عام 1848: حين فجّرت البطاطس ثورات الربيع الأوروبي
لربما سيكون من المضحك أن يكون كاتب التاريخ الذي نتندر دائماً بوجوده على قيد الحياة طوال تلك القرون، ليخبرنا أن صفحات التاريخ أحياناً تستنسخ بعضها البعض بصورة مذهلة يعجز أبطالها أنفسهم عن تصديقها.. سيخبرنا كاتب التاريخ عن موجة الربيع الأوروبي وسنوات الثورة التي انتشرت كموج جارف في كل دول أوروبا كعدوى فيروسية كُتب عليها الموت مبكراً.
أثر الفراشة
ربما سيكون من الصعب أن نستطرد في القصة التي دفعت دول أوروبا مجتمعة لإشعال ثورات متتالية في مختلف مدنها من دون أن ندرك أمام أعيينا نموذجاً حياً لفراشة رفرفت بجناحيها في شارع ضيق، لتثير عاصفة ضربت عدة عواصم.. فمثلما كان انطلاق الحراك الثوري في تونس في نهايات عام 2010 محركاً لثورات الدول العربية التي ما زال أثرها باقياً حتى الآن، فقد كانت أوروبا في أربعينيات القرن التاسع عشر على موعد مع ربيع ثوري انتهى بالموت خلال سنوات قلائل.
لم يكن حراك الثورة الأوروبي وليد لحظته، بل قادت إليه العديد من الظروف خلال السنوات السابقة لها، من حيث العوامل الاقتصادية والسياسية بل والمفاجأة أن الثورة الصناعية كان لها أثر ملموس في اندلاع تلك الثورات.
بإمكاننا أن نحدد نقطة البداية من عام 1839 حينما واجهت العديد من الدول الأوروبية أزمة محاصيل طاحنة حرمت تلك البلدان من القمح والشعير والبطاطس، تسببت خلال سنوات الأربعينيات في مجاعة قاسية سحبت كثيراً من رؤوس الأموال من الاستثمار في الزراعة ليتعرض الفلاحون في مختلف المدن الأوروبية إلى واحدة من أكبر الأزمات الاقتصادية في تاريخهم.
أصبحت الصناعة في ذلك الوقت أكثر رواجاً وأكثر جذباً لاهتمام أصحاب الأموال، وزاد الإنفاق على مشروعات إنشاء الطرق وتوسيع الصناعات، وصارت العمليات الزراعية الأقل اهتماماً، وهو ما دفع كثيراً من سكان الأقاليم الانتقال إلى المناطق العمرانية والقبول بوظائف صناعية قاسية لمدد تصل إلى 14 ساعة يومياً في مقابل يكفي بالكاد للطعام والشراب.
تزامن ذلك مع الوقت الذي بدأت المفاهيم السياسية بشكلها الجديد على مواطني دول أوروبا تنتشر في الشارع وتسترق أذان المستمعين، فكانت مفاهيم الليبرالية والشيوعية والإصلاحات الدستورية وقيام الجمهورية بدلاً من الملكية وغيرها من المفاهيم بمثابة صدمة لتلك المجتمعات التي عانت من الفقر والإذلال لصالح طبقة البرجوازية المستحوذة على كافة المقدرات.
تدهورت الأمور بشكل سريع وصار المجتمع أشبه بكتلتين متنافرتين بشكل حاد، كتلة تملك المال وتخشى عليه من السرقة والنهب، وكتلة لا تملك ما تقيم به أودها لتبقى على قيد الحياة، حتى حلت لحظة الانطلاق.
من دون تخطيط!
يروي الباحث Mike Rapport في كتابه 1848 Year of Revolution أن كافة التظاهرات التي انطلقت في مختلف مدن أوروبا لم تكن تحمل أي تنسيق مشترك بين الدول، ولم يكن هناك أي تخطيط مسبق يحدد حركتها أو سياقها، فقد انطلقت بشكل عفوي بالكامل من أهل المدن.
كانت المفاجأة التي أعجزت الجميع عن الفهم أن تنطلق التظاهرات في 50 مدينة أوروبية من دون أن تحمل أي شيء من التنسيق الدولي كأن يحرك تنظيم سياسي ما تظاهرات عابرة للحدود، لكن المفاجأة أنه لم يكن هناك أي من ذلك، كان الأمر انفعالياً وحسب.
خلال عام 1846 ضربت فرنسا أزمة اقتصادية طاحنة بجانب قرار قطع العلاقات مع بريطانيا وامتدت تلك المقاطعة لتشمل عدة دول أوروبية أخرى وهو ما أصاب فرنسا في تلك المرحلة بعزلة خانقة، وقد كان السبب الرئيسي لذلك هو الضغط الإنجليزي وحلفاؤه لمنع تشكل أي جمهورية في فرنسا خشية امتداد ذلك لبلادهم.
وصلت الأمور في عام 1848 في فرنسا إلى ذروتها، حيث أصدر رئيس الوزراء فرانسوا جيزو قراراً بمنع الاجتماعات السياسية، وظل الحظر سارياً حتى تجدد في 21 من فبراير لتخرج حشود المتظاهرين في 22 فبراير واستدعى القصر الملكي الحرس الوطني لمواجهة التظاهرات لكنه رفض المواجهة وانضم للمتظاهرين.
مساء اليوم التالي تجمع 600 شخص أمام مقر وزارة الخارجية الفرنسية وحاصروا مدخلها، فصدرت الأوامر من الحرس بالتزام الحدود وعدم الاقتراب من مقر الوزارة لكن المتظاهرين رفضوا القرارات واستمروا في التقدم والضغط لاقتحام مقر الوزارة، مما دفع الحرس للتخلي عن كافة الأوامر الخاصة بعدم الاشتباك وفتحت النار عشوائياً لتقتل 50 متظاهراً.
تحركت الحشود في ذلك اليوم وهاجمت عدداً من الثكنات العسكرية في باريس واستولت على ذخائر وهاجمت نقطة حماية عسكرية في باريس وهرب منها الجنود وبحلول ظهيرة اليوم التالي أدرك الملك لويس فيليب أن الأمور لن تستمر على هذه الشاكلة ليقرر التخلي عن العرش لصالح حفيده وسمح في ذلك اليوم بتشكيل حكومة مؤقتة من 11 شخصاً لتكون بمثابة إعلان عن الجمهورية الفرنسية الثانية.
وفي المدن الجيرمانية أو ما يعرف بألمانيا الآن والتي كانت تتشكل من 39 ولاية ألمانية اجتمعت في وحدة جرمانية بموجب اتفاقية برلمان فيينا، انطلقت تظاهرات تطالب بإصدار بميثاق حقوقي في 27 فبراير 1848 واستجاب حكام المدن ولم تتطور المطالب الجرمانية لما هو أكثر من ذلك.
لكن التطور الذي وقع في فيينا في الشهر التالي من تظاهرات ثورية دفع المدن الألمانية للمزيد من التحركات وخرجت المزيد من المطالبات الخاصة بالإصلاح السياسي فصدر قرارات في 8 أبريل للسماح بالتصويت العام والاقتراع في الانتخابات.
امتدت المطالب الثورية إلى مدن مختلفة وفي كل مدينة حصلت على طابعها المختلف، ففي النمسا خرج المتظاهرون ليطالبوا بسقوط النظام الإمبراطوري وتشكيل نظام حكم جمهوري يمتلك فيه الجماهير الحق في الحكم، وفي إيطاليا على سبيل المثال طالب متظاهرو سيشل بنظام حكم ذاتي بعيداً عن نظام الحكم الملكي، وقد نجحت في تحقيق مطلبها ليتسع الأمر نحو مدينة ميلان وتُطرد حامية نمساوية عسكرية من ميلان قدرها 20 ألف عسكري.
فيما شهدت الدانمارك النجاح الأكبر بسقوط الملكية بصورة عجز الدانماركيين أنفسهم عن تخيلها فقد توفي الملك في يناير من عام 1848 وبعدها بشهرين خرجت مظاهرات قدر المشاركون فيها بأكثر من 20 ألف شخص في العاصمة ليسقطوا نجل الملك وإجبار نظام الحكم على تسليم الحكم لحكومة وزارية.
وماذا بعد؟
يخبرنا مايك، أن حالة الانتشاء التي منيت بها ثورات أوروبا لم تكن سوى محض انتصار وهمي مؤقت لم يدم طويلاً، ففرنسا وبعد أن أعلنت الجمهورية الجديدة عيّن نابليون بونابرت المنتخب ديمقراطياً نفسه رئيساً مدى الحياة ثم أعلن نفسه إمبراطوراً ولم تستطع فرنسا أن تحقق حلم الجمهورية مرة أخرى سوى في عام 1870 أي بعد عقود طويلة.
وفي ألمانيا تحديداً هانوفر وبروسيا استعادت طبقة النبلاء كافة امتيازاتهم ولم تحصل ألمانيا على وحدتها القومية إلا في عام 1871.
وعلى الرغم من فشل كافة الثورات الأوروبية في تحقيق تغيير سياسي حقيقي دائم، فإنها قدمت بعض المكتسبات، حيث أصبحت الحكومات أكثر اهتماماً بضبط نظام الإدارة وجعله أكثر فعالية، وألغت بروسيا والنمسا نظام الإقطاع لتحسين حياة الفلاحين، وحصلت هولندا والدنمارك على إصلاحات اقتصادية ومجتمعية دائمة.
يضيف مايك في كتابه أن فشل ثورات 1848 كان وليد حالة التشتت والتنظيم الذي احتاجته تلك الثورات فهي افتقرت إلى القيادة وإلى وجود هدف موحد نظراً لتضارب النزعات بين الجمهوريين والشيوعيين، وافتقاد الدعم لجيوش تلك الدول مما جعلها حركات ثورية هشة في مهب الريح، أطلقت جرس إنذار في أوروبا لكنها كانت تحمل شهادة وفاتها منذ ميلادها.