في تسمية رئيس الحكومة ليست مقبولة في المجتمع اليهودي بعد. إلا أن طرح الموضوع للنقاش في الشارع، يُظهِر توجهًا جديدًا في الحركة الصهيونية، التي كانت أحزابها تستثني العرب تمامًا من الشراكة في الحكم. وقد جاءت في وقت كان فيه نتنياهو قد اعتبر القائمة المشتركة خارج أي حسابات للحكم، لأنها تساند ما أسماه بـ «الإرهاب الفلسطيني».
هذا التأييد من القائمة المشتركة لـ غانتس استخدم في الحقيقة للمناورة السياسية. فغانتس يناور لأهداف سياسية، وهو ما ظهر جليًا بعد ذلك. فغانتس الذي وافق على الانضمام لحكومة بقيادة الليكود وبنيامين نتنياهو مدفوعًا بالأزمة التي تشهدها إسرائيل من تفشي فيروس كورونا، ومقابل انتخابه رئيسًا للكنيست بأصوات معسكر اليمين، ثم رئيس للحكومة بالتناوب بعد نتنياهو في ضربة شديدة لحلفائه السياسيين وبالأخص المشتركة. صفقة وضعت القائمة العربية في منطقة الخطر.
فالقائمة المشتركة التي كانت تأمل في دور أكبر بانضمامها لتحالف غانتس، مما دفعها للحديث عن إمكانية إلغاء العديد من القوانين العنصرية التي تستهدف الفلسطينيين، خاصة ما يتعلق بخطة السلام الأمريكية وغيرها من القوانين. الآن، وبعد أن ضحى بها غانتس، يبحث المجتمع الفلسطيني في إسرائيل عن إجابة للعديد من الأسئلة التي تتعلق بدور القائمة المقبل في الكنيست، وكذلك كيف ستتعامل مع قوانين القومية، وضم الأراضي والتي وعدت سابقًا بمواجهتها. القائمة المشتركة كانت أمامها فرصة ثمينة لم تتكرر من قبل، فحكومة مدعومة من القائمة العربية المشتركة هي خطوة كانت لتُعد تاريخية في تاريخ إسرائيل السياسي.