ليالٍ عشر مع «المتنبي»
كتب «خالد الكركي» دراسة عن «المتنبي» بقلم شاعري وروح درست حياته، أما العنوان فهو إحياء لكتاب أستاذه «محمد عبده عزام» الذي ألف كتابًا أسماه: «ليال خمس مع أبي تمام»، والذي أطلق فيه لروحه العنان، بعيدًا عن نكد الدراسات الأكاديمية. وكتاب الكركي بديع، فهو محاورة بين المؤلف والمتنبي، يسأل الشاعر ويناقشه، يرى المؤلف المتنبي على قلق، ولكنه أيضًا ضجر ومتكبر وصادم. وأنا أقرأ الكتاب كنت أقف مشدوهًا من تلك الأسئلة التي جالت بخاطري عن حياة المتنبي شاعر العربية. أسئلة المؤلف مدعومة بأبيات المتنبي حتى تقرأ النص بعذوبة بالغة.
المتنبي غريب الوجه واليد واللسان، والسهم الذي لم يعد، وفي بداية الكتاب يحاول المؤلف أن يعرف بنفسه، فيقول إنه: ليس الذي نظر الأعمى إلى أدبي، ولا الذي إذا قال شعرًا أصبح الدهر منشدًا، ويحكي للمتنبي أنه ألف كتابًا عنه بعنوان: «الصائح المحكي»، سيذكر المؤلف المتنبي برائعته في مدح سيف الدولة، والتي يراها تفوق كل مدحه لكافور:
ينكر المؤلف الحكمة على المتنبي، ولا يجدها الفهم المناسب له ولا لقصيدته. آخر وصف للمتنبي أنه حكيم، والذي ظنه الناس حكمة، هو شيء من ارتطامك بمشهد الحياة، وهو يطارد خيلًا من فوارسها الدهر.
يحاول المؤلف الإمساك بتلابيب شخصية المتنبي المبثوثة في أبياته، هذا الوحيد من الخلان في كل بلدة، العذري، وصاحب العفة، لما قال:
أبانا الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، لنحاول أن نراه بعيدًا عن تحليل شخصيته، لنقرأه من خلال أبياته، وسيرة المؤلف معجونة بحياة المتنبي وأبياته. يقول الكاتب أقف أمام ضريح أمي وأردد:
يريد المتنبي أن يكون الشاعر الأوحد وأن نلغي من سواه، يريدنا المتنبي أن نراه وسط معركة: تطاعن خيلًا من فوارسها الدهر، وأحيانًا: «وحِيدًا، ومَا قَوْليِ كَذا! وَمَعيِ الصَّبْرُ»، وأحيانًا أخرى: «يُحاذِرُنيِ حَتْفِيِ كأنِّيَ حَتْفُهُ»، وأحيانًا أخيرة:«ما أَبْتَغــيِ جَلَّ أَنْ يُسْمَى».
نرى المتنبي في هذا البيت:
يقول له في البيت الأخير: لك ما أردت، وكما يقول الأستاذ «محمد مختار خليل»، إن المتنبي قال: «تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن»، لكن رياح أحوال المتنبي أتت بما تشتهيه سفنه، وبقي من الخالدين، المتنبي الذي صدعنا بأناه المتضخمة، نسمعه وهو يقول: «والدهر من رواة قصائدي، وأنا السابق الهادي إلى ما أقوله، وأنا الصائح المحكي، وأنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي، وأنا صخرة الوادي، وما أحد فوقي ولا أحد مثلي، وترب الندى ورب القوافي، ومن لو رآني ماء مات من ظمأ»، إلى غير ذلك من تهديد لملوك العرب والعجم، إلى أن يصل إلى:
فضلًا عن كونه يحاذره حتفه كأنك حتفه، وكأنك دحوت الأرض، لكن هذا هو المتنبي النهاري، يحضر في المساء متنبي آخر، يذهب بإرادته إلى كافور، ويقول: «كفى بك داء أن ترى الموت شافيًا»، ويغادره وهو ينشد: «أريك الرضا لو أخفت النفس خافيًا»، ثم يحاوره أو يحاكمه على شعره في كافور ويضعه على السفود، ثم يسأله عن مدحه لعضد الدولة وشعره السقيم فيه، ويضع أمامه الدليل بالأبيات، أمسك نفسي أن أنقل كل المداولات والخطبة الطويلة التي يقدمها خالد الكركي، لما يقارن مدح «حسان» أمام «النعمان» بالمتنبي، ويسأل المتنبي كان لك سيد وسيف، ولم يكن لك عشيرة أو دولة.
