اثنا عشر قرداً يخبرونك عن عالم ما بعد الوباء
قطيع من الأفيال يمشي بحرية في وسط شارع في تايلاند التي تشتهر بازدهار الحياة البرية، تعود البجعات البيضاء الجميلة لأنهار إيطاليا مستغلة غياب الرحلات النهرية والسياح، تنتشر الصور ومقاطع الفيديو التي تكاد تكون سريالية بسبب كونها خارج توقعات المكان، فبعد أن أجبر معظم سكان العالم على تقليل حركتهم وتنقلاتهم في الشوارع والتزامهم بالبقاء في منازلهم خشية أن يصبحوا حاملين محتملين لفيروس كورونا المستجد، وجدت بعض الكائنات الأخرى شريكة الكوكب فرصة للتنقل بحرية أكبر، أو على الأقل عدم الاختباء، تتلقى تلك المقاطع ردي فعل متناقضين، أحدهما يتأمل كيف أن كوكب الأرض يثأر لذاته لهوائه ومائه وحياته البرية، يحبس الإنسان في مساحة محدودة بعد أن كان الحيوان كذلك، رد فعل آخر يشجب الاحتفاء المدعي بعودة الحيوانات إلى المدن على حساب مأساة الإنسان والشماتة في موته ودماره.
تسعى عصابة الاثنى عشر قرداً للقضاء على أكبر عدد ممكن من البشر لكي تخلو الأرض لسكانها الأصليين من الحيوانات، الأليفة منها والبرية، عن طريق صنع فيروس عضوي مميت ومعد يصعب الفرار منه، يقود العصابة أحد نزلاء مستشفى للأمراض العقلية، شخص عصبي مفرط النشاط والحركة، يسعى للحرية ويثير الشغب دوماً، وعند نجاح خطة الإبادة تنتشر الأسود والنمور والدببة في شوارع خالية من كل حياة بشرية، حدث بالفعل أن تم تصوير قطيع من الأفيال في تايلاند وأسراب من الطيور في إيطاليا في عام 2020 الذي نعيشه، لكن كون ذلك من صنع جماعة متمردة هو من خيال المخرج تيري جيليام وكتاب السيناريو ديفد وجانت بيبولز.
حرب تلائم العالم المعاصر
في عام 1962 صنع أحد مخرجي الموجة الفرنسية الجديدة والتي تميزت بالتجريب وتحرير السينما من كل قيد فيلماً قصيراً بعنوان «المحطة La Jetee» ، تقع أحداث الفيلم في مستقبل متخيل، حيث قامت حرب عالمية ثالثة، قضت على معظم سكان العالم، تبدو كحكاية مستقبلية عادية، لكن في قلبها حكاية شخصية تماماً، وتأملات في مفاهيم مجردة مثل الوقت والذاكرة البشرية، ففي النهاية تجربة أن يعيش الإنسان على حافة النهاية هي تجربة شخصية يستدعي فيها ما كان وما كان من الممكن أن يحدث لولا أن حدثاً معيناً قرر وضع نهاية للعالم كما نعرفه، يستكشف الفيلم مناطق شائكة مثل المراقبة والتحكم وقيم الحرية والإرادة.
في عام 1995 رأى ستوديو يونيفريرسال إمكانية لصنع قصة هوليوودية مشوقة من فكرة فيلم المحطة، أوكلت المهمة للمخرج المعروف ببصرياته المميزة وكوميدياه السيريالية «تيري جيليام»، صنع أفلام الديستوبيا «المستقبل القاتم» ليس جديداً على جيليام ففي عام 1985 صنع الفيلم الذي يمكن اعتباره الأهم في مسيرته «برازيل»، صنع جيليام فيلم «اثنى عشر قرداً 12 Monkeys» من إرث فيلم «المحطة» لكنه بنى عليه طبقات سردية وفكرية أكثر معاصرة وأكثر ملاءمة للجمهور العام.
يمكن اعتبار الفيلمين أفلاماً عن العالم بعد انهياره، لكن في الستينيات كان الخوف الأكثر إلحاحاً هو قيام حرب أخرى أما في التسعينيات كانت المخاوف الأكبر متعلقة بالتكنولوجيا والأمراض.
يحكي الفيلم قصة جيمس كول، سجين في مجتمع تحت أرضي يديره مجموعة من العلماء، بعد أن محى فيروس مميت أغلب سكان الأرض، يتم اختياره للسفر عبر الزمن ليسترجع عينة نقية من الفيروس قبل تحويره لكي يخلق منه العلماء جسماً مضاداً ويستعيدوا السيطرة على الأرض بعد أن اجتاحها الوباء وأصبحت ملكاً للحيوانات، يبدو تفسير صنع فيروس خصيصاً للقضاء على البشر لصالح الحيوانات ملائماً لنظريات المؤامرة التي يعلو صوتها من حين لآخر لكن تيري جيليام ومن قبل بداية فيلمه يتبنى فكرة جنون العالم بحاضره وحتى مستقبله، فمحاولات الحفاظ على البيئة تأتي على لسان شخص مختل على الرغم من منطقية المبدأ بشكل ما لكنها فكرة انتحارية ومجردة من التعاطف الإنساني.
تتجلى بشاعة الفكرة بصرياً في تصوير أطلال أرض سكنها الإنسان يوماً، تحفه الفنية والمعمارية بعد أن هجرها، ملابس الأطفال وقاعات الملاهي، بقايا الحياة بعد أن غلفها الموت، في اثني عشر قرداً لا توجد رومانسية في احتلال الحيوانات البرية للأرض، فهي ليست مساحات خضراء وغابات شجرية، بل مبان ومنازل وكنائس سكنها وتعبد بها الإنسان في يوم ما، فيبدو الوضع الحالي غرائبي وموحش وخارج الزمان والمكان.
سجن الحاضر والماضي والمستقبل
تتعامل السينما بشكل متكرر مع مصحات الأمراض العقلية كمجاز للحاكم والمحكوم، أو للبحث عن الحرية والخلاص من السلطة، نرى ذلك بأوضح شكل في فيلم «أحدهم طار فوق عش الوقواق One Flew Over Cuckoo’s Nest» لميلوش فورمان، لكن كون العالم مهدداً في اثني عشر قرداً فالسلطات لها الحق الكامل في التصرف حتى وإن كان ذلك على حساب الأفراد وإرادتهم، عندما يكون العالم في خطر فإن الحياه الفردية لا تهم، قلة لا تزال على قيد الحياة من سكان الأرض في العالم المستقبلي لكنهم منقسمون إلى سجناء وسجانين، سجناء تحت أعين سلطات عليا تتحكم وتراقب تصرفاتهم بشكل دائم.
تركز تصميمات الفيلم البصرية على فكرة العين المراقبة وربطها بالتكنولوجيا مثل التلفزيون وغيره من أدوات لي الإرادة والتوجيه، وعندما تختار مجموعة المراقبين جيمس كول للذهاب في رحلة عبر الزمن يقابل في الماضي بمزيد من القيود نظراً لعنفه وقوته الجسدية، ينتقل من سجن حاضر ما بعد الوباء إلى سجن الشرطة في الماضي ثم إلى سجن مستشفى الأمراض العقلية، تتكرر المشاهدة المتوازية بين المستقبل والماضي، ليس لجيمس سيطرة على جسده، في واقعه الذي تسيطر عليه الجراثيم والخوف يخرج في رداء محكم الغلق ويعود تحت الأرض ليحممه السجانون بعنف خوفاً من أي إصابة بالفيروس، عندما يعود إلى الماضي نرى نفس المشهد مرة أخرى بنفس القدر من العنف كإجراء لإدراجه في المستشفى.
في كل من الحجر الصحي الإجباري والإدراج في المستشفى بشكل جبري أيضاً لا يسمح لأحد بالتواصل مع العالم الخارجي، في مقابلته الأولى مع جوينز الرأس المدبر لصناعة الفيروس وأحد نزلاء المستشفى، يريد كول أن يبلغ سجانيه العلماء بالمعلومات التي حصل عليها لكن يخبره جوينز أن استخدام الهاتف هو اتصال بالعالم وبالتبعية ممنوع، يخبره أنه إذا تحدث كل نزيل هنا في الهاتف فسوف ينتشر الجنون كالوباء، يصنع الفيلم متوازيات متكررة تؤكد فكرة انعدام الحرية والتحكم الخارجي في الأفراد، حتى أن سلامتهم العقلية ليست بأيديهم.
يتبنى جيليام وجهة نظر المريض العقلي من بداية فيلمه، فالكلمات التي تشرح حال العالم المستقبلي وموت المليارات هي على لسان أحد مرضى الفصام، يرسخ كول منذ البداية كمريض محتمل، لكن الأفلام تضع بطلها في موضع الاستثناء على الدوام. في داخل المشفى يوجد مريض آخر يتخيل مستقبلاً زمانياً ومكانياً مختلفاً عن واقعه، لكن كول بطل القصة رأيناه في المستقبل ونعلم بشكل أكيد أن الوباء واقعه، وفي أوقات مثل التي نعيشها الآن يصبح التماهي معه أسهل، فما نعيشه بالفعل يبدو كخيال مريض فصام، وربما نريد مثله أن نعيش في الماضي نستنشق الهواء الملوث لكن الخالي من الفيروسات ونستمتع بالمياه والشوارع ووسائل المواصلات حتى إن لم يجعلنا ذلك في عالم أفضل حالاً.
يطرح الفيلم رؤية لعالم لا يستحق الرجوع إليه بشكل حقيقي، لكن جيمس كول يتشبث به في لحظة ما على أي حال، يجد حريته العقلية لدقائق ويحاول الهروب من السيطرة الواقعة على وعيه، يهرب بشكل حرفي خارج الزمن، لا يهتم بإنقاذ العالم الآن لكن يريد فقط أن يعيش فيه، أن يعيش في الحاضر وأن يبقى المستقبل مجهولاً، لا تهدده الأوبئة والفناء.
يا له من عالم رائع
يشدو لوي أرمسترونج برقة من خلال راديو سيارة دكتورة رايلي التي اختطفها جيمس في محاولة لإيجاد حلول لإنقاذ العالم، «وأفكر داخلي، يا له من عالم رائع»، يستمع جيمس إلى الموسيقى متأثراً بالغناء عن خضرة الشجر وزرقة السماء، إنها أشياء لم يختبرها منذ كان طفلاً، يريد أن يعيش فيها مهما كلف الأمر، حتى وإن وصل ذلك إلى اعترافه بالجنون وتسليم نفسه للسلطات، يملك رغبة خالصة في العيش في الماضي واعتباره حاضراً، حيث يمكن الإحساس بمياه البحيرات، والهواء يلمس الجلد ويحييه، الشمس ساطعة ودافئة والموسيقى تثير الحماس والمشاعر.
العيش في حاضر يحبك فيه أحدهم ويؤمن بك، رغبة في اختبار ما يجعل الأرض قابلة للحياة من الأصل، العودة لما نعرفه هو الخيار الأكثر أمناً، حيث الماء والهواء والحب، يفضل جيمس سردية فقدان العقل على فقدان البشرية قدرتها على الحياة حتى وإن كان هذا هو المستقبل المحتوم، بدلاً من محاولات إثبات صحة نظرياته في وجه المنكرين لها، يفضل جيمس كول أن يكون واقعه مجموعة من الهلاوس كما قالت طبيبته وكل من قابل عندما سافر بالزمن، يفضل أن يتوقف عن القتال في سبيل تنفيذ خطة علماء المستقبل وأن يعيش في لحظة ما حيث لم تكن البشرية مهددة حيث بإمكانه أن يكون مع الفتاة التي يحب وأن يرى المحيط والنجوم وأن يستمع لموسيقى القرن العشرين.