يسأل الكاتب المتنبي، لما ترددت في البوح وهو سيد الشكوى من الزمان والحكام، عن الحبيب:
ثم يكمل نصه الشاعري ويسأل، وكلما شرقنا بالماء ونحن بين يدي الحبيب ذكرناك، ألم تقل:
ترب الندى ورب القوافي ومن شرفت قومه به، وبنفسه فخر لا بجدوده، والذي لا أحد فوقه ولا أحد مثله، هذا وهو في أول الشباب، لا يعاني من الوجد وذل الحب، لكن قصيدته في «علي بن أحمد الطائي» تشي بشاعر عذري كبير:
هي السيف والمجد والخيل، التي شغلت عقل وبال المتنبي، لا موجعات القلب، ولا الكف التي تندى إذا ما لمستها، ولا ليلى الأخيلية التي لو سلّمت عليك، ودونك تربة وصفائح، لسلّمت تسليم البشاشة. يتمثل لنا المتنبي بالقوة والفخامة والضجر والقلق، كأنه لم ينكسر في العيد، وينفجر حنينًا وهو يقول:
لا يقول لنا المتنبي من تلك التي «جفتني كأني لست أنطق قومها»، ويسير مثل الأسد الذي لا يعرف التحريم والتحليل، والذي يطأ الثرى مترفقًا من تيهه، هذا هو المتنبي، لا الأسد، ولا بدر من عمار، وهو عندما يمدح «عبد الله بن يحيى البحتري»:
يذبحنا المتنبي، لأنه يضع النص الرائع في غير أهله! ولا يصف صاحب الأبيات بل يصف نفسه، مبالغات المتنبي تقوده لشيء غير مفهوم، أليس القائل:
فلماذا يضع المتنبي نفسه تحت أخمص غيره؟ ينتقل المؤلف في الكتاب من مساءلة المتنبي إلى ملاحظات كثيرة على حياته، لا يحسن بها التلخيص ولا الإشارة، فهي هناك على أكمل وجه، إنما أكتب لأني أحب أن أشارك الناس ثراء حياة المتنبي وشعره وفنه، وجمال هذا النص البديع الذي كتبه دارس مهم لشعر المتنبي، وستجد في الكتاب أسئلة عديدة مثل: لماذا الإصرار على دراسة حياة المتنبي والنأي عن دراسته من خلال شعره؟ ويورد كلمة لـ«إحسان عباس» أن السبب هو: الذعر الجميل.
النص محاورة بديعة بين الناقد والشاعر، يقول له: هل تقبل أن أمدحك بما قلته في «عبد الرحمن بن المبارك الإنطاكي» مقابل أن تتركني أكتب عنك بحرية، بدون أن يحضر ظلك على النص؟
ثم يقسم له أن سيف الدولة لم ينل شطر بيت مثل هذا، ويرى المؤلف أن قصائد المتنبي الشاميات أعلى من السيفيات، ويستدل على رأيه بأبيات من قصيدة عالية في ذرى الجمال والشعر والإيقاع:
المتنبي المسكون بوجع الحساد وضجر الإقامة قرب كافور، وهزيمة الروح يوم وجد حكام بغداد على ما هم فيه، كأن لا خليفة لهم، و«سوى الروم خلف ظهرك روم».
أشعر بأني حرضت القارئ على أن يقرأ كتاب «خالد الكركي»؛ ففيه نقاشات بديعة، والنص يكشف عن ثقافة رفيعة في أدب العرب، وهو نص ذاتي يترك الكاتب العنان لنفسه، ستصيبك الدهشة وتعود للديوان وللمتنبي، وقد تحزن وأنت يحز في نفسك تذكر بطولات العرب في زمن الضعف، هذا الذي يحدث في الروح لما نقرأ شعر هذا المتنبي الجنبي العبقري، أصوات الفرادة والأنا تعلو، والمعارك وسنابك الخيل، وتنهدات من المتنهد الأول.
الكتاب فيه إشارة لمراجع وكتابات عن المتنبي، بداية من القاضي «الجرجاني» في كتابه «الوساطة» إلى «عبد الرحمن السقاف» في «العود الهندي عن أمالي في ديوان الكندي»، وإشادة ببعض الدراسات مثل دراسة «حسن الإمراني» عن دراسات المستشرقين عن المتنبي، وكتاب «أطلس المتنبي» لـ«يوسف الشيراوي»، ودراسة «عبد الله الجبوري» عن المتنبي، وكتاب «الطيب صالح» في «صحبة المتنبي ورفاقه»، مع إشارة لدراسة «ماسينون»، «المتنبي إمام العصر الإسماعيلي»، و«بلاشير»، و«أبو العلاء المعري»، ويذكر ويناقش شراح الديوان القدامى، الآباء المؤسسين كما يطلق عليهم